يحلّ شهر رمضان الكريم فيتغيّر نبض الحياة الأسرية في العالم الإسلامي والعربي. إيقاع جديد يطرأ على دوام العمل والدراسة وحركة السوق والإستهلاك الأسري والواجبات الاجتماعية... وطبعاً إيقاع جديد لنبض التلفزيون، الذي يزداد خفقاناً، مبالغاً خلال العقود الأخيرة في تخصيص برمجة مكثّفة لهذا الشهر. هذا الاستنفار التلفزيوني خلال رمضان ليس وليد صدفة، ولا هو للاحتفال بالشهر الفضيل، إنما تفرضه منافسةُ التلفزيون الأقوى، وربما الوحيدة، التي تشغل الصائمين حتى الهجس بها، ألا وهي "المائدة". تدعّم هذا الكلام الإحصائية الاقتصادية الأحدث التي نشرت تفاصيلها في "الحياة" 16 تشرين الاول/ أكتوبر والتي أظهرت أن العالم العربي ينفق نحو 25 بليون دولار خلال شهر رمضان، معظمها على الأطعمة والمواد الغذائية الأوّلية والكمالية. ولا يخفى أن الجزء الأكبر من وقت الأسرة المسلمة يخصّص للإهتمام بلحظة الإفطار، التي تسبقها مراحل التسوّق والتحضير المنزلي والطهو، ويليها إعداد وتقديم الحلويات، ثم التحضير مجدّداً للسحور. هكذا تنقسم حياة الأسرة العربية إلى ثلاث مراحل رئيسة في رمضان، هي: "ما قبل الإفطار" و"الإفطار" و"السحور"، ينشغل الجميع خلالها بالطعام والمائدة مع ملاحظة أنّ هذا الواقع بعيد عن معاني الشهر الذي أراده الدين الإسلامي شهراً للعبادة والواجبات الدينية من صلاة وزكاة وإحسان.... وتنشط في رمضان اللقاءات الأسرية، الدعوات المتبادلة بين العائلات، الواجبات الاجتماعية والخيرية... كل هذا يتمّ بفضل "جامعة الشمل"، المائدة. تجتمع العائلة بأغصانها وبراعمها، وتتفتح شهيّتهم على الحوار والنقاش المنقطع منذ فترة. ويتحلّق الجميع حول المائدة بعد أن يكونوا قد أمضوا النهار في انتظار هذه اللحظة والتفكير بها، كذلك التحضير العملي لها تسوّق وطهو. المسلسلات... الطبق الرئيس هنا وجد التلفزيون نفسه أمام وضع خاص لمشاهديه. حدّد الهدف المائدة وأصابه بذكائه وعقله التكنولوجي المدبّر. حاربها بأسلحتها، وقلب الطاولة، محوّلاً ما قد يقدّر له أن يكون خسارة إلى مكسب هائل، جاعلاً شهر رمضان الشهر التلفزيوني الأقوى والأنجح والأكثر جذباً للجماهير العربية، ومحوّلاً نفسه إلى مائدة غنية بالأصناف المتنوّعة الجذابة، التي تتفرّد بخاصية جذب المشاهد يوماً بعد آخر، عبر "الطبق الرئيس" المثير لشهية الجمهور، الذي هو "المسلسلات". تليه أطباق التحلية مثل برامج الألعاب والكوميديا والمقالب والفوازير سابقاً. كما أن التلفزيون انتقل إلى المائدة نفسها، ليصبح حديث المتحلّقين حولها، يناقشون مشاكل أبطال مسلسلاته، ويتبادلون الرأي حول هذا البطل أو تلك النهاية... وانتقل إلى المطبخ، حيث يقضي "نصف المجتمع" معظم النهار في التحضير للإفطار. نقلت النساء التلفزيون إلى مطابخهن كي لا تفوتهن المسلسلات الشيّقة، لقناعتهن بأنها تجعل الوقت يمضي بسرعة. لا يلتقط التلفزيون أنفاسه إلا عند مدفع الإفطار، ولمدة نصف ساعة، يمهل فيها الأسرة فرصة التهام الطعام بسرعة، كي ينتقل أفرادها بعد ذلك للتحلّق حوله، حيث يكثّف عروضه حتى ساعات الفجر الأولى، أي وقت السحور، حائلاً، أحياناً كثيرة، بينهم وبين واجباتهم الاجتماعية تبادل الزيارات والدينية صلاة تراويح وتلاوة القرآن الكريم.... ينجح في هذا بسبب تطوّر البثّ الفضائي وتعدّد القنوات الفضائية، وبفضل أزمة السينما المصرية تحديداً، التي هجّرت نجومها إلى التلفزيون آخرهم ناديا الجندي ومخرجيها البارزين خيري بشارة، نادر جلال، محمد خان... كذلك لسبب مهم قوّى وضع التلفزيون، هو المنافسة المصرية - السورية الدرامية. لم يسمح التلفزيون لجمهوره العربي بأن ينشغل عنه في تبادل الواجبات الاجتماعية والعائلية والدينية وحتى الغذائية. فرض نفسه بقوّة في كلّ مكان، صار عنواناً للشهر، صارت مسلسلاته بنجومها ميزة من ميزاته. كما تميّز كل موسم بنجم مطلق خطف الأنظار وشغل الناس، فكان فخراني- "الليل وآخره" نجم رمضان الفائت، ويسرا - "أين قلبي" نجمة ما قبله، وقبلها نور الشريف "الحاج متولي" وصابرين - "أم كلثوم"... بعد أن كانت نيللي نجمة رمضان الثمانينات ثم شريهان نجمة التسعينات وفطوطة بينهما... أما عن المائدة الرمضانية فقد بقيت وستبقى ثابتة في مكانها، تأسر العقول والبطون لفترة لا تخلو من تشويش قنوات البثّ المتواصل، ولا تملك الردّ بالمثل أو الدفاع عن النفس. موسماً بعد آخر يستمرّ التلفزيون في أن يكون نجم وميزة الأيام الرمضانية المعاصرة خليفة للمسحّراتي وقمر الدين والفانوس... وفي اثبات أن العقول لا تضيع "عند البطون" فقط!