لولا الشر لو كتب بصوته ما كان وجد قارئاً محترماً واحداً، لكن قدرته على سرقة عقل وصوت شخصياته جعلته كاتباً كبيراً. في "دوستويفسكي" لريتشارد فريبورن الصادر عن دار هاوس ببليشينغ يذكر المؤلف ان الكاتب الروسي نشر "يوميات كاتب" شهرياً في سبعينات القرن التاسع عشر ولم يتعب فيها من الوعظ الوطني حول مزايا الحرب الصحية، والتعصب المسعور ضد الأجانب ولا سيما منهم الانكليز الذين تمنى أن يموتوا كلهم خلال جيل واحد لا أكثر. وقع فيودور دوستويفسكي ضحية نظام بلاده المستبد مرتين: الأولى سجيناً تجنب الاعدام ببضع لحظات، والثانية طليقاً ندم وعبد من اضطهده. بعد الدراسة الجامعية حضر اجتماعات فئة سياسية معارضة ذات آراء تقدمية، وسجن ثمانية أشهر بعدما تغلغل جاسوس للحكومة فيها. حكم على المجموعة بالإعدام ووقف دوستويفسكي مع رفاقه قبل عيد الميلاد في 1849 بثلاثة أيام ينتظر زخات الرصاص. في اللحظة الأخيرة وصل رسول القيصر الذي أنعم على محبي الحرية الضالين واستبدل الموت بالاشغال الشاقة في سيبيريا. لم يكره دوستويفسكي السلطة للظلم الذي لحق به بل وقع في حب القيصر وروسيا. أمضى أربع سنوات بين القتلة والمجانين فتغيرت نظرته الى البشرية، وحفل أدبه في ما بعد بالمجرمين والمختلين الذين برع في التوغل الى أعماقهم. كان هشاً أصلاً، وأدى الضغط النفسي الى نوبات الصرع. رأى العلم والعقلانية مسؤولين عن انحطاط حضارة أوروبا الغربية التي أمضى فيها مدة طويلة، واقتنع بأن روسيا تفوقها غنى روحياً. تنفس العنف الكامن لدى دوستويفسكي 1821 - 1881 في هوسه المسعور بالقمار الذي دفعه الى رهن مجوهرات زوجته وملابسها بلا ندم أو رحمة. "أعرف السر، ويستحيل أن أخسر" ردد مراراً ووقف قرب طاولة الروليت بجسد مشدود وعينين حمراوين. أفلس واضطر الى التسول، وكان خبيثاً، حسوداً، داعراً وقذراً وفق ستراكوف، كاتب سيرته الأولى الذي عرفه جيداً. يروي الأخير كيف تباهى دوستويفسكي بأنه مارس الجنس في الحمام مع فتاة صغيرة زودته بها مربيتها. وفي روايته الأخيرة "الشياطين" التي نشرت بعد موته يعترف رجل بأنه اغتصب ابنة صاحبة المنزل التي كانت في الحادية عشرة، وما لبثت هذه ان شنقت نفسها. عاد من سيبيريا بإيمان حار بالمسيح بعد أن كان ملحداً. قرأ "العهد الجديد" وحده في السجن ورأى، وسط عذاب الروح والجسد، حاجة صوفية في المسيح الذي قام من الموت. على أن مسيحيته خلت من الرحمة، الجوهرية فيها، أو الدعوة الى الاصلاح. أعجب بتشارلز ديكنز لكنه فضل حلول الكاتب الانكليزي العاطفية العذبة على اهتمامه الأصيل برفع الأذى عن المظلوم وتقدمه اجتماعياً. تناول دوستويفسكي سجنه في "مذكرات بيت الموتى" من دون أن يهتم بتقديم اقتراحات لتحسين أوضاع السجناء. نفر من الاصلاح الذي ربطه بالاشتراكية الطوباوية "الشيطانية" ولم ير جدوى في اعتماده ليأسه من الطبيعة البشرية الفوضوية اللاعقلانية. آمن بأن الانسان شرير أكثر منه خيّراً، وجعل اعتقاده حاجة فنية وركيزة أدبه الذي ما كان ليقوم لولا هذا الموضوع وفق فريبورن. واكب نفوره من العلم خوفاً من أن يفقده إيمانه، وكره القانون العلمي ل"تحجره الخام". حتى لو كان ايمانه من دون أساس "أفضّل أن أبقى مع المسيح على أن أكون مع الحقيقة". في "الأخوة كارامازوف" يقدم الكاتب النموذج الذي يكرهه في ايفان العلمي العقلاني الذي يعذبه عذاب البشر ولا سيما منهم الأطفال. يخبر