لا يكرر المرء من الكلام الا الرتيب والعادي حين يقول إن مأساة فلسطينية جديدة حصلت وتحصل في غزة، أو حين يقول إن السياسة الأميركية الراهنة في تواطؤها مع شارون وانتهاكاته، وخضوعها العملي لبرنامجه في "استكمال الاستقلال الاسرائيلي"، إنما توفّر كل الأسباب اللازمة كي يتطرف الفلسطينيون وكي يخطئوا الطريق الأقصر الى مصالحهم. مع هذا فالجرح ينبغي ألاّ يعطّل المراجعة، وذلك كي لا نقول إنه سبب إضافي في الحضّ عليها. وفي السياق هذا لا بأس بمقارنة عابرة علّها تساهم في موضعة الكلام بعيداً من مواضعه المألوفة وأقرب الى مصادر الألم الفعلي، أو بعضها. فمن الانتقادات التي تُوجّّه إلى الحرب على الإرهاب، أنها حرب على عدو غامض ولزج، قابل للتمدد قابل للتقلّص، فيما المواجهة معه لا تبدأ بتاريخ محدد ولا يمكن، بالتالي، إطلاق أدنى تكهّن في ما خص تاريخ انتهائها. والمنطق الداخلي لهذه الانتقادات قابل للتطبيق، بروحه إن لم يكن بحذافيره، على الحرب في فلسطين. فهل بدأت هذه الحرب في 1948 أم في 1936 أم مع "وعد بلفور" أم بالهجرة اليهودية الأولى أواخر القرن التاسع عشر؟ وهل هي حرب يخوضها الفلسطينيون، أم العرب، أم المسلمون، من جهة، فيما يخوضها، من الجهة الأخرى، الإسرائيليون، أم اليهود، أم الأوّلون متحالفين مع "الامبريالية" و"الاستكبار"، أم جميع هؤلاء متحالفين مع "الرجعية العربية" أو "التواطؤ العربي"؟ وهل هي حرب تخاض في فلسطين، أم في كل أرض "يوجد عليها العدو"، بما في ذلك عواصم العالم الغربي، أم في الأردن؟ أم لبنان، أم العراق؟ وهل تنتهي هذه الحرب حين يحصل تحرير وجلاء، كما الحال في لبنان، أم أن حصول التحرير والجلاء لا ينهي الحرب، كما يقول بعض اللبنانيين والسوريين؟ وتالياً، هل الهدف إقامة دولة في الضفة والقطاع كما تقول السلطة الوطنية، أم استعادة فلسطين التاريخية، وربما القضاء على اليهود، كما يرى بعض غلاة الإسلاميين؟ ما من شك في أن الكثير من تلك العناوين يصف المراحل السابقة لحرب فلسطين أكثر مما يصف طورها الراهن حيث تميل القوى الرسمية، على الأقل، الى التحرك من داخل أفق الدولة في الأراضي المحتلة عام 1967. مع هذا، لا يزال الطور الأخير، الراهن، محكوماً بمعادلات الصراع "الكلاسيكية" حتى لو تغيّرت قواها. واستمرارية كهذه هي ما يعبّر عنه، من بين أمور أخرى، "الشارع العربي"، ولغة الفضائيات غير الملجومة أحياناً، وافتعال قضية مزارع شبعا رغماً عن أنف الكون وموسساته. ذاك أن كل شيء مبرّر في معركة كهذه، كما يقال وكما تقول طبيعة الحرب نفسها. لقد سمّى البعض الحرب على الإرهاب حرباً عالمية رابعة إذ الباردة كانت الثالثة، لأنها، بين صفات أخرى، عابرة للحدود والقارات، "جائز" فيها استخدام الأسلحة، كلها أو جلّها. وبالمعنى هذا، يمكن القول إن الحرب على فلسطين تأسست، منذ انطلاقها الغامض التاريخ، كيما تكون حرباً امبراطورية تتعدى هياكل الدول - الأمم القائمة. ولم تنقطع امبراطورية هذه الحرب إلا لسنوات قليلة بدأت مع مؤتمر مدريد وانتهت بعد قليل على اتفاقية أوسلو، ليعود إلى الصدارة تقليد النموذج الذي مثّله حزب الله في لبنان. لكن البائس والمؤلم أن المدى الامبراطوري يقوم، لدى الطرف الفلسطيني، على النماذج الواهية والضجيج الفضائي، فيما الرهان على دعم فعلي، عربي أو إسلامي، أشبه بالاستسقاء في صحراء. أما المدى نفسه فيُترجم إلى قوة محضة لدى الإسرائيليين. فبحجة وجود نفق للأسلحة يربط مصر بغزة، وبذريعة دعم تتلّقاه "حماس" و"الجهاد" من "حزب الله" أو من دمشق، تنهال الضربات الوحشية لا على المقاتلين الفلسطينيين وحدهم، بل على المدنيين أيضاً. وهذا مما يطرح على حرب فلسطين، لا سيما على القوى التي يتسبب "دعمها" بالأذى أكثر مما بالفائدة، تحدياً كبيراً يعادل التخفف من الطبيعة الامبراطورية والتصالح مع الطبيعة الفعلية الوطنية والاستقلالية. ولا بأس في أن يُسمى هذا استسلاماً لمرحلة انتهت، تُستجمع بعده القوى، ويتوقف تبديد البشر والحجر، استعداداً لابتداء مرحلة جديدة يتقلص معها العنف الذي لا يملكه الا الطرف الاسرائيلي فيما تكون الدولة الفلسطينية، وما يترتب على ذلك من أدوات وسياسة، الأفق الوحيد المنظور.