انتظر بعض العرب، خصوصاً على صعيد الحكومات، تبدلاً في السياسة الأميركية بقدوم إدارة جورج بوش الثاني. وما يبدو لنا حتى الآن من تصريحات الرئيس بوش ومستشاريه في الشؤون الدولية وزيارة وزير خارجيته الجنرال كولن باول للمنطقة أن الحصار المزدوج على العراقوالفلسطينيين سيستمر بشكل أو آخر، وما يعدوننا به ما هو إلا تطوّر شكلي. والعرب المتعاونون الذين يتوّقعون تحوّلاً إيجابياً سيُصابون، عاجلاً أو آجلاً، بخيبة أمل كبرى، وسيكون عليهم بالتالي أن يتساءلوا في ما إذا كانوا يخدعون أنفسهم وغيرهم باستمرار الاتكال على "حسن نيات" القيادة الأميركية الجديدة. قال بوش في حفلة تنصيبه في العشرين من الشهر الأول من هذه السنة مستوحياً ما جاء في الاناجيل، "أتعهّد هدفاً لأمتنا: عندما نرى ذلك المسافر الجريح في الطريق إلى أريحا، لن نحوّل سيرنا إلى الجانب الآخر". قد يكون صحيحاً أن أميركا لن تحوّل نظرها عن الجريح، ولكن نوعية اهتمامها به ستتوقّف كثيراً على كونه جريحاً يهودياً أم عربياً. بل لنقل بوضوح أن الجريح في هذه الحالة هو الفلسطيني وقد جُرح بأسلحة ودعم ومباركة أميركية، وأن إسرائيل لم تكن لتجرؤ على التعامل مع العرب بهذا العنف والوقاحة والصلف والقسوة المتوحشة لولا الدعم الأميركي المطلق. إن أقلَّ ما يُقال في هذا المجال هو أن مسؤولية أميركا مباشرة عن الحصار الذي يمارس على فلسطين ومباشرة عن الحصار على العراق، وأن هذا الحصار المزدوج سيستمر بشكل أو آخر ما لم يحصل إجماع عربي ضده. إن الجريح في طريق أريحا هو جريح السياسة الأميركية منذ عام 1948 حتى الوقت الحاضر، ولا يبدو لغير المفرطين بالتفاؤل - لمصالح ذاتية وآنية - أن هذه السياسة ستتغيّر في المدى القريب أو حتى المدى المتوسط، وإن يكن من واجبنا الإعتقاد بأن التاريخ مفتوح على مختلف الإحتمالات مما يتطلّب استعداداً عربياً لأية تطورات قد تحدث. وليس جريح السياسة الأميركية هو الفلسطيني فحسب بل العراقيواللبناني والسوري والمصري والخليجي بل العرب كافة. ويكون السؤال: هل يسعف الجارحُ الجريحَ أم يقضي عليه كلياً قبل التوصّل إلى موقف عربي موحّد؟ لقد استولت الصهيونية على إمبريالية أميركا من الداخل، وفي أحداث كل يوم دليلٌ على ذلك، حتى أن اليهودي في أميركا أصبح يستطيع ان يرتكب جرائم في أميركا نفسها ويلجأ إلى إسرائيل التي تؤمّن له الحماية مهما كانت جريمته بشعة وبصرف النظر عما إذا كانت مضرة بسمعة اليهود أم لا. وبين الأدلة اخيراً أن الرئيس السابق كلينتون وجد نفسه مضطراً قبل نهاية ولايته لأن يخدم إسرائيل بالعفو عن بعض المتهمين بالإجرام والإساءة إلى المجتمع الأميركي نفسه. وإذا لم يكن في إمكان رئيس أميركي ان يساعد جريحاً أميركياً، فكيف يكون في إمكانه أن يساعد جريحاً عربياً في فلسطين؟ اعتبرت القيادة الفلسطينية المتمثلة بالرئيس عرفات، ودعمه في ذلك بعض العرب من أصدقاء أميركا، وهم ممن لهم مصالح خاصة في علاقتهم الودية معها، "أن الطريق إلى القدس تمرّ من خلال واشنطن" بعد تأكدها من استحالة مرورها من خلال عمان أو جونيه في لبنان. هذا تماماً ما نسبه ديفيد إغناطيوس في مقالة له في صفحة الرأي في ال"واشطن بوست" 4/2/2001 إلى عرفات عندما التقاه للمرة الاولى في بيروت قبل عشرين عاماً. ويضيف هذا الكاتب أن هذه المقولة كانت واستمرت مقولة السلطة الفلسطينية في مفاوضات طابا الأخيرة. كيف يمكن أن تكون هذه المقولة صحيحة حتى حين نعرف جيداً أن الحلّ الذي تريده أميركا لا يختلف عما تريده إسرائيل وحسب شروطها؟ لكن السلطة الفلسطينية لا تستطيع أن تطرح هذا السؤال حتى على نفسها وضمنياً، لأنها في هذه الحالة تكون مضطرة لإعادة النظر في نهجها في البحث عن حلّ للمأساة الفلسطينية. وهي في موقع لا تستطيع عنده أن تعترف لأنها ستكتشف باعترافها هذا أنها تخدع نفسها كما تخدع شعبها الذي يعرف الحقائق ويرفض أن يخضع وأن يخدع نفسه. لهذا كان الشعب ولا يزال متقدماً على قياداته المأخوذة بمصالحها وبقائها والتي وجدت نفسها سجينة سياستها. أعلنت الإدارة الأميركية الجديدة باسم مستشارة الرئيس للأمن القومي كوندوليزا رايس ان مسؤولية المفاوضات المستقبلية يجب أن تُترك للإسرائيليين والفلسطينيين أنفسهم وأن الولاياتالمتحدة ستكون متأنية قبل التدخل كوسيط. وقال الجنرال كولن باول بتخلي الإدارة الجديدة عن المقترحات الأميركية السابقة في عهد رئاسة كلينتون. ثم إنه اجتمع قبل زيارته للمنطقة مع صديقه رونالد لاودر رئيس مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الرئيسية في أميركا الذي صرّح بعد هذا اللقاء أن صديقه الحميم باول "إيجابي جداً جداً مع شارون، كلاهما جنرال ويتكلمان بالمطلقات نيويورك تايمز في 9/2/2001. وإذا كنا لا نتوقّع خيراً من الإدارة الأميركية بصرف النظر عن حزبية قيادتها، فهل يمكن للعرب أن يأملوا خيراً من القيادات العربية المتحالفة مع أميركا لأسباب لا نجهلها، وهي أسباب لا تخدم القضايا العربية محلية كانت أو عامة. ويضاعف خطورة الأمر أن زيارة باول كانت تمهيداً لعقد القمة العربية المرتقبة في عمان ومحاولة إستباقية من جانبه للتأثير في برنامجها وما يمكن أن تتوصّل إليه من قرارات. إن موقف إسرائيل في المفاوضات السلمية، وبالتالي موقف الإدارة الأميركية، هو أن على الفلسطينيين أن يقبلوا ما تقدّمه لهم إسرائيل بصرف النظر عما يعتبرونه حقوقاً مشروعة وضرورية لتحرّرهم من الهيمنة على حياتهم. وتصرّ إسرائيل على موقفها هذا ليس دفاعاً عن وجودها وأمنها كما تدعي، بل ترسيخاً لامتيازاتها ومكاسبها في الحروب التي خاضتها ولما يرسخ في أذهان الصهاينة من معتقدات دينية بأن الله قد وعدهم بأملاك غيرهم وأنهم هم من دون غيرهم شعب الله الخاص. ولذلك ليس من الغريب أن تشعر القيادة الإسرائيلية ان ما قدّمته بعد عشر سنوات من التفاوض الظاهر والخفي هو تنازل عن حقوقها المطلقة. وإذا ما دقّقنا النظر بمقولات إسرائيل حول حاجاتها الأمنية، سنجد أن مردّها ليس إلى ما فعله الفلسطينيون والعرب ضدها، بل الى