جمعيتي "طويق" و"العمل التطوعي" تحتفلان باليوم الوطني بعشرة أركان تفاعلية    عام على حرب الإبادة.. غزة أثر بعد عين    ثاني أكبر روافد نهر الأمازون بالبرازيل يسجل أدنى منسوب للمياه بسبب الجفاف    يزيد الراجحي يعود إلى رالي المغرب مع طموحات الحفاظ على اللقب    "سلمان للإغاثة" يدشّن مشروع توزيع المساعدات الغذائية للأسر الأكثر احتياجًا في جمهورية قرغيزستان    القوات الخاصة للأمن والحماية تشارك في معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2024 بمَلْهَم    اليوم عرسك    "المركزي الروسي" يرفع سعر الروبل مقابل العملات الرئيسية    رياح مثيرة للأتربة والغبار على الشرقية والرياض والمدينة    إتاحة تخصيص عقارات الدولة لأكثر من جهة حكومية    السجن مدى الحياة ل«مغتصب التلميذات» في جنوب أفريقيا    خوفاً من الورثة.. مغربية تحتفظ بجثة والدتها !    6 توصيات لتعزيز الهوية الثقافية ودعم الاستثمار في تعليم اللغة العربية محلياً و دولياً    ترامب: على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية    إسرائيل تقصف الضاحية.. مصير خليفة نصر الله غامض    هل أوقف الاتحاد الدولي المُلاكمة الجزائرية إيمان خليف وجردها من ألقابها ؟    عبدالعزيز بن سلمان يشارك في اجتماعات مجموعة العمل الخاصة بالتحولات في مجال الطاقة    الفتح يختتم تحضيراته لمواجهة التعاون    في مباراة الفريق أمام الرياض .. القادسية يحتفي بوزير الإعلام "الدوسري"    مدرب القادسية يُفسر الخسارة أمام الرياض    الهيئة السعودية للسياحة تطلق تقويم فعاليات «شتاء السعودية»    محافظ الطائف يعزي أسرة الحميدي في فقيدهم    جمعية الأدب تعتمد 80 سفيراً في 30 مدينة    مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي القاضي وآغا في فقيدتهم    الجيش الأميركي يعلن قصف 15 هدفا للحوثيين في اليمن    الخليج يعبر الخلود بهدف في دوري روشن السعودي للمحترفين    ميندي يوجه رسالة لجماهير الأهلي    لوحة «ص ق ر 2024» لمركبة «المرور» تلفت أنظار زوار «الداخلية» في معرض الصقور والصيد    رصد طائر «سمنة الصخور الزرقاء» في الحدود الشمالية    القبض على (4) يمنيين في جازان لتهريبهم (120) كجم "قات"    الوطنية للإسكان NHC تكشف مزايا ومكونات حديقة خزام الكبرى شمال الرياض    انطلاق حملة الحي يحييك للاحياء السكنية بالمنطقة الشرقية    تعرف على غيابات الأهلي عن الكلاسيكو أمام الهلال    ب 3 مناطق.. مركز «911» يتلقى 98 ألف مكالمة خلال 24 ساعة    تجمع الرياض الصحي الأول يكرم 14 استشارياً    إمام المسجد النبوي: آية ((إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) تحمل في طياتها معاني عميقة    وفاة 866 شخصًا بمرض جدري القردة في أفريقيا    "الصحة العالمية"تستعدّ للقيام بالجولة الثانية لتلقيح أطفال غزة ضدّ شلل الأطفال    أثر الشخصية واللغة والأمكنة في رواية «الصريم» لأحمد السماري    أحلام على قارعة الطريق!    الشاهي للنساء!    كتب الأندية الأدبية تفتقر إلى الرواج لضعف التسويق    محافظ الطائف يلتقي مدير جمعية الثقافة والفنون    90 مبادرة لأمانة الطائف تعزز الوعي البيئي وتدعم الاستدامة الخضراء    أمانة الطائف توقع عقد إنشاء مشروع (قبة الفراشات) بمساحة ٣٣ ألف م٢    الأمير سعود بن نهار يعزي أسرة الحميدي    المعلم.. تنمية الوطن    اختتام مشاركة الهلال الأحمر في المعرض التفاعلي الأول للتصلب    مدير تعليم الطائف يطلق مبادرة غراس لتعزيز السلوك الصحي    2238 مصابا بالناعور في 2023    تعيين عدد من الأئمة في الحرمين الشريفين    أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في المملكة يتمم الدورية رقم 5 آلاف في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين لبحث التحرك العربي للتضامن مع لبنان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يشارك في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي    خادم الحرمين يهنئ رئيس غينيا بذكرى الاستقلال ويعزي رئيس نيبال في ضحايا الفيضانات    تثمين المواقع    وزير الداخلية يعزي ذوي شهيد الواجب أكرم الجهني    مفتي عام المملكة يستقبل مفوّض الإفتاء بمنطقة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احتفالات روسية وأوروبية بذكراها المئوية الثالثة ."سان بطرسبورغ" المدينة التي صنعت مجد السياسة والأدب والفن
نشر في الحياة يوم 01 - 06 - 2003

تشهد مدينة سان بطرسبورغ، التي اتخذها الأدباء والشعراء الروس مسرحاً لرواياتهم وأعمالهم، احتفالات روسية وأوروبية بمناسبة المئوية الثالثة لتأسيسها. وصدرت في هذه المناسبة دراسات تاريخية وأدبية كثيرة تناولت كيفية تحول هذه المدينة إلى أسطورة أدