اتسم الحديث عن التنمية بالتركيز أساساً على مكونها الاقتصادي. ويرى بعضهم ان التنمية تعني تغيراً نوعياً في بنية الاقتصاد نتيجة تنوع الأنشطة الاقتصادية وتعددها والمكانة المتزايدة الشأن التي يأخذها تدريجاً قطاع الصناعة التحويلية. وكانت الفرضية أن التنمية الاقتصادية ستجر في أذيالها التنمية الاجتماعية والتقدم العلمي والثقافي، وبالتالي التحديث. ومع ذلك ظل المقياس الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية هو معدل الزيادة في اجمالي الناتج المحلي، وهو مقياس كمي يقصر عن الاحاطة بتغيرات بنية الاقتصاد. وحتى على المستوى الكمي الخالص ثبت أنه مقياس مضلل يختزل أموراً متعددة ومتنافرة من حيث الدلالة في نسبة بسيطة. لذلك فإن التنمية الاقتصادية الاجتماعية هي عملية النمو الاقتصادي المرتكز على جهد الانسان والموجه لتلبية حاجاته. ويرى بعض الاقتصاديين ان مقياس كفاءة التخطيط هو مقدار نجاح التنمية، معبراً عنه عادة بالمعدل السنوي لنمو اجمالي الناتج القومي. ولكن حقيقة الأمر أبعد من ذلك. إذ حقق معظم الدول العربية معدلات عالية أو معقولة لنمو اجمالي الناتج المحلي خلال الأعوام العشرين الماضية، ومع ذلك يحيط التخلف بنا من كل جانب. من الوهم أن تزدهر صناعة حديثة متقدمة على يد شعب أمي. ومن العبث الكلام عن انتاجية العامل إذا كان سوء التغذية جعله ضعيف البنية، وسوء ظروف المعيشة يصيبه بكثير من الأمراض. ولن يغير فرض اسلوب الحياة الغربية في شكلياته ومجاريه معالم حضارته في جعله يقفز إلى صفوف الشعوب الأوروبية. لذا تكون التنمية شاملة أو لا تكون، وهي مشروع مجتمعي من أعماق الشعب لتجديد حضارته. ومنذ بدأ الحديث في الغرب عن التنمية، اقترن ذلك بحكم قيمي ايجابي مؤداه أن التنمية أمر طيب وغاية تسعى إليها كل شعوب العالم الثالث. هناك علاقة بين استمرارية التنمية وسرعتها وبين الأنماط الانتاجية المنبثقة عنها. وكما هو معروف، فإن الدول التي مرت في مراحل التصنيع قبل الحرب العالمية الثانية تركز التصنيع فيها في البداية حول صناعة النسيج، ومن ثم الحديد والصلب والصناعات الهندسية، ثم ظهرت الكيماويات والمنتجات الكهربائية، ومن ثم الصناعات المتمركزة على الالكترونيات والالكترونيات الدقيقة والكيمياء الحياتية. أما الدول النامية التي بدأت التصنيع بعد الحرب العالمية الثانية، فإنها حاولت أن تقلد الدول التي سبقتها في مجال التصنيع، فبنت معامل الحديد والصلب والمصافي ومصانع لانتاج المنسوجات والملابس، إضافة إلى السلع المنزلية المعمرة وغيرها من الصناعات التي دخلت أخيراً في الهيكل الانتاجي للدول الصناعية. أما في الوقت الحاضر فيمكن، مثلاً، إقامة صناعة هندسية من دون انتاج الحديد والصلب، ويمكن إقامة صناعة بتروكيماوية من دون انشاء مصافي النفط. إن الهيكل الصناعي للأقطار العربية نتيجة حتمية لسياسات واستراتيجيات التنمية الصناعية التي اتبعتها الأقطار العربية، والتي ركزت على السلع ذات التقانة البسيطة التي تجد لها سوقاً داخلية واسعة، وهي بالأساس السلع الاستهلاكية الغذائية والنسيجية، إضافة إلى استغلال بعض المصادر الطبيعية المتوافرة في المنطقة بكثرة لانتاج سلع وسيطة بهدف التصدير إلى الأسواق الخارجية، خصوصاً الأسمدة البتروكيماوية ومشتقات مصافي النفط. أما السلع الرأسمالية، خصوصاً انتاج المكائن والأجهزة والمعدات، فلم تحظ بأي اهتمام. ونستنتج من كل هذا ان الهيكل الصناعي العربي لا يزال يعاني اختلالاً كبيراً في بنيته، وضعفاً شديداً بالنسبة إلى بعض الفروع الصناعية الأساسية التي تنتج السلع الرأسمالية، وهي عادة القطاعات التي تؤمن مستلزمات الاستمرار الذاتي في التنمية الصناعية، وتضفي على الاقتصاد درجة من المرونة، بمعنى تسهيل التحرك من قطاع إلى آخر، ومن فرع صناعي إلى آخر كإستجابة للتغيرات الاقتصادية الخارجية والداخلية. ويمكن القول إن الصناعة العربية لا تزال بعيدة عن الوضع الذي يمكن ان تقوم فيه بتأمين مستلزمات الاستمرار الذاتي في التنمية الاقتصادية. ولهذا، فإن النهضة الصناعية السريعة المطلوبة في الوطن العربي ينبغي أن تصاحبها تغيرات هيكلية في بنية الصناعات التحويلية العربية باتجاه زيادة نسبة مساهمة الصناعات الرأسمالية.