ما فعلت هي ضد الفلسطينيين. بكلام آخر، إن مخاوف إسرائيل الأمنية صادقة كانت أو مفتعلة تنبع في الدرجة الأولى من إحساسها اللاواعي بأن ما ارتكبته من مظالم ضد الفلسطينيين ليس من شعب يمكنه أن يغفره للمعتدي. إن مصدر مخاوفها الرئيسي هو ذنوبها هي بالذات وليس العنف الفلسطيني. وبهذا الخصوص، قال قيادي إسرائيلي اخيراً إنه مهما فعلت إسرائيل "لن يكون هناك سلم، فبعدما يحصل الفلسطينيون على القدس يريدون ان يحصلوا على يافا وحيفا... لا أرى نهاية للعنف. إننا محكومون بالعيش بالسيف" نيويورك تايمز في 16/2/2001. إن إسرائيل المحكومة باستعمال العنف، وأميركا من ورائها، لم تتوصّل بعد إلى ان السلم الحقيقي الدائم يقتضي حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة تجنباً لاستمرار المشكلة والعنف الناتج عنها. هذا ما لا يفهمه الرأي العام الإسرائيلي على الأقل الذين انتخبوا شارون المتهم بأنه مجرم حرب، ولا تفهمه للأسف الشديد الإدارة الأميركية الجديدة التي تراجعت حتى عمّا قدّمه الرئيس السابق كلينتون من اقتراحات. ونسمع الآن بعد عشر سنوات من التفاوض المتواصل أصواتاً إسرائيلية تقول إن التنازلات التي قدّمها باراك أظهرت للعرب "الذين يملكون ذهنية مختلفة عن الذهنية المعروفة في المجتمعات الغربية" ضعف إسرائيل فظنوا أن في إمكانهم تصعيد مطالبهم واستعمال العنف، بحيث أصبح الإسرائيليون "بحاجة إلى يد قوية وإلا فإنه في طبيعة العربي ان يستغل ضعفنا". ولذلك ليس من الغريب عليهم أن يروا رفضَ الفلسطيني التخلي عن حقوقه الشرعية عنفاً وهيمنتَهم الكلية سلماً. وكان أن دعت الإدارة الأميركية القيادات العربية إلى عدم الحكم المسبق على شارون بعد انتخابه وإعطائه الفرصة الضرورية فوجّه له عرفات رسالة تهنئة، ولكن شارون بذاته لم يعطِ نفسه فرصة للتروي، بل أكّد منذ اللحظة الأولى بعد انتخابه أنه سيحتفظ بالقدس موحَّدة تحت السيادة الاسرائيلية، كما سيحتفظ بالمستوطنات وبوادي الأردن وبجزء أكبر من الضفة. كذلك صرّح بأن هدفه ليس التوصّل الى تسوية بل إلى ترتيب أمني مرحلي. ويعترف الاسرائيليون أنفسهم بأنهم انتخبوا شارون المتشدّد لكي يلقن العرب درساً، وهذا ما تمارسه إسرائيل من خلال الحصار الإقتصادي والهيمنة الكلية على حياة الشعب الفلسطيني. ولنسأل أيضاً ما شأن الحصار الآخر الذي تمارسه أميركا مباشرة على العراق؟ هل من أمل برفعه فيتمكّن الشعب العراقي من استئناف حياته العادية ويتجاوز حكام العرب المعنيون خلافاتهم العشائرية؟ للأسف الشديد ليس هذا ما ستسمح به الإدارة الأميركية الجديدة. ما يبدو واضحاً بعد زيارة الجنرال كولن باول للمنطقة ولقائه بقيادات خمسة بلدان عربية، أن ما تحاوله أميركا هو تحويل الانظار عن المشكلة الفلسطينية للتركيز على إحياء التحالف القديم لتسهيل مهمة فرض العقوبات على العراق تحت تسميات وشعارات أخرى. إن خُلاصة ما تريده الإدارة الأميركية الجديدة هي تحقيق "حصار ذكي" من خلال استبدال الحصار الإقتصادي بحصار يمنع