"... هذا الرجل الثاني الذي يرتدي هذا الرداء هو ايضاً شاب في نحو السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين من العمر. قامته أطول قليلاً من متوسط قامات الرجال، خداه خاسفتان، شعره كثيف أشقر، له لحية صغيرة مدببة تكاد تكون بيضاء اللون، عيناه واسعتان زرقاوان لهما نظرة ثابتة. في هذه النظرة شيء من رقة وعذوبة، ولكن فيها ثقلاً وتعبيراً غريباً، فإذا رآها خبير أدرك ان صاحبها رجل مريض بداء الصرع. ووجه الفتي بعد هذا محبب الى القلب لطيف رقيق دقيق، ولكنه شاحب اللون. بل إنه في هذه اللحظة قد أزرقّ من شدة البرد". إن هذا الشاب الذي يقدمه إلينا دوستويفسكي منذ الفصل الأول لروايته "الأبله" على هذا النحو العادي، والذي يكاد ينطق يتشابه بينه وبينه، في بعض السمات الخارجية كما في الإصابة بداء الصرع، سوف لن يكف الكاتب عن وصفه وتقديمه إلينا لاحقاً طوال مئات الصفحات التي تتألف منها هذه الرواية. ولئن كان كثر شبّهوا شخصية ذلك الشاب، بمعظم الشخصيات الإشكالية في روايات دوستويفسكي الكبيرة الأخرى، من "الأخوة كارامازوف" الى "الممسوسون" الى "الجريمة والعقاب"، فإن ما لا يمكن غض النظر عنه هو واقع ان شخصية الشاب، واسمه هنا ميوشكين، تكاد تكون مزيجاً، في نهاية الأمر، من شخصيتي المسيح ودون كيشوت. ذلك ان دوستويفسكي إنما حاول هنا ان يرسم، من خلال ملامحه الخاصة، واحدة من الشخصيات الأكثر طيبة في تاريخ الرواية... والحال انه نجح في محاولته، الى حد كبير، حتى وإن كان المنطق الواقعي قد قاده الى الاستنتاج الطبيعي في نهاية الرواية: ميوشكين لا يمكن ان ينتصر. أي لا يمكنه ان يحقق العالم الطيب الذي شاء ان يحققه بتصرفاته المنطلقة دائماً الى ما فيه خير "الآخر": فالحقيقة ان ميوشكين على رغم انه دائماً على استعداد للتضحية بنفسه من اجل خلاص الآخرين وسعادتهم أو ليست تلك هي - على اي حال - رغبة المسيح ودون كيشوت مجتمعين؟، فإنه ابداً لا يتمكن من تحقيق التضحية المتوخاة وجعلها مفيدة للآخرين، ذلك لأنه في الحقيقة يفتقر الى ما سماه احد النقاد "قوة الفعل المحرِّر القادر على الحسم بالنسبة الى التناقضات التي يتخبط فيها هؤلاء الآخرون"، ومن هنا فإن "بلهه" الذي كان يفترض به ان يوصله، بفضل تضحياته، الى القداسة، ينتهي به الأمر الى ان يتبدى ما هو عليه بالفعل: نقيصة. ومن هنا ما خلص إليه بعض كبار الباحثين في ادب دوستويفسكي، من ان رواية "الأبله" - مثلها في هذا مثل القسم الأكبر من روايات دوستويفسكي الكبرى - تصل الى حد فرض نفسها بكل قوة على القارئ، لكنها تبدو عاجزة عن حل المعضلة الأخلاقية التي بدا على دوستويفسكي منذ البداية انه يتنطح لطرحها بل لحلها وهنا، أوليست هذه غاية دون كيشوت الأساسية التي تنتهي بدورها الى الإخفاق؟. هل يعبّر هذا عن عجز ما لدى دوستويفسكي - كما لدى تسربانتس، مثلاً في "دون كيشوت"؟ بالأحرى يعبر عن ان "الآخر" ومهما كان رأينا فيه ورغبتنا دائماً في خلاصه، هو في الحقيقة الصخرة التي تتحطم عندها كل نزعة "إرادوية" تسعى الى خلاص هذا الآخر. وربما الى الخلاص الذاتي من طريق هذا الآخر. إذاً، منذ البداية يطرح دوستويفسكي امامنا، سمات بطله الشاب ميوشكين، وذلك من خلال لقائه، في القطار العائد به الى سانت بطرسبرغ، من سويسرا حيث كان يقيم نقاهة من مرضه العصبي - أو العضوي لن نتأكد أبداً - لقائه بالشاب روغوجين. وعلى رغم ان الاثنين هما الملتقيان في القطار والمتبادلين الأحاديث في شكل يكشف لنا بالتدريج عن شخصيتيهما وعن مجرى الأحداث المقبلة، فإن محور هذه الأحداث هي الحسناء، ذات السمعة المثيرة لبعض الشكوك، ناستاسيا، التي لبؤسها تتخذ من ثري فعل الخير معها، حامياً لها. وهذا الثري يتحول الى عشيق لها ويريد الآن تزويجها، حماية لسمعتها ولعلاقتهما، من شاب في مقابل مهر كبير. وهكذا تتعرف، مع ميوشكين، على ناستاسيا من قبل ما نلتقي بها. وميوشكين الذي شعر فور سماعه بحكايتها وبحكاية رفيقه في القطار - عاشقها - معها، صارت ناستاسيا هاجساً له: هل أحبها؟ هل شعر بالشفقة إزاءها؟ هل رأى في خلاصها خلاصاً لذاته؟ كل هذا يمتزج لديه في بوتقة مشاعر واحد. وهو حين يصل سانت بطرسبرغ يسعى الى اللقاء بها، "صدفة" اول الأمر، ثم قصداً بعد ذلك، حين يصل الى احتفال بها ومن حولها، فيجد نفسه مندفعاً إليها بصورة جدية، وسط زحام المعجبين بها والمحاولين نيل رضاها وودها. إنها "مؤمثلة" هنا، غير ان هذه الأمثلة ليست إلا في الظاهر، اما في حقيقة الأمر فإن ناستاسيا تعامل معاملة العاهرة: سينالها من يدفع الثمن. وحتى هذا الأمر لا يغضب ميوشكين... فهو لا يغضب ابداً، ذلك انه قادر تماماً على فهم دوافع الآخرين، حتى ولو كانت، في الظاهر، دوافع شريرة أو سيئة. فميوشكين هو، بعد كل شيء رجل الطيبة والتضحية. هكذا قدم إلينا منذ البداية وهكذا سوف يظل حتى النهاية. وهو في خضم التزاحم من حول ناستاسيا، سيتقدم مدافعاً عنها مبدياً استعداده لكي يصبح لها في كليته: الحب دافعه ام الشفقة؟ الشفقة بالأحرى والشفقة شعور لا يستنكره ميوشكين وكذلك لا يستنكره دوستويفسكي نفسه، هو الذي يرى - على لسان احدى شخصيات الرواية - ان الشفقة هي القانون الوحيد الأساسي في الوجود الإنساني كله. وهكذا يقترح ميوشكين الاقتران بناستاسيا ل"إنقاذها". صحيح ان ناستاسيا ترى في ميوشكين الكائن القادر على إخراجها من وحدتها، لكنها - هي - لا تقبل هذا الحل الذي تقف الشفقة وحدها في خلفيته. وفي هذا الإطار يتدخل روغوجين، رفيق القطار وعاشق ناستاسيا، حاملاً مبلغاً كبيراً من المال عارضاً إياه على ناستاسيا في مقابل الاقتران به، وفي وقت تبدي فيه الابنة الصغرى للجنرال ايبانستين، مضيف ميوشكين، غرامها بهذا الأخير، تزداد حدة التعاطف بين ميوشكين وروغوجين، من حول "هيام" الاثنين - وكل على طريقته - بناستاسيا. غير ان التعاطف لا يحول دون نمو غيرة روغوجين الذي تغويه، للحظة، فكرة قتل ميوشكين... ولكن بعد سلسلة من الأحداث والتعقيدات الإضافية التي تنشأ عن دخول شخصيات اضافية الرواية، تنتهي تلك الأحداث بغرق ميوشكين في جنونه المطبق، وبقتل روغوجين لناستاسيا. تتوسط رواية "الأبله" مسار دوستويفسكي الأدبي، اذ انه نشرها للمرة الأولى مسلسلة في مجلة "الرسول الروسي" في العام 1869 بعدما كان أنجز كتابتها في العام 1867، بمعنى انها تلي في روايات دوستويفسكي الكبرى "الجريمة والعقاب" 1866 وتسبق "الشياطين" أو "الممسوسين" و"المراهق" و"الأخوة كارامازوف" وهي كلها روايات كتبها دوستويفسكي ونشرها بين العامين 1872 و1880، اي في فترة الخصب الكبرى في حياته، والتي امتدت طوال العقدين الأخيرين من حياته. ولقد نُظر الى "الأبله" دائماً على انها الرواية الأقوى بين اعمال ذلك الكاتب الروسي الكبير، والذي عاش بين 1821 و1881، وكذلك نُظر إليها على انها الأكثر ذاتية، في معنى، انها كانت من اكثر رواياته بحثاً عن القيم الكبرى والمبادئ الأخلاقية، حتى وإن كانت النتيجة التي تصل إليها في نهاية الأمر تبدو سوداوية، سوداوية المصير البشري الذي لم يكف دوستويفسكي عن تصويره في اعماله التي تعتبر قمة ما توصل إليه فن الرواية في اية لغة وفي اية منطقة خلال القرن التاسع عشر، بل خلال العصور جمعاء.