عشرون عاماً على رحيل الفيلسوف ميشال فوكو، ولا يزال موقعه متقدماً في المشهد الثقافي الفرنسي ومتحصناً في المجال الجامعي وفي مجال النشر والإعلام، في منتديات التناظر والنقاش. يترجم هذا الاهتمام عملياً بالندوات والمناظرات والأبحاث الأكاديمية وتؤدي مرتبة ميشال فوكو دور حلقة الوصل التي تنتظم هذه الأنشطة. وفي مناسبة عشرينية وفاته يحتفي "مهرجان الخريف"، بالفيلسوف عبر سلسلة أنشطة من بينها: مسرحية "ميشال فوكو: مشاهد وأقوال" من إخراج جان جوردوي يقدمها مسرح لاباستي. ومن خلال عشرة نصوص شذرات نصية، يسترجع المخرج متاهة الفيلسوف التي يتقاطع فيها القول والرؤيا، ليلتقيا أحياناً ويفترقا في معظم الأحيان. يقترح مركز جورج بومبيدو معرضاً عن الفيلسوف. راديو فرانس يذيع حواراً غير منشور أنجز عام 1966، مباشرة بعد إصدار فوكو كتابه "الكلمات والأشياء". في قصر توكيو، يتناظر كتاب وفلاسفة مدة أربع وعشرين ساعة متواصلة في نتاج فوكو. وفي مسرح شاتليه تقدم أعمال موسيقية للمؤلف جان باراكي الذي اعتبره فوكو أحد عباقرة الموسيقى. على مستوى الإصدارات: ثمة دراسات تصدرها دار غاليمار ومنشورات سوي وهي السلسلة الثانية للدروس التي ألقاها فوكو في الكوليج دو فرانس، والتي تغطي المرحلة الممتدة بين 7719 و1979 والمتمحورة حول البيو-سياسة، الأمن، المناطق، السكان. عن منشورات بلون، يصدر كتاب بعنوان "ميشال فوكو اليوم" من توقيع بلاندين كريجيل، التي عملت مساعدة للفيلسوف الفرنسي. الدراسة احتفاء بنتاج الفيلسوف عبر إنعاش حقبة تاريخية مميزة بحماسة جيل اندفع في موجات فكرية وسياسية حادة. ليس فوكو الممهد لحركات العولمة المضادة أو البديلة كما يرى البعض، بل الفيلسوف اللايقيني، المبدع، الفنان وليس المناضل. الفيلسوف المشبع بالموروث الفينومينولوجي وبخاصة فلسفة ادموند هوسيرل، مع عودة إلى كانط، وبالمدرسة الإبستيمولوجية الفرنسية في المنحى الذي أسسه جورج كانغيلام، ألكسندر كويري، كافاياس. فوكو في نظر بلاندين كريجيل يقوم مقام لوكينو فيسكونتي في النثر الفلسفي. عداء فوكو للماركسية وفي شكل راديكالي أدى به إلى إعادة اكتشاف الأنوار ودولة القانون من خلف ستار دولة القمع. "ميشال فوكو: حيرة التاريخ" عنوان الدراسة التي يصدرها ماتيوه بوت - بونفيل، أحد الباحثين المميزين في فكر فوكو. وتحت إشراف فيليب أرتيار، مدير مركز فوكو، يصدر مؤلف جماعي في عنوان "ميشال فوكو: الأدب والفنون" من توقيع كوكبة من الباحثين، والدراسة هي حصيلة أشغال الندوة التي عقدت في سيريزي عام 2001، والتي تمحورت من حول موضوعتين: الأولى أدبية والثانية استيتيقية. ضمن هذين الميدانين أقام الفيلسوف شبكات سردية تفصح عن ذكاء نادر. "حوارات مع ميشال فوكو" عنوان الدراسة التي صدرت عن دار أوديل جاكوب للفيلسوف والصحافي في جريدة "لوموند"، روجيه بول دروا، عام 1975 مع ميشال فوكو وهي عبارة عن جولة في رحاب الأدب، الفكر، الكتابة، الماركسية، الشيوعية. مجلة "بورتيك" خصت عددها الأخير بفوكو، ويتضمن مجموعة دراسات من توقيع 20 متخصصاً ألقوا الضوء على الكثير من أوجه فوكو. مجلة "فاكارم"، تضمنت مساهمة 40 كاتباً وباحثاً فرنسياً وأجنبياً. مجلة "الماغازين ليتيرير" خصت ملفها في العدد الجديد لفوكو. في العالم العربي لا نلاحظ أي التفاتة من جهة الجامعات أو دور النشر لهذا الحدث. وفي غياب ترجمة كاملة، بقيت نصوص ميشال فوكو مراجع شفوية يستشهد بها في رحاب الجامعات، أو في طيات بعض الدراسات الفلسفية أو الطبية. راجت مفاهيم الأركيولوجيا، العرفان، الإبستيمي، الجنون، الإقفال، وغيرها من المفاهيم التي كانت لها شحنة داخلية، لكن الرهان النظري والفكري الذي طرحته دراسات فوكو لم يستوعب بما فيه الكفاية إذ لا يزال فكره مستعصياً على لغتنا وخطابنا فيما ترجمت أعماله في مجملها إلى اليابانية والروسية والهندية وسواها من اللغات الأجنبية. في نهاية السبعينات - بداية الثمانينات، وكانت الأطروحات الوجودية، الماركسية، البنيوية، في مختلف تفرعاتها وتياراتها، جاثية على المشهد الثقافي، انبثقت تحاليل فوكو لتقدم بديلاً منهجياً ضمن مشروع فكري - فلسفي جديد قوامه تفكيك آليات القمع والنبذ التي أسست لحداثة المجتمع الغربي، لما عقلن هذا الأخير فضاءاته وخطاباته بدفعه المجانين، المعوقين والفقراء إلى المصحات وإلى الهوامش. كانت هذه الشرائح بمثابة عورة الحداثة. فجاءت فرضيات فوكو وطرق اشتغاله، كأعمال أثري يقلب تربة حقول الفكر ويحفر المسطحات والأعماق والزمن الثقافي لتلك الحقبة. تتقدم نصوص فوكو على هيئة حقول تتخلل مساحاتها ومسطحاتها حفريات وتنقيبات لا متناهية، تخلف أحياناً انطباعاً بأرض خراب جراء حروب أو كوارث. طابع اللانظام، بل الفوضى هو الذي حير أكثر من باحث ودارس. وأخذ خصوم ميشال فوكو عليه غياب النسقية كبرهان على ضعف في البنيان والتركيب. وانتقاله من مجال فلسفي إلى ميدان أدبي أو فني، من شريط سينمائي إلى تحليل قطعة موسيقية، أربك متتبعيه أو المتربصين به. من دراسته انبثاق الجنون في العصر الوسيط إلى الممارسات الجنسية والإروتيكية في العصور القديمة مروراً بنشأة العلوم الإنسانية ودراسته للرسام ماني، موريس بلانشو ريمون روسيل... لم يجهر فوكو بلقب المفكر الموسوعي بل نادى بالانتماء إلى الفكر المفتوح، الفكر المستقبلي، ذاك الذي دعا إليه موريس بلانشو، أي الفكر الذي يتحرك على أرضية مشتركة تتماس فيها المعارف والمناهج وتضاف فيها الشذرات بعضها الى بعض من دون تشكيل لبنيان كامل متكامل. وبدل أن يتنصل فوكو من انتقاده باللانظام، يطالب به، معتبراً أن الفكر المنسجم المتكامل لكلمة كمال هنا دلالة خاصة، مرجعية ميتافيزيقية لاهوتية. ويحيل الكمال في نظر فوكو إلى الفكر المغلق على ذاته، الفكر الذي قدم أجوبة نهائية خالصة. فوكو فيلسوف نيتشوي أي ذاك الذي يدير ظهره إلى الميتافيزيقا واللاهوت لينادي بالشذرة والانشطار وسيادة الذات. إنه فيلسوف القطائع التي يلغي فيها اللاحق السابق: قطيعة مع المعرفة الطبية، مع العقل التقني المرتب والموزع لآليات السواء والنظام، قطيعة مع الخطابات الوضعية والماركسية المشيِّئة لوضع البشر. ضمن هذه القطيعة يشدد فوكو على لحظة تزامن المعرفة والسلطة. في أركيولوجية المعرفة نقف عند حرص فوكو على القطع مع الأساليب التاريخية القديمة لتقديم مفاهيم جديدة وكيفيات سريانها من سجل إلى آخر. الحداثة بما هي انبثاق للعقل والعقلانية قامت على العنف والإقصاء، على سلطة النبذ. في مؤلفه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" يقف فوكو عند لحظة ولادة القطائع لمّا غير الغرب طرق فكره وتفكيره في تاريخه الذاتي ولمّا تبرأ من الغريب والبراني، كشيء خارجي عنه. محاولة ميشال فوكو تفكيكية لا بالمعنى الذي يقصده جاك دريدا بل بالمعنى الذي اشتغل عليه جيل دولوز عندما تحدث عن انزياحات دائمة من مكان إلى آخر ومن مجال إلى مجال. تفكيك تمفصلات السلطة منذ نشأة الحداثة: إنه المشروع الذي سعا فوكو إلى إنجازه. تحدثت أنجيل كريمير مارييتي عن "اللاوعي السياسي" الذي أقام فوكو استراتيجية لترقبه وملاحقته. حدد فوكو للفلسفة مهمة المساءلة الدائمة كما ميز بين المعرفة أو العرفان، في ما يعني الأخير من إقامة مسلسل عقلاني لتعريف أو ترتيب المواضيع والأشياء بمنأى عن الذات فإن المعرفة على النقيض هي مسلسل بموجبه تتحول الذات أثناء مسلسل عملها. "التيمات" التي استشرفها فوكو والتي أصبحت اليوم محط عناية واهتمام في الدراسات السياسية الفكرية تهم بخاصة مسائل الحدود، اللاجئين، السلطة، عنف العولمة، الأقطار، السلطات الخفية التي تتحكم في آليات الخطاب العلمي والتكنولوجي. تنبأ فوكو بميلاد المجتمع ما بعد القسري الذي يتقدم على شكل مجتمع تحكمه الشراكة الديموقراطية القائمة على المناصفة، لكنه في قبضة آليات سرية استبدادية. مرحلة ما بعد الحداثة اليوم تقوم على المعرفة البوليسية التي ضاعفت من سلطتها عنكبوتية الإنترنت. السوق اليوم هو المكان الأفضل لتجلي الحقيقة. مسعى فوكو في الأخير كما يشدد على ذلك الكثير من الباحثين هو إنجاز تاريخ سياسي للحقيقة. في كتابه "فوكو وشجاعة الحقيقة" الصادر عن المنشورات الجامعية الفرنسية، يشير فريديريك كرو إلى أن ميشال فوكو كان شجاعاً في نطقه للحقيقة، لا بحثاً عن الإثارة أو الاستفزاز، بل لإنعاش الحياة في الفلسفة بالمعنى الذي يجعل من الخطأ لا نقيضاً للحقيقة بل نقيضاً للرأي الجبان. وفي هذا خصص فوكو السنتين الأخيرتين من دروس الكوليج دو فرانس للحديث عن "شجاعة الحقيقة"، بالارتكاز على المفهوم الإغريقي. قال فوكو في أبحاثه بالحقيقة من دون مواربة، ومن دون شجاعة قول الحقيقة نسقط في مطبات التطرف. لذا، فالحقيقة مطلب فكري وأخلاقي، جوهر واحد، قوة واحدة كما يقول سبينوزا.