قد يرى بعضهم الدعوة الى ضرورة مراجعة خطابنا - الى أنفسنا أو الى الآخرين - الذي يفترض فساد اليهود واتهامهم بكل مآسي العرب والانسانية، في الوقت الذي نسمع ونقرأ ونشاهد تضحيات الفلسطينيين وعذاباتهم بعد الهجمة الأخيرة على غزة والتي أدت الى استشهاد 75 من الرجال والأطفال والنساء، دعوة لا تقدر مشاعر ذويهم. إلا أن حجتي في ذلك ان هذه الدعوة ليست موجهة فقط الى أهالي الشهداء والمتضررين من القمع الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وانما موجهة الى العرب الذين يعيشون في مدن عربية بعيدة عن محيط هذا القمع. ولا أقصد أن أثير الشك حول مدى تعاطف العرب مع اخوانهم في فلسطين، لكن محور الاحتجاج أن أقوى وسيلة يمارسها هؤلاء لإظهار تعاطفهم مع اخوانهم في فلسطين، تنحصر في معظم الأحيان في تأجيج مشاعر لا متناهية من الكراهية لجميع اليهود، أينما عاشوا وفي أي مجال عملوا والاستعانة بالآيات الكريمة لاضافة الشرعية على مشاعر الكراهية... من دون أدنى تقدير لوجود مئات الألوف من اليهود في أنحاء العالم بما في ذلك اسرائيل، ممن يرفضون سياستها العدوانية، وان كثيرين منهم كرسوا حياتهم العملية أو الاكاديمية لرفض وتفنيد العدوان والادعاءات الصهيونية. ولدى كثيرين أصبح اليهود مسؤولين عن أي حدث سيئ يلم بنا. ومن مظاهر ذلك انه عندما افترى بعضهم بأن قدم عبر شبكة الانترنت كتاباً للمسلمين سماه "الفرقان الحق" ليكون بحسب زعمه كتاباً للمسلمين، اصدر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الاسلامي في اجتماعه الأخير في مكةالمكرمة بياناً استنكر فيه هذا العمل المشين. وكان البيان من الحكمة بحيث لم يتهم جهة أو طائفة أو جماعة دينية أو قومية، واكتفى بوصفهم بأعداء الاسلام. إلا أن عميد كلية الشريعة والدراسات الاسلامية الدكتور محمد الطبطبائي بدا أكثر يقيناً، فكان في تصريحه الذي نشر على الصفحة الأولى من صحيفة "الوطن" بتاريخ 17/09 من الإثارة ما يدفعنا الى ان نراجع كل المصاحف التي في بيوتنا، وحذر الطبطبائي من وجود جهات يهودية غير معلومة طبعت كتاب الله بعد حذف ما يقارب من 50 آية قرآنية تتحدث عن اليهود. وأضاف أن "كيد اليهود للمسلمين وجد منذ زمن طويل وبوسائل مختلفة، ولا يمكن أن يتوقف عند حد". قد يكون وراء هذا العمل يهود، وان كان كذلك فهو عمل استفزازي أكثر منه عملية تهدف الى تغيير عقول المسلمين، من طريق الحذف أو الاضافة الى كتاب الله. فسبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". واستطاع المسلمون الحفاظ على كتاب الله بعد أكثر من 1400 سنة من تنزيله، ولحسن الحظ فإن تقدم التكنولوجيا الذي ساهم فيه الأوروبيون والأميركيون بمن فيهم اليهود، وبنسبة تفوق نسبتهم الى عدد السكان، ساعد كثيراً في طبع القرآن وحفظه، بحيث أصبح متوافراً على جهاز الكومبيوتر، وضمن برنامج يسهل استدعاء الآيات للغرض المطلوب، ما يسر جهود الباحثين المسلمين. كما أن هناك أكثر من شركة عالمية، بما فيها شركات يملكها يهود، لن تتوانى عن خدمة المسلمين إذا دفع لها السعر المناسب، بأن تطور برامج لتعطيل النسخ المحورة من كتاب الله والتي وضعت على الانترنت، وحذرنا منها الدكتور الطبطبائي. ما قصدنا الوصول اليه هو ان هذا "الكيد"، ان كان وراءه يهود، فليس وراءه جهود علمية أو سياسية منظمة، تهدف الى تخدير عقول المسلمين لتقديم نسخ محورة من القرآن الكريم. ومنذ تأسيس اسرائيل وبداية معاناة اخواننا في فلسطين لم نسمع أو نقرأ عن أن اليهود حاولوا تقديم نسخة محورة من القرآن، لا بين عرب اسرائيل، ولا في الضفة الغربية أو فلسطين. انما لا شك في أن هناك في الدولة العبرية مراكز بحوث لتطوير أسلحة فتاكة، وأخرى لتحسين وسائل ري التربة، ولصناعة أدوية وبرامج كومبيوتر وتأسيس جامعات متطورة، وهي نشاطات انتاجية إبداعية تكون محصلتها رفع درجة كفاية "الكيد" وضمان التفوق على العرب. ومن المظاهر المكررة التي تستدعى فيها كراهية جميع اليهود، ما ينظم من مهرجانات معبراً عن عجزنا أو دعمنا للشعب الفلسطيني. فقد نظمت جمعية الاصلاح، وهي الجناح الاجتماعي لحركة الاخوان المسلمين في الكويت، مهرجاناً خطابياً لنصرة القدس، بدأ بخطبة للشيخ عيسى الظفيري قال فيها: "ان اليهود ليسوا حمائم سلام كما يزعمون أو يُزعم لهم، ولا دعاة وفاق، والقرآن خير شاهد على مكرهم وكيدهم، وكل الدلائل يشير الى انهم في الحقيقة دعاة الفساد والإفساد والارهاب". وما زال كثيرون منا يعتقدون بأن اليهود وراء أحداث 11 ايلول سبتمبر، وأنهم كانوا على علم مسبق بالموعد، لذلك لم يذهبوا الى أعمالهم صبيحة ذلك اليوم، مع أن أسماء الضحايا تكشف النسبة العالية لليهود بينهم، وكثيرون منهم يحملون الجنسية الاسرائيلية لوجود المكتب التجاري الاسرائيلي في أحد برجي المركز العالمي للتجارة. ان خطابنا المكتوب والمسموع الذي يربط اليهود بكل شر في هذا العالم، ولا يميز بين اليهودي الذي يتظاهر لدعم الفلسطينيين وذلك الذي يقود البلدوزر هادماً بيوتهم، متجاهلاً تاريخ الحركة الصهيونية، ومتغذياً على فهم ضيق للمرجعية الدينية، هو خطاب يأس يقنع نفسه بأن الفعل والرؤية وصوغ الاستراتيجية، وتحقيق الهدف لا تنبع إلا من تأجيج مشاعر الكراهية لليهود. وهو عادة ما يكون خطاباً يكرر في المساجد والمنتديات الدينية، والحلقات السياسية التي تدمج السياسي بالديني، وعادة ما يجهل المتحدث أو يتجاهل تاريخ الحركة الصهيونية والعوامل التاريخية التي عصفت بأوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وصبت في النهاية الى تحويل فكرة تأسيس دولة يهودية من حلم الى حقيقة. كما أنه يجهل أو يتجاهل ان اليهود في العالم لا يجمعهم رأي واحد، وأن هناك تمايزات حقيقية في رؤاهم نحو اسرائيل ومستقبل اليهود في العالم تمتد على مدى قطبين متنافرين، يجتمع حول القطب الأول بين هؤلاء الذين يريدون طرد جميع الفلسطينيين من الضفة الغربيةوغزة، أما على القطب الآخر فيجتمع اليهود والذين يعتبرون اسرائيل دولة غير شرعية، وان تأسيسها شكل مأساة للفلسطينيين واليهود معاً. لكن غالبية اليهود تتموضع بين هذين القطبين، واستعراض بعض آرائهم قد يساعد في السعي الى تطوير خطابنا حولهم الى اليهود والعالم، ليس من أجلهم، وانما من أجل الفلسطينيين ومستقبل الأمة. فقد شهد النصف الأول من عام 2002 معارضة قوية لدى اليهود الاميركيين للسياسة التي تتبعها اسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة، ونشر نداء في الصحافة والاعلام تحت شعار "رسالة مفتوحة من يهود أميركيين"، وقّع عليه 3700 يهودي أميركي معظمهم يحتل مناصب أكاديمية وبحثية واقتصادية مرموقة. وكان من أبرز الأصوات اليهودية المميزة في نقدها الواضح لسياسة شارون العدوانية، الدكتورة جوديث بتلر استاذة الأدب الانكليزي في جامعة بيركلي والتي أخذت على عاتقها فضح النفاق الأكاديمي في بعض المراكز العلمية المهمة. فقد كتبت منتقدة رئيس جامعة هارفرد الذي أخذ موقفاً معادياً من الحملة المعادية لاسرائيل، واصفاً اياها بأنها "مضادة للسامية بالنتيجة ان لم يكن بالنيات". فقد كتب الدكتور بتلر في "لندن ريفيو أوف بوكس" في آب اغسطس 2003: "ان رئيس جامعة هارفرد أخذ موقفاً ضد الحرية الاكاديمية بالنتيجة ان لم يكن بالنيات... ليس هناك مبدأ أخلاقي يحتكر موضع الضحية لليهود". وسخرت من ادعاء ان انتقاد اسرائيل يهدد حياة اليهود، وساوته بمن يدعي أن الدولة العبرية أكثر ديموقراطية تكون الأكثر خطراً على حياة اليهود. كما اعتبرت ان من الخطأ مساواة اسرائيل باليهود. ويضم المجتمع الاسرائيلي تجمعات نشطة في معاداتها لسياسة شارون العدوانية، ومن الأفراد المتميزين ضمن هذه الجماعات مراسلة صحيفة "هآرتس"، أميرة هاس التي ولدت من أبوين نجيا من المحرقة النازية. اختارت أميرة ان تعيش مع الفلسطينيين في ظروف صعبة لتنقل الى العالم عذاباتهم وآلامهم