إعادة التسلّح. وهنا يستلفتنا مدلول مقولة "الحصار الذكي" مما يوحي باعتراف أميركي ضمنيّ بأن الحصار طوال عقد من الزمن لم يكن حصاراً ذكياً، فتريد استبداله بحصار غامض من نوع آخر لزمن غير محدّد. وحصيلة القول في الحالتين أنه ممنوع على العرب الدفاع عن النفس في العراق كما في فلسطين والأقطار الأخرى. لهذا الغرض بدأت الإدارة الأميركية تتلمّس دربها في التعامل مع العراق فاعترفت ليس ضمنياً فحسب بل مباشرة بأن القصف الذي قامت به في 16 شباط فبراير شكّل عائقاً لرسم سياستها المرتقبة. هنا أيضاً تقصف أميركا العراق فتدمّر وتقتل وتبرّر هذا القصف بأنه روتيني ومجرد دفاع عن النفس. هذا تماماً هو شأن الفلسطيني في علاقته باسرائيل، فالمعتدي في الحالتين يتوقّع بمنطق غريب من المُعتدى عليه أن يتقبّل الإهانة والضرب في بلاده ومنزله إذا ما أراد تجنّب مزيدٍ من العقاب. ويبدو الرئيس بوش الثاني "مهضوماً" حقاً حين يشكو من أن العراق يصرّ على أن يدافع عن نفسه. وبهذا تصرّ أميركا وإسرائيل على أن تكونا فوق القانون الدولي، وتتوقّعان في الوقت ذاته ان يرضخ الفلسطينيونوالعراقيون ويسلّمون أنفسهم لمشيئة فوق مشيئتهم، وهي مشيئة غير إلهية. في خدمة هذه المهمة زار وزير خارجية أميركا خمسة من البلدان العربية لإقناع قياداتها بالتعاون مجدداً ضد العراق في فرض عقوبات تُلبسها أقنعة من نوع آخر ويكون من حق أميركا وحدها أن تحدّد نوعيتها وزمنها. لكن وزير الخارجية لا يستطيع أن يقدّم أي تعهّد واضح للعرب فيقول لهم ولوسائل الإعلام ان هناك قيادات أخرى في الإدارة الأميركية - كنائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومساعده الصهيوني بول ولفوفيتز ومستشارة الرئيس للأمن القومي كوندليزا رايس - قد لا تتقبّل خطته وتفضّل تصعيد العقوبات لا التخفيف من حدتها ولو شكلياً. وعلى عكس ما صرّح به وزير الخارجية الأميركي في بداية زيارته بأنه قادم الى المنطقة ليصغي الى آراء بعض القيادات العربية، فقد تبيّن لدى عودته أنه كان يحمل في الواقع خطة غامضة يريد فرضها بالترهيب والترغيب، وخلاصة هذه الخطة كما كشفت عنها إفتتاحية صحيفة "واشنطن بوست" في 28/2/2001 هي بناء إجماع حولها قبل عقد مؤتمر القمة العربية المرتقب. ولا ندري تفصيلاً ماذا كان ردّ القيادات العربية حقاً، وإن كنا نتمنى عليها لو قالت له إن من حق العربي أن يدافع عن نفسه وإن أية محاولة لتخفيض التسلح العربي يجب أن يرافقها تخفيض لتسلح إسرائيل. السؤال المطروح إذن هو: هل تستطيع أميركا أستخدام بعض القيادات العربية إذا كان بوسائل الترغيب أو الترهيب؟ لا ندري، ولكن يمكننا أن نتأمل بمشهد رمزي مما حصل لدى زيارة كولن باول للأردن: طلب وزير الخارجية الأميركي من الملك عبدالله أن يقود سيارة الملك في عمان بين القصر والمطار فجلس الوزير وراء المقود والملك جانباً. ترى من يقود السيارة العربية؟ وهل نطارد سراباً لا أفق له؟ * كاتب واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.