شقيقه أليشا عن ارستقراطي لاحق طفلاً فلاحاً بكلابه حتى امسكته هذه ومزقته أمام أمه. المسيحيون كأليشا يتحدثون عن التسامي الذي تغفر الوالدة معه للارستقراطي ما فعله بابنها، والله يغفر للجميع، لكن ايفان يرفض الغفران ولا يرغب في العيش في عالم كهذا. "أعيد بكل احترام بطاقة دخولي"، يقول في جملة شهيرة عن رفضه الدين. كثيرون لا يفهمون اليوم لماذا اعتبر دوستويفسكي ايفان شريراً وعاقبه بجعله مسؤولاً عن قتل أليشا والدهما الفاسق ثم انتحاره. شبّه الكاتب الأمير مشكين بالمسيح في "الأبله"، لكنه خالف الانجيل وجعله ساذجاً مصاباً بالصرع. عرف دوستويفسكي آلام الحزن عندما توفيت والدته وهو في السادسة عشرة ثم والده الطبيب بعد عامين ثم طفلان له قال بعد موت أولهما: "أين هذا الصغير الذي اجرؤ على القول انني سأقاسي آلام الصَلب من أجله؟". قد نتوقع توصل الكاتب مع ايفان كارامازوف، لكن فريبورن يرى القاتل راسكولنيكوف في "الجريمة والعقاب" تماهيه الأبرز. قبل "دوستويفسكي" لفريبورن صدر "الأبله" مترجماً الى الانكليزية عن دار غرانتا. يعود الأمير مشكين من سويسرا بعد علاج الصرع ليواجه بسذاجته مجتمعاً منافقاً يسخر منه ثم ينكشف الشر فيه بفعل المواجهة مع المريض البريء من الحقد والخداع. "الأبله" تستعير من حياة مؤلفها أكثر من أي رواية أخرى له، ويروي فيها على لسان بطله كيف وقف على منصة مرتفعة وهو في الثامنة والعشرين واعتقد انه بقيت له من الحياة ثلاث دقائق لا أكثر. يصف في "الأبله" لوحة هولباين "المسيح على الصليب" بضع مرات ويجعل مشكين مثله ضحية خطايا الآخرين الذين لا يستحقون الفداء. عين المرأة تأسف جرمين غرير في "الفتى" ضياع فرصة تقدير جمال الفتيان حالياً بفعل ارتباطه بالميول المثلية وشيوع الأخلاق الطهرانية. في الكتاب الصادر عن دار تيمز وهدسون تقول النسوية الاسترالية التي تعيش في انكلترا اننا عقّمنا صورة الفتى وأسبغنا عليها براءة زائفة. حتى القرن التاسع عشر حضر الفتيان الجذابون بقوة في الفن الغربي، لكن ازدياد المعارض الفنية العامة واستقبالها النساء في أواخر القرن الثامن عشر استبدل الفتيان العراة بالنساء. النسوية أيضاً ركزت على الشكل النسائي ورفضت تحديق الرجال فيه، لكنها لم تهتم بالقوة المحررة لحق النساء في التحديق بجمال الفتى. ترفض غرير القول ان الفنانين توجهوا نحو المثليين عندما رسموا ونحتوا فتياناً جذابين. صحيح ان الاغريق ورواد عصر النهضة اعتبروا العلاقة بين الرجال والفتيان مثال العلاقات الأعلى، لكن هذه كانت افلاطونية نظرياً اكتسب فيها الصغير النبل من حكمة الرجل، وأنعش الأخير حياته بجمال الفتى وشبابه. كانت العلاقة الجسدية بين الاثنين جريمة كبرى على أن ذلك لم يمنع قيامها احياناً. تعتقد غرير خطأ أن النساء لم يجلسن للفنانين في ذلك الوقت الا بثيابهن الكاملة، وترى بناء على ذلك ان عري الفتيان أجمل. يقف هذا على الحدود بين الأنوثة والرجولة ويتمتع بخفة ولهو وضعف لا نراها في مرحلة أخرى. في القرن الخامس في أثينا تباهى الفتيان بجمالهم كالطواويس، وفي القرن الثامن عشر ارتدى الرجال في انكلترا ملابس من قماش الساتان زودت بالكشاكش، واحذية بكعب عالٍ ومشوا مشية راقصة لم تجلب لهم تهمة المثلية. اليوم يجبر التلامذة على ارتداء زي مدرسي رمادي وكحلي، ويمنعون من التعبير عن مشاعرهم، ويرمى بهم في عالم الرجولة قبل الأوان لأنهم