وآمالهم، ونشرت ذلك في كتاب بعنوان "تقرير من رام الله". كما يبرز في هذا المجال الشاعر والكاتب الاسرائيلي اسحاق لاؤر الذي استطاع ان يكوّن صداقات قوية مع الفلسطينيين ونشر مقالات في اسرائيل وخارجها يفضح فيها سياسة العنف الاسرائيلية، وأبرزها نشر في دورية "لندن ريفيو أوف بوكس". وهو كتب في أيار مايو 2002 تحت عنوان "ما بعد جنين" منتقداً سياسة الاغتيالات الاسرائيلية التي "تصب الزيت على النار"، وأثبت الشاعر لاؤر أن الجيش الاسرائيلي عندما يضع خططاً لمهاجمة مخيمات الفلسطينيين الكثيفة السكان، وباعترافات بعض قيادييه، يستفيد من تجارب الجيش الألماني النازي وخططه، عندما هاجم "غيتو وارسو"، أو الحي اليهودي في وارسو ابان الحرب العالمية الثانية. وكتب لاؤر منتقداً الاعلام الاسرائيلي: "مثل أي شيء في حياتنا الفاسدة، فحتى عند ذكر عدد القتلى فإن مقتل عشرة يهود يشكل مذبحة، أما مقتل خمسين فلسطينياً، فليس كافياً لحسابه". ولعل من أشهر الأقلام اليهودية المعادية لاسرائيل في الولاياتالمتحدة نعوم تشومسكي، استاذ اللغويات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والذي كرس نحو نصف قرن من حياته يكتب وينشر ويخاطب العالم، مفنداً الزعم الصهيوني بأن اسرائيل هي الملاذ الأكثر أمناً لليهود في العالم. هناك كذلك نوح كوهين الذي ما زال بعد قبول الفلسطينيين مبدأ الدولتين على أرض فلسطين، يصر على أن البديل الأفضل هو الدولة العلمانية الواحدة التي تجمع الفلسطينيين واليهود. وهناك من اليهود من كرس جهده العلمي لفضح استغلال المذبحة النازية لليهود الهولوكوست وإدانته، وأبرزهم نورمان فنكلستين الذي ألف كتاب "صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية". وهو كتب في مقدمة كتابه مجيباً عن تساؤلات والديه حول سبب نقمته الى هذا الحد على تزوير عمليات الإبادة النازية واستغلالها اللذين كانا نجيا منها، بأن الجواب هو: "هذه الابادة استخدمت لتبرير السياسات العدوانية الاسرائيلية، وهناك دافع شخصي ايضاً لنقمتي هو أنني اهتم بذاكرة اضطهاد عائلتي. فالحملة التي تقوم بها صناعة الهولوكوست من أجل ابتزاز الأموال من أوروبا باسم ضحايا الهولوكوست، قلّصت القيمة الأخلاقية لمعاناتهم الى قيمة كازينو في مونت كارلو". ولا بد من التذكير بدور بعض اليهود العرب الذين لم تنسهم ظروف سياسية دفعتهم الى هجرة بلدانهم الى اسرائيل، وشائج "القربى" بمواطنيهم العرب. وفي هذا المجال، يبرز دور نخبة من اليهود العراقيين ما فتئوا يتحدثون بحب ومودة عن بيئتهم الأولى ويتحسرون على تركهم مدينتهم بغداد التي ولدوا ونشأوا فيها ثم شاءت الظروف السياسية أن يتركوها أطفالاً ويافعين. وقدمت قناة "العربية" قبل ثلاثة أشهر برنامجاً خاصاً عنهم بعنوان "انسى بغداد" تحدثوا فيه بلغة عربية وبلهجة عراقية عن ذكرياتهم في هذه المدينة التي تركوها منذ أكثر من نصف قرن. وتميز منهم سمير نقاش توفي بعد بث البرنامج بأسابيع قليلة الذي نشر كتباً بينها ست روايات باللغة العربية، آخرها "شلومو الكردي وأنا والزمن". وأجمع هؤلاء على ان سبب الحروب في المنطقة كان تأسيس دولة يهودية في فلسطين، وأكدوا أنهم كانوا دائماً يدعمون فكرة تأسيس دولة واحدة تضم اليهود والفلسطينيين. ونستشهد هنا برأي أشهر يهوديين عاشا في القرن العشرين، حول تأسيس الدولة اليهودية، ألا وهما: عالم الفيزياء أينشتين، وعالم النفس فرويد. فالأول رفض تعيينه رئيساً لاسرائيل عام 1948، وقال انه كان يفضل أن تؤسس دولة يعيش فيها الفلسطينيون واليهود معاً. كما كان رأي سيغموند فرويد قريباً، إذ كان مناوئاً لفكرة تأسيس دولة لليهود وقال: "اذا اراد اليهود إنشاء دولة لهم، فالأحرى ان يقيموها على أرض لا تحمل هذا الإرث التاريخي الكبير كأرض فلسطين، والذي سيؤدي الى نزاعات. وفي النهاية لا استطيع أن أتعاطف مع الذين يريدون تحويل حائط من العصر الروماني الى رمز وطني". * كاتب وباحث كويتي