رسمت الحدود الاصلية لجنوب السودان خلال حقبة الاستعمار. وعلى رغم ان هذه الحدود أعيد ترسيمها لمصلحة الشمال بعد الاستقلال، الا ان الجنوب لا يزال يشكّل 30 في المئة من مساحة هذا البلد. ويعود آخر مسح سكاني أجري في السودان الى العام 1982، أي قبل اندلاع الحرب الاهلية الحالية، وكشف أنّ سكان الجنوب يشكلون 25 في المئة من الشعب السوداني. الا ان الجنوبيين يقولون ان هذا المسح أتى لمصلحة سكان الشمال مؤكدين انهم يشكلون الغالبية الحقيقية. يفتقر السودان الى احصاءات رسمية. الا ان معظم الترجيحات تؤكد أن نحو مليون شخص ماتوا في الصراع القائم فيما هجّر اربعة ملايين من منازلهم. وعلى رغم مساحة الجنوب الشاسعة، لا يتمتع أي مكان بالسلام الحقيقي، كما لا تتوافر أي صناعات، وفشل المزارعون في انتاج محاصيل جيدة في ظل عدم الاستقرار وندرة المستلزمات ذات الصلة. وكانت حياة العديد من سكّان الجنوب أقرب الى البدو الرحّل الذين يرعون قطعاناً كبيرة من الماشية. وبالنسبة الى بعض القبائل، كانت الماشية مهمة جدا لأنها كانت مصدر الثراء والراحة. في العديد من المناطق، هربت الحيوانات بسبب القصف او نفق بعضها جراء المرض. ففي منطقة كونغور في بور، نفق أكثر من 500 الف بقرة وعدد مماثل من الماعز خلال الصراع عام 1992. ويمثل معظم الارض في الجنوب تناقضاً فاقعاً مع الارض الواقعة في الشمال. ولسخرية الاقدار ان الماء الوافر في الجنوب يسبب العديد من المشكلات. فتربة القطن السوداء بالكاد تمتص مياه الامطار فيما تفيض الانهر. ولا يتمتع الجنوب بسدود ولا جسور. وفي بعض المناسبات، تتوافر المركبات للمدنيين فيما الوقود شحيح وباهظ الثمن. أما السكّة الحديد الضيقة التي تفتقر الى الصيانة فتمتد الى "واو"، لكنها تعتبر مناطق متنازعاً عليها، ولذلك ينبغي ان تكون الحراسة عليها مشددة. ونتيجة لذلك، لا تستخدمها سوى القوات الحكومية وبعض التجار مرات عدة في السنة. ونادرا ما تستخدم مجاري المياه في محاذاة "ماونتن نايل" وغيره من الانهر الا من قبل الجيش وأحيانا من فرق الاغاثة. بالتالي، لا بد من استخدام الطائرات الباهظة الثمن في معظم الرحلات. وفي عام 1998، انفق نحو مليون دولار اميركي يومياً لنقل مستلزمات الاغاثة جواًً. ويؤدي الضغط المالي غالبا الى استخدام نوع ارخص وأخطر من الطائرات. ففي الاسبوع الماضي، تحطمت طائرة "انتونوف" في رحلتها الى جوبا ما ادى الى مقتل اربعة. وعلى رغم ان الاممالمتحدة وفرق المانحين تحاول تحسين الوضع، الا أن البنية التحتية فقيرة جدا وقد يبقى الوضع على هذا المنوال سنوات عدة حتى بعد احلال السلام. ويسيطر جيش تحرير السودان على الريف وبعض القرى الصغيرة فيما يسيطر على المناطق الريفية الاخرى أكثر من 30 ميليشيا متحالفة مع الحكومة. أما قرى ومدن جوبا وواو ومالاكال الكبرى فتقع تحت سيطرة الجيش الحكومي والقوى الداعمة له. وفي بداية الحرب الاهلية عام 1983، كان جيش تحرير السودان مقتنعاً بأن نصرا سريعا على القوات الحكومية أمر مضمون. وكنتيجة مباشرة، لم يتم