سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
دعوة الى مراجعة خطابنا حول اليهود ... لأنفسنا ولليهود والعالم . الصراع ليس أزلياً واحباط الهزائم المتكررة يجعل الأبعدين العرب أكثر تطرفاً من الفلسطينيين 2 من 2
لا شك في أن اليهود المتفهمين هموم الشعب الفلسطيني والذين يبذلون جهوداً أو يعبرون عن رغبة صادقة في المشاركة في تخفيف آلامه، وتكوين علاقة يسودها السلام والوئام مع الشعوب العربية، لا يشكلون غالبية المجتمع الاسرائيلي، لكن نتائج الانتخابات الاسرائيلية في السنوات القليلة الماضية تعكس تراجع هذه الشرائح من المجتمع. واليهود في اسرائيل والخارج، كالعرب في كل العالم، تتشكل رؤاهم وأحلامهم وأوهامهم بالأحداث السياسية والإعلام الذي ينقلها. لذا فإنها رؤى قابلة للتغير والتغيير. وعملية تشكيل الرأي الموضوعي والرأي المعقول عملية معقدة تتصارع على قيادتها العواطف والعقول. فليس متوقعاً تكوين رأي موضوعي عن اليهود لدى أم فلسطينية فقدت أبناءها وهدم بيتها بعد أيام قليلة على مأساتها. كما ليس متوقعاً أن تكون الأم اليهودية التي فقدت طفلتها بتفجير مقهى، موضوعية تجاه العرب بعد الحادث مباشرة. هاتان الوالدتان غير مناسبتين لأن تكونا قاضيتين أو محلفتين في محاكمة سياسية لعربي أو يهودي. لكن الغالبية العظمى من العرب لا تعاني من القصف الاسرائيلي، ومع ذلك نجدها في كثير من الأحيان أكثر تشدداً في موقفها من الصراع العربي - الاسرائيلي، من الفلسطينيين الذين يتعرضون للقصف والاضطهاد الاسرائيلي، وأكثر اندفاعاً في تأجيج مشاعر الكراهية نحو جميع يهود العالم. يرجع ذلك الى سببين: أولهما لاشعوري يلجأ اليه لتعويض الاحباطات الناتجة عن الهزائم المتكررة للعرب أمام الاسرائيليين، وعجزنا عن تغيير هذه المعادلة الا على مستوى الاستعداد العسكري أو العلمي أو الاقتصادي، اضافة الى تلكؤنا في تقديم الدعم الكافي للفلسطينيين الذين نشاهد معاناتهم كل يوم. والسبب الثاني لتشددنا في المواقف من الصراع العربي- الاسرائيلي، "وتفوقنا" على الفلسطينيين في رفع سقف الحد الأدنى المقبول في حل النزاع، يرجع الى مفهومنا للدين. فقراءة القرآن الكريم بمعزل عن قراءة التاريخ الاسلامي بالتحديد فترة الدعوة النبوية، والتمعن في أسباب نزول الآيات التي تزيد على الخمسين والتي شكل "اليهود" أو من "هادوا" أو "بني اسرائيل" موضوعاً فيها. فسبحانه وتعالى أنزل في كتابه العزيز كثيراً من الآيات التي تتحدث عن كيد اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن جاء في سورة البقرة "ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وفي سورة المائدة "ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وفي سورة آل عمران "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، والحكم في النهاية سيكون لله. علينا أن نتمعن أكثر في حكمة الخالق، وان الله لا بد أن يريد الخير والوئام والسلام للبشرية أجمعين. لذلك فإن الرجوع الى أسباب التنزيل يساعدنا في فهم أعمق للقرآن، لذا فإن الإمام السيوطي يقول: "يستحيل فهم آية من دون فهم قصتها والأسباب التي أدت الى الوحي بها"، ويضيف: "غالباً ما يقدم المفسرون أسباباً لآية واحدة وليس هناك مانع من تعدد الأسباب". لذلك من المعقول ان يفهم ان اليهود الذين حذر من كيدهم هم هؤلاء الذين حاربوا الرسول وتآمروا عليه. فالرسول صلى الله عليه وسلم حارب اليهود وانتصر عليهم في المدينة وخيبر والطائف، لكنه تعامل مع آخرين منهم، ورهن درعه وهي وسيلة دفاعه عند يهودي، ولم يذكر التاريخ لنا ان هذا اليهودي سلم الدرع لأعداء الرسول. لذا هناك يهود ينطبق عليهم قوله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين من سورتي البقرة والمائدة، وهناك يهود تنطبق عليهم صفات سيئة كثيرة، ذكرت في آيات. وعسى ان نتلمس طريقاً لتشكيل رؤية لعلاقتنا المستقبلية مع اليهود بإثارة التساؤل الآتي: هل يشكل الصراع العربي - الاسرائيلي ومعاناة الفلسطينيين امتداداً لحروب الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود بني قينقاع وقريظه وخيبر؟ وهل يهود مصر والعراق واليمن الذين عاصروا الدعوة النبوية مسؤولون عن تآمر بني قينقاع وقريظه وخيبر على الرسول؟ ولماذا لم يشهد التاريخ الاسلامي بعد استقرار الدولة الاسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة صراعاً بين اليهود والمسلمين، أو تآمراً من اليهود على المسلمين؟ بل ان بداية محاكم التفتيش في اسبانيا والتي استهدفت اضطهاد اليهود على ايدي المسيحيين الكاثوليك، يؤرخ لها بخروج المسلمين عام 1492. فالشعر العربي في تلك الفترة مليء بالهجاء والمديح للأمويين والعباسيين والخوارج والفاطميين. وقرأنا قصائد لأبي تمام وأبي فراس الحمداني والمتنبي في تمجيد بطولات المسلمين أمام الروم، ولم يكن بينها ما يذكر عن تآمر اليهود مثلاً مع الروم ضد المسلمين. ان الطريق الأمثل لتلمس أسباب الصراع العربي - الاسرائيلي، والوصول الى النتائج التي تساعد في توجيه دفته لتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني، تكمن في مراجعة تاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر، اي الفترة التي نشأ فيها معظم الايديولوجيات والأفكار التي شكلت العالم في القرن العشرين. فلا يمكن فهم الفكرة الصهيونية من دون مراجعة للفكر الوطني والمسيحي العنصري في روسيا والمانيا الذي شرّع للتمييز ضد اليهود. ولا يمكن فهم أسباب تحقق الحلم الصهيوني الذي أدى الى تشريد الفلسطينيين، من دون فهم حجم المأساة التي حّلت باليهود على يد الحزب النازي الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. والأوروبيون الذين يقللون حجم المأساة اليهودية في "الهولوكوست" لا يتوددون إلينا، وانما يحاولون أن يخففوا تأنيب ضميرهم، لأنهم يدركون ان عملية طلب الغفران بمساعدة ضحايا النازية، عن طريق الانصياع الى طلبات الحركة الصهيونية العالمية أدت الى مأساة شعب فلسطين. يقول نعوم تشومسكي في لقاء مع ستيفن شالوم نشرته "الطليعة" الكويتية في 2004/9/22: "حتى عام 1942 لم يكن ثمة التزام رسمي من الحركة الصهيونية بإقامة دولة يهودية، وحتى اقامة الدولة في أيار مايو 1948 كانت المعارضة للدولة اليهودية محصورة داخل الحركة ذاتها". ان الطرح الديني الذي يصوّر لنا الصراع العربي - الاسرائيلي صراعاً أزلياً لا ينتهي الا بانتصار طرف على آخر أو أن يبت فيه سبحانه وتعالى يوم القيامة، لا يؤدي إلا الى عملية تسويف للمطالب المحددة والعادلة للشعب الفلسطيني، والمقبولة من المجتمع الدولي. ولتخفيف معاناة الشعب وتقوية قدراته التفاوضية، علينا توجيه المساعدة الى بناء المدارس والمستشفيات والمنازل، وتمكينه اقتصادياً بالاستثمار في مشاريع توظف أبناءه كي يستمر في العيش على أرضه. فالنساء اللواتي نشاهدهن كل يوم ينظرن بحسرة الى بيوتهن المهدومة لن يستفدن من خطبة الجمعة في الكويت أو دمشق، تدعو الله أن يجلب الدمار على اليهود. فليس جميع اليهود مسؤولين عن المآسي التي حلت بالفلسطينيين، وكثيرون منا نحن العرب مسؤولون عنها. كما ان الضغينة والكراهية في معظم الأحيان