خلقوا رجالاً. جاذبية الفتيان تظهر اليوم للمنحرفين فقط، تقول غرير، لكن النساء استرجعن الحق في النظر والمتعة منه. تحلل الأعمال الفنية المتعلقة بالفتيان في الميثولوجيا والمسيحية وتورد صورها الكثيرة. ايروس، إله الحب عند الاغريق، تطور من فتى مجنح مشاغب الى آخر عفيف ولعوب في التاسع عشر. الفكرة الرئيسية: حرروا جمال الفتى من الوصاية واتركوه لجمهور نسائي مدرك، حنون، رهيف وناضج. المطالعة "الكبيرة" اختير فيليب لاركن الشاعر المفضل عند الانكليز في نصف القرن الماضي في استطلاع أجرته "جمعية كتاب الشعر" ومكتبة الشعر مع آلاف القراء. أتى الشاعر الانكليزي "أول" في فئتي الشاعر والقصيدة، وتصدرت "أعراس ويتسن" لائحة القصائد العشر المفضلة. أسس ت. س. اليوت الجمعية في 1953 وأتى سابعاً في قائمة الشعراء المفضلين بعد تد هيوز وسيلفيا بلاث، اللذين تقاسما المركز الثاني كأنهما شاعر واحد، وشيمص هيني ور. س. توماس وأودن. تلفزيون "بي بي سي" بدأ منذ تسعة أشهر بث برنامج "المطالعة الكبرى" حول الكتب المفضلة فزاد مبيع الكتب المئة المختارة والأفلام المقتبسة عنها 1100 في المئة. في الحلقة الأخيرة صوّت ثلاثة أرباع المليون لكتابهم المفضل وفاز "سيد الخواتم" للانكليزي ج. ر. ر. تولكين ب174 ألف صوت وتلاه "كبرياء وتحامل" للانكليزية جين اوستن ب135 ألف صوت. لا قيمة أدبية في ثلاثية "سيد الخواتم" التي لعبت الأفلام المستندة اليها دوراً في فوزها. رآها ناقد "حثالة مراهقة" عند صدورها، واعتبار تولكين الكاتب الأكثر تأثيراً في القرن العشرين "كابوس" عند جرمين غرير. بعض اليمين المتعصب في الولاياتالمتحدة واسرائيل استغل شعبية "سيد الخواتم" ليروّج لمقولة صراع الحضارات. يرى هؤلاء فيها شعوب الغرب المحبة للحرية ضد مستبدي الشرق الظالمين، ويهللون لبطولات الغربيين الفردية. تولكين نفسه كان رجعياً كره الحداثة والمدن المتعددة الثقافات والعلم، وفضّل الملكية غير الدستورية معترفاً بأنه غير ديموقراطي. هرب الى الخرافة وركّب عالماً اسطورياً عنصرياً تشتعل الحرب فيه بين شعب الأورك الشرير المسطح الأنف، الأصفر الجلد، الكبير الفم، الضيق العينين وشعب الهوبيت والإلف الطيب الأشقر البطل. تكاد العاطفة والنساء تغيب عن "سيد الخواتم". وفي "تولكين والحرب الأخيرة: مدخل الأرض الوسطى" الصادر حديثاً عن هاربر كولينز لجون غارث، يقول المؤلف انه بقي يحب زوجته العتيدة أربع سنوات من دون أن يخبر أصدقاءه الحميمين. يرى غارث ان "سيد الخواتم" مرثاة للحرب العالمية الأولى، التي أبقت على واحد فقط منهم، الى جانب كونها قصيدة حب لانكلترا قبل الغزو النورماني، أي الفرنسي. توفي والد تولكين عندما كان في الرابعة ووالدته عندما كان في الثانية عشرة وترسخ حزنه في الحرب العالمية الأولى التي أكدت وضع الانسان المأسوي في عالم الآلة الشرير المعاصر. احتاج الى ملجأ روحي وجده في الكنيسة الكاثوليكية وأصدقائه أولاً ثم في عالم الأساطير والخيال في ثلاثيته الشهيرة. اتهمه النقاد بالهروبية فقال انهم يخلطون "فرار السجين بهرب الجندي من الحرب" وهو كان سجيناً. كانت اللغة هوسه، واكتفى بكلمة واحدة من الانكليزية القديمة ليستحضر عالماً ضائعاً كان الساكسون فيه أسياد شمال أوروبا. لم يثر شكسبير وغيره من الكتاب "المعاصرين" اهتمامه وفضّل الحكايات الشمالية البطولية القديمة التي تكاد تكون خرافة خالصة.