قبل ان يتسلم الرئاسة في كانون الثاني يناير 2000، كان مستشارو جورج دبليو بوش في مشروع "القرن الاميركي الجديد" New American Century يخططون لتعزيز هيمنة اميركا على العالم، من خلال احباط اي تحدٍ استراتيجي لموقعها كقوة عظمى وحيدة. ويدعو المشروع الى استخدام القوة العسكرية الأميركية لحماية المصالح الاستراتيجية، بما فيها المصالح النفطية، وكل ما يتعلق باستمرار تدفق النفط بأسعار تناسب الاقتصاد الاميركي. وعلى رغم ان استخدام القوة الاميركية لإخضاع الدول "المتمردة" ليس جديداً، فإنه اخذ طابعاً اكثر صراحة وعلانية بعد وصول بوش الى البيت الأبيض. ويعتمد مشروع الحفاظ على موقع اميركا قوة عظمى وحيدة، على قوات منتشرة في اكثر من مئة دولة، وعلى اقناع الدول المهمة استراتيجياً بأن من مصلحتها مراعاة مصالح اميركية وإلا ستواجه خطر الاصطدام معها، بصرف النظر عن مدى انسجام هذه المصالح مع مصالح شعوب الدول المعنية. وفيما ينجح التهديد باستخدام القوة في معظم الأحيان في تحقيق الأهداف المرجوة أميركياً، ستضطر واشنطن في احيان اخرى الى استخدام القوة كما الحال مع نظام صدام حسين. لكن ذلك لا يعني أن النزعة الامبريالية بدأت مع ادارة بوش، فالرئيس بيل كلينتون ابقى العراق في حال حصار اقتصادي على مدى ولايتيه الرئاسيتين، ووجه ضربات جوية مكثفة لأهداف عراقية في عملية "ثعلب الصحراء" عام 1998، فضلاً عن فرضه منطقتي الحظر الجوي في شمال العراق جنوبه. وسبقه الرئيس جورج بوش الأب عام 1991 بالتدخل لتحرير الكويت، وضمان عدم الاخلال بموازين القوى في منطقة تحتوي على 40 في المئة من احتياط النفط في العالم. وفي سياق الحملة الانتخابية، كان الأميركيون حتى وقت قريب، بمن فيهم الجيل الذي عانى بسبب حرب فيتنام، يتطلعون الى المرشح الديموقراطي جون كيري باعتباره بديلاً من الادارة الجمهورية التي بدت ملتزمة نهجاً سيعني تورط اميركا بحروب مدمرة في العالم، بما فيها احتمال التدخل في ايران وكوريا الشمالية. إلا ان انصار السلام والتخلي عن استخدام القوة سرعان ما اصيبوا بخيبة امل، بعدما كشف كيري بعض ملامح سياسته الخارجية. في خطاب القاه في جامعة نيويورك أواخر الشهر الماضي، حاول كيري اظهار مدى اختلاف سياسته عن سياسة ادارة بوش في ما يخص العراق، متهماً بوش بالتسرع في شن الحرب، واساءة ادارة الاحتلال، وتضليل الرأي العام الاميركي إزاء حقيقة الوضع الامني المتدهور في العراق، والتمسك بسياسات اضعفت المصالح الأمنية للولايات المتحدة. لكن الخطاب تضمن ايضاً عدداً من العناصر التي اثارت قلقاً لدى مؤيدي كيري، بخاصة انه كان صوّت في الكونغرس لمصلحة تفويض الرئيس بشن الحرب. إذ بدا كأنه يؤيد موقف بوش تجاه تجاهل الاممالمتحدة والقانون الدولي، والنزعة لاستخدام القوة بصرف النظر عن المواثيق الدولية. وعلى رغم اعلانه أن الحرب كانت "غلطة"، قال: "علينا ان نفعل كل ما في امكاننا لإنجاز العمل واتمام المهمة". وذكّر هذا الموقف الأميركيين بما تبناه المعتدلون خلال الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وفحواه انه على رغم خطأ التورط بفيتنام "علينا ان نبقى لإنجاز المهمة، طالما أصبحنا هناك". وتبنى كيري فكرة مساعدة الحكومة العراقية الانتقالية في تدريب العراقيين لتحمل العبء الأمني، وتقليل الخسائر في صفوف القوات الأميركية. وتوقع ان يتطلب الأمر أربع سنوات لإنجاز العملية، وهو الوقت الذي احتاج اليه الخروج من فيتنام ما بين انتخاب ريتشارد نيكسون عام 1969، واتفاق السلام في باريس عام 1973، وهذه كانت اصعب السنوات وأكثرها دموية في حرب فيتنام. واعتبر نقاد كيري انه يبشّر بأربع سنوات من الحرب في حال انتخابه. المرشح الديموقراطي ركز خلال حملته على انه اقدر من منافسه على حشد التأييد الدولي لسياساته، وبناء التحالفات لتحقيق الأهداف الأميركية، واصفاً سياسة بوش بالغرور وازدراء الحلفاء. لكنه عاد وأظهر غروراً وازدراء عندما اعلنت الحكومة الاسبانية الجديدة قرارها سحب قواتها من العراق، إذ علق كيري قائلاً: "ادعو رئيس الحكومة الاسبانية الجديدة الى ان يعيد النظر في قراره، ليبعث برسالة للإرهابيين فحواها أنهم لن يستفيدوا من اعمالهم الارهابية". اي انه اعتبر ان قرار الذهاب الى الحرب من دون تفويض من الأممالمتحدة يبعث برسالة خاطئة الى الارهابيين. وعلى رغم التوقعات بأن يحظى كيري باحترام اكبر لدى زعماء العالم في حال فوزه، مقارنة بالرئيس الحالي، يبقى العراق المشكلة الأساسية، وهي ليست مشكلة علاقات عامة يمكن كيري تجاوزها. ولم يساعده اعلان فرنسا والمانيا انهما لن ترسلا قوات الى العراق، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات الاميركية. وفي مواجهة ضغوط دفعته الى معارضة الحرب، بعدما فوّض الى الرئيس خوضها، سعى كيري الى توضيح موقفه بقوله إن الرئيس كان بحاجة الى الاستفادة من "التهديد باستخدام القوة"، من دون أن يكون مضطراً لاستخدامها بالفعل. واعتبر انه كان في الإمكان اجبار العراق على قبول عودة المفتشين للتأكد من صحة او عدم صحة امتلاكه إسلحة دمار شامل. لكن كيري تجاهل حقيقة ان العراق قبل عودة المفتشين بحسب قرار مجلس الأمن الصادر في 16 ايلول سبتمبر 2002، قبل أربعة اسابيع من تصويت كيري بتفويض الرئيس شن الحرب. وفيما يؤكد اليوم انه لا يذهب الى الحرب لو كان رئيساً، أعلن تأييده الحرب بعد اندلاعها في آذار مارس 2003، مؤيداً قراراً لمجلس الشيوخ "يدعم جهود بوش لخوض النزاع مع العراق". وبعدما قال قبل اسبوعين ان قرار الحرب يجب ان يخضع في المستقبل لامتحان دولي، أكد في ضوء الانتقادات الشديدة التي تعرض لها، انه لن يرهن القرار الأميركي بأي جهة دولية في حال تعرض الولاياتالمتحدة لتهديدات خارجية. ومعروف ان كيري صوّت الى جانب قرار اسرائيل ضم القدسالشرقية التي احتلت عام 1967، على رغم سلسلة قرارات لمجلس الأمن تدعو الدولة العبرية الى نقض قرار الضم بما فيها القراران 262 و 267. كما ايد جهود رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون لمصادرة اراض فلسطينية في الضفة الغربية، على رغم قرارات مجلس الأمن الداعية الى انسحاب اسرائيل وتفكيك المستوطنات، القرارات 446 و 452 و 465 و471. وبحسب منطق كيري، يحق للولايات المتحدة وحدها ان تقرر اي قرارات دولية تطبق وكيفية تطبيقها. وينسجم موقفه في هذا السياق مع موقف ادارة بوش لجهة تجاوز النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. ويقول ستيفن زونس، استاذ العلوم السياسية في جامعة سان فرانسيسكو: "ليس هناك اخطر من انتخاب كيري، سوى انتخاب بوش". وتواجه ادارة بوش، في حال فوزه بولاية ثانية، احتمال حدوث مواجهة كبيرة بين اقطاب الادارة، بين المحافظين الجدد واليمينيين المعتدلين. ففيما يدفع المحافظون الجدد، وزعيمهم نائب الرئيس ديك تشيني، باتجاه تصعيد العمليات العسكرية الأميركية في العراق لإخضاع "التمرد"، يرى المعتدلون ضرورة التركيز على دفع الحكومة العراقية الى الواجهة مع الاسراع في تدريب القوات العراقية. وسيضطر بوش، في حال فوزه بولاية ثانية، الى حسم الخلاف بين المعسكرين، علما أن وزير الخارجية كولن باول، المحسوب على التيار المعتدل، اعلن رغبته في الانسحاب من السياسة بعد الانتخابات، بصرف النظر عن نتائجها. ويرجح مراقبون ان يستبعد بوش وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بسبب فضائح التعذيب في سجن ابو غريب ومعتقل غوانتانامو، وكذلك عدم ارسال قوات كافية لضبط الوضع في العراق بعد سقوط نظام صدام. ويتوقع ان يستبدله بخصمه الجمهوري السابق جون ماكين، أحد أبرز ابطال حرب فيتنام، والسياسي الاكثر احتراماً في اوساط الجمهوريين والديموقراطيين.