تخصيص وقت ولا جهد للعمل على الادارة المحلية او توفير الخدمات الاساسية للمدنيين في المناطق التي تقع تحت سيطرته. وفي ظل عدم الاستقرار هذا، وغياب المنشآت والفقر المدقع، هرب العديد من سكان جنوب السودان الى البلدان المجاورة او هاجروا الى الخارج. ويبرز بين هؤلاء العديد من الافراد الموهوبين والكفوئين الضروريين لادارة المدارس والمستشفيات فيما انخرط البعض الآخر في صفوف المتمردين، او الحكومة. وفي مرحلة معينة، كان يوجد اطباء من جنوب السودان في كينيا أكثر من الاطباء الموجودين في البلاد بأكملها. أما التعليم فكان نادرا وتفاوتت الاولوية والمنهج الدراسي بتفاوت المناطق. وفي غياب التوظيف والنقص في السيولة فان الضرائب التي فرضتها السلطات المحلية في المناطق الخاضعة للمتمردين لم تكن كافية لتغطية نفقات العمال الاساسيين. في الاشهر الستة الاولى من الحرب، اتيح لوحدات الاغاثة الدولية العمل في المناطق الخاضعة للحكومة فقط. وفي العام 1989، توصلت الاممالمتحدة الى اتفاق بين جميع الفرقاء يتيح الوصول الى الجنوب لتوفير المساعدات الانسانية. وعلى رغم بروز مشكلات عدة، حققت عملية "شريان الحياة" نجاحات ملحوظة. وبغض النظر عن الأقسام المدنية والعسكرية في المناطق التابعة للحكومة، من الارجح ان وحدات الاغاثة هي المصدر الاكبر للتوظيف في الجنوب. وفي السنوات الاخيرة، تنبه جيش تحرير السودان الى فوائد التجارة والتعليم. وفي العديد من المناطق، أصبح شراء السلعات الرئيسة والخدمات ممكنا. كما توافرت الانترنت والتلفون في بعض المواقع لكن الشرط الوحيد للحصول على هذه الخدمات هو المال. اما العملة التي ينبغي تبنيها في الجنوب، فهذا موضوع أثار نزاعا حقيقيا. ومنذ بداية الصراع، كانت المقايضة الوسيلة الرئيسة لتبادل السلع والخدمات المتوافرة. وفي الحالات التي تحتاج الى النقد، كان الجنيه السوداني القديم والبرّ الاثيوبي معتمدين. وعند تبديل العملة في بداية التسعينات، كان استخدام الدينار السوداني الجديد محفوفاً بالمخاطر في بعض المناطق، اذ ان المتمردين كانوا يشكون في مصدر هذه الاوراق النقدية، التي قد تكون نتيجة التجسس لصالح الحكومة. في أواخر الثمانينات، بدأت وحدات الاغاثة تدفع للعمال بالعملة الكينية الشلن بأمر من جيش تحرير السودان. وقبل ذلك، كان يتم تسديد اجر العامل بالصابون والثياب والشاي والسكر. لكن على الارجح ان ادارة المتمردين تنبهت الى ان الضرائب ستكون اسهل واكثر مرونة اذا ما خضعت للسيولة. وعلى رغم انها اعفيت من معظم الضرائب، كانت الوحدات تدفع بعض المال بالدولار الاميركي. كثر الحديث عن ادخال جيش تحرير السودان عملته الخاصة لكن لا شيء من هذا حدث حتى الآن وقد لا يحدث في ظل اتفاق سلام. لا يتم تسديد أي اجر لجنود المتمردين فيما معظم المدنيين لا يملكون سوى القليل لمبادلته بالمال. اذا ما تم التوصل الى اتفاق سلام في الاسابيع المقبلة، سيشكل الاجر المناسب للعمل والتجارة قسماً رئيساً من فوائد السلام، او ان الاحباطات قد تنفجر. * صحافي بريطاني.