تعملان على تبديد طاقة الفرد والجماعة، وتمكين العجز فيها. وحتى رؤساء أركان الجيوش ان تمكنت الكراهية من السيطرة على عقولهم، تسوء خططهم العسكرية، وتتدهور فرص انتصاراتهم في ساحة الحرب. ان المؤيد لمسار العنف المتبع منذ نحو أربع سنوات، والذي حول انتفاضة الشعب الفلسطيني الى مسارها الحالي، وكان من نتائجه ان يستشهد خمسة فلسطينيين مقابل كل اسرائيلي، يضع ثمناً أغلى للدم اليهودي مقابل الدم الفلسطيني. والعزاء بأن قتلانا شهداء، وأن جميع أهاليهم مغتبطون باستشهادهم، لا يمكن أن يكون دائماً كافياً. فوالدة احدى الشهيدات التي فجرت نفسها عند تجمع اسرائيلي، اعترفت بلوعة وألم بأنها لو علمت مسبقاً بالعملية لربطت ابنتها بالسلاسل. لا شيء يمكن أن يعيد التوازن الى ساحة النزاع العربي - الاسرائيلي أكثر من مراجعة الخطاب العربي نحو اليهود في العالم وفي اسرائيل خصوصاً. وسيكون الخطاب أجوف اذا لم يدعم بسياسات عملية على أرض الواقع، أهمها نبذ العنف تجاه المدنيين الاسرائيليين. وأثبتت الأيام الأخيرة، ان أكبر هدية تقدم الى الجيش الاسرائيلي هي مهاجمة اليهود المدنيين. ويبدو ان هذا الجيش لا يدافع عن مدنييه فقط، وانما يستمتع بالانتقام، وهذه عقلية مستمدة من عقدة اضطهاد النازية لليهود التي تبرر أي فعل وحشي تجاه الآخرين. فلأن اليهود تعرضوا لمذابح وحشية، يظل ما يفعله ذاك الجيش أقل مما تعرضوا له من وحشية وقتل جماعي في أوروبا. انها حالة مرضية يؤكدها الكثير من اليهود الذين تجاوزوا هذا المرض أو هذا النمط من التفكير. كما ان مراجعة الخطاب تتطلب تواصلاً مستمراً مع يهود العالم والمجتمع الاسرائيلي في شكل خاص، ولكن ليس بالقفز على مشاعر العرب والفلسطينيين بالاجتماع بمن يضطهد الفلسطينيين على طريقة مثال الألوسي، وانما بتوسيع اللقاءات مع الجمعيات وهيئات المجتمع المدني الاسرائيلي المتفهمة لحقوق الفلسطينيين، وحتى دعوتها للقاءات خارج اسرائيل وفي دول عربية إن أمكن. اذ كان ممكناً استثمار اللقاءات التي شارك فيها ياسر عبد ربه ويوسي بيلين في جنيف، وتوسيع حلقة المشاركين فيها. سيعتمد السلام على مدى قدرتنا نحن العرب على أن نغيّر بتوجهات المجتمع الاسرائيلي، فالعنف العشوائي هو الذي عزز قبضة الأحزاب الاسرائيلية المتطرفة على الكنيست، بالتالي على الحكومة الاسرائيلية. وذلك المجتمع يضم اليهودي الذي يود أن يطلق الرصاص على الفلسطينيين أثناء أدائهم الصلاة، كما يضم الشاعر الذي ينظم شعراً يفيض بعاطفة جياشة ومحبة نحو الفلسطينيين. لكن غالبية الاسرائيليين ليست أقل ضياعاً من العرب في تحديد وجهة نظرها ازاء مستقبل المنطقة، وإن كانت هي الأقوى عسكرياً، تبقى عقدة الخوف لديها من محيطها العربي. إلا أن تغيير تلك الغالبية يتطلب أن نتغير، ولعل أهم مظاهر تغيرنا ان نتقبل الاسرائيليين كجزء من شعوب المنطقة، وأن نغيّر خطابنا حولهم لأنفسنا والعالم. علينا أن نخاطب العالم بصيغة جديدة، فالمسلمون ليسوا ارهابيين، كما ليس اليهود مفسدين كما يعتقد كثيرون من رجال الدين. وعلينا أن نركز الجهود لمحاربة الأعداء من اليهود. وسيساعدنا على ذلك تكوين علاقات وصداقات مع يهود يتفهمون حقوق الفلسطينيين ويقدرون معاناتهم، وأن نعترف بأن عطاءات كثيرين من اليهود للانسانية في مجالات العلوم والآداب والاقتصاد، تفوق نسبة عددهم من اجمالي سكان المعمورة. وكثيرون من قادة التيارات الدينية المؤثرة، والذين طالما ذيّلوا خطبهم بإظهار مفاسد اليهود، وجدوا بعد امتداد العمر، الشفاء برحمة من الله وجهود أطباء يهود. * كاتب وباحث كويتي.