العنوان: مخاضات الحداثة الإبستمولوجية. المؤلف: هاشم صالح. الناشر: دار الطليعة-بيروت. سنة النشر: 2008.عدد الصفحات: 391صفحة ؟ للسنة الرابعة على التوالي يصدر المفكر السوري، المقيم في باريس، هاشم صالح كتابا جديدا هو كتاب " مخاضات الحداثة التنويرية" فقد كان طبع سنة 2005كتاب " مدخل إلى التنوير الأوروبي" كما قد صدر له سنة 2006كتاب " معضلة الأصولية الإسلامية" وفي 2007كتاب " الانسداد التاريخي" وهاهو يصدر كتابه الرابع وأتمنى أن يستمر في الإنتاج والإبداع. كنا قدمنا لجميع هذه الكتب قراءات في هذا الملحق في الأعداد (13779، 13982، 14374). والاهتمام بفكر هاشم صالح له مبررات كثيرة. فالرجل مفكر عميق ومطلع بوعي على منتجات الفكر الغربي في مراحله المتعددة سواء في عصر النهضة أو التنوير أو العصور الحديثة. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن هاشما مفكر يتجه إلى عمق ولب المشاكل ولا يضيع وقته وجهده في الفروع والجزئيات طبعا هذا المستوى من الطرح يحتاج بالإضافة إلى القدرة العلمية إلى شجاعة وقدرة على تحمل العواقب فكلما تعمقنا في المشكلة ارتفعت درجة الحرارة واقتربنا من الاشتعال. أيضا يمتاز هاشم صالح بقدرته على وعي الأيديولوجيا والاحتراز منها ولذا نجد في كتاباته روح الشك والتساؤل والحوار أكثر من الدوغما والانغلاق. وإن كان هاشم صالح قد أطلعنا في كتبه السابقة عل نماذج من الفلسفة الأوروبية في عصر النهضة وعصر العقل وعصر التنوير فإنه في هذا الكتاب يصل بنا إلى الفلسفة المعاصرة، إلى باشلار وفوكو ودريدا وتوماس كهن كما يقدم أسماء شبه مجهولة في الساحة الثقافية العربية من أمثال جورج غوسدورف. القضية الأساسية في الكتاب هي القطيعة الإبستمولوجية أو القطيعة المعرفية. يعرض لها صالح من جوانبها المتعددة، الجانب العلمي الأساسي والجانب الفلسفي التاريخي ويركز على الجانب الأخير مع نقل التفكير باستمرار للساحة العربية التي يفكر فيها هاشم صالح بل يسخّر كل معرفته من أجل البحث في إشكالياتها ومعضلاتها العويصة. يقسم هاشم صالح الكتاب إلى ثلاثة أقسام الأول يتعرض فيه إلى مفهوم القطيعة الابستمولوجية في الغرب. بينما خصص القسم الثاني لمخاضات الحداثة العربية وفيه ركّز على الحالة العربية من أزمة الوعي والتراث إلى الأصولية وتفسير الإسلام كما ألقى نظرات مهمة على الحضارات اليابانية والروسية والصينية. في القسم الثالث قدم هاشم صالح حوارين حول القطيعة الإبستمولوجية الأول مع فيلسوف الإبستومولوجيا الذي خلف ميشيل فوكو في الكوليج دي فرانس جيل غرانجيه. أما الحوار الثاني فكان مع العالم الفرنسي من أصول عربية رشدي راشد المختص بتاريخ العلوم العربية وبتاريخ العلم بشكل عام. وبحكم محدودية المساحة وتشعب قضايا الكتاب وتعددها فإنني سأقتصر بالحديث هنا عن مفهوم القطيعة المعرفية أو القطيعة الإبستمولوجية بحكم أنها قضية الكتاب الأساسية وبحكم أهميتها وقدرتها على إحداث جدل وحركة فكرية نحن بأمس الحاجة لها. لا بد أولا من التعرف على معنى الإبستمولوجيا ومباشرة أذهب إلى معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية لجلال الدين سعيد (مرجع مهم) الذي يرد فيه أن الإبستمولوجيا هي : لفظ مركب من لفظين يونانيين هما " ابستمي " أي المعرفة والعلم، و"لوفوس" أي النظرية والدراسة. فمعنى الإبستمولوجيا إذن: نظرية العلوم وفلسفة العلوم. وتعنى الإبستمولوجيا بدراسة مبادئ العلوم وفرضياتها ومناهجها ونتائجها دراسة نقدية ترمي إلى إبراز بناها ومنطقها وقيمها الموضوعية. وأهم مفاهيم الإبستمولوجيا مفهومي القطيعة الإبستمولوجية والعوائق الإبستمولوجية. أول من بلور مفهوم القطيعة الإبستمولوجية أو القطيعة المعرفية هو فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962) قدمنا له قراءة هنا عدد : 14031.ومفهوم القطيعة المعرفية عند باشلار، كما يذكر هاشم صالح في مقدمة الكتاب، له معنيين فهو أولا يعني القطيعة المعرفية بين المعرفة العلمية والمعرفة العامة الشائعة. فهو يرى أن بين المعرفة العلمية والمعرفة الشائعة قطيعة كاملة فالأولى مبنية على البرهان والموضوعية أما الثانية فهي ذاتية وتقليدية ولذا جعل من شروط العالم أن يتخلص حين يدخل المختبر من معرفته السابقة. أما القطيعة المعرفية بالمعنى الآخر لدى باشلار فهي القطيعة المعرفية بين الأنظمة المعرفية في التاريخ العلمي. كأن نقول أن نيوتن مثلا قد قطع تماما مع الفيزياء السابقة له بعد أن حولها إلى كمية حسابية. أولى باشلار الاهتمام الأكبر للنوع الأول بحكم اهتماماته العلمية أما النوع الثاني فوجد تطبيقاته عند الثلاثي فوكو وألتوسير وكوهن. وفي كتابه "الكلمات والأشياء" قسّم فوكو الفكر الغربي إلى ثلاث حقب تاريخية انطلاقا من تشكل نظام معرفي خاص بكل حقبة،، فعصر النهضة يتأسس على نظام " التشابه " مما يعني أن فهم خطابات هذا العصر لا يمكن فهمها إلا انطلاقا من هذا النظام فهي بمثابة المقدمات أو الأسس التي ينطلق منها التفكير وتتشكل بالتالي من خلالها الخطابات المعرفية والسياسية والفنية... الخ. يلي عصر النهضة العصر الكلاسيكي، المتمثل بالقرنين السابع والثامن عشر، ويسود في هذا العصر نظام (النظام والترتيب) أما العصر الحديث، القرن التاسع عشر، أصبح التاريخ أو الإنسان التاريخي هي المقولة الأساسية في هذا العصر. يؤكد فوكو أن الإنسان لم يكن موجودا قبل القرن الثامن عشر بمعنى أنه لم يكن هدف التفكير ولا منطلقه الأساسي أي أن تفكير الإنسان لم يكن إنسانيا ولا للإنسان، كان لاهوتيا، سلطويا... الخ. ألتوسير من جهته طبّق مفهوم القطيعة المعرفية من خلال دراسته لماركس حيث قسّم حياته ثلاثة أقسام باعتبار التأثر بالهيجلية المثالية، مرحلة الشباب والتبعية ومرحلة الانقطاع والشك ثم مرحلة الاستقلال والتفرد.. أحدثت مساهمة ألتوسير وقتها لغطا كبيرا خصوصا داخل الماركسيين الذين لم يحتملوا هذا التقسيم لماركس الأب. الفيلسوف الثالث الذي طبق مفهوم القطيعة المعرفية هو توماس كوهن في كتابه " بنية الثورات العلمية" يسمي كوهن النظام المعرفي ب" البراديغم" أي النموذج. فالنظرية العلمية في وقت من الأوقات تصبح نموذجا متّبعا لكل الباحثين. يتحول البراديغم حين يتعرض لأزمة نتيجة لصعوبات تواجهها النظرية العلمية وتعجز من خلالها عن الإجابة على هذه الصعوبات، في البداية يقوم العلماء بالالتفاف على هذه الصعوبات عن طريق عمل الكثير من التلفيقات في النظرية ولكن هذه التلفيقات تعجز في رقع ثقب النظرية ومن رحم النظرية تخرج الثورة العلمية التي يقوم بها عادة العلماء الشباب ويرفضها الشيوخ ولكنها تنطلق لتؤسس براديغمها الجديد. هل يمكن القول أن النظام المعرفي يتحول حين يعاني من أزمة ؟ هذا احتمال حدث مع الفكر الأوربي كما سبقت له الإشارة مع فوكو والاحتمال الآخر هو أن يلجأ النظام المعرفي إلى الانغلاق على نفسه وتحصينها عن طريق العديد من الآليات. عربيا طبق الجابري مفهوم النظام المعرفي ولكن بدون قطيعة فالأنظمة المعرفية العربية " البيان والبرهان والعرفان" التي تشكلت منذ لحظة التأسيس لم تحدث قطيعة معرفية معها. الذي حدث هو انغلاق فكري وتأزم لم ينتج قطيعة بقدر ما أنتج عصور الانحطاط التي استمرت حتى العصر الحديث، عصر النهضة العربية غير واضحة الملامح حتى الآن. لماذا يقدم هاشم صالح مفهوم القطيعة الإبستمولوجية للقارئ العربي؟ في البداية كإجابة مباشرة يمكن القول أن مفهوم القطيعة الإبستمولوجية مفهوم أساسي في السياق الفلسفي والعلمي الحديث. صحيح أن يلاقي اعتراضات من الخط " العقلاني الكلاسيكي" كما يصنفه صالح إلا أن الكثير من المشاريع الفلسفية أثبتت أهميته. إضافة إلى هذا الهدف يأتي الهدف التنويري الواضح، وهو برأيي أحد أهم سمات خطاب صالح، هذا الهدف يستنجد بالمفاهيم الحديثة للفكر البشري، ومن أهمها القطيعة المعرفية، من أجل تحقيق حراك ونهوض في الساحة الثقافة العربية أو في العقل العربي. يطرح صالح مفهوما جذريا وعيا منه بعمق المشكلة التي يعيشها الإنسان العربي. المشكلة التي تكمن حسب مصطلحاتنا هنا في أن العقل العربي لم يحقق بعد قطيعة إبستمولوجية مع أنظمته المعرفية التقليدية نتاج عصور الانحطاط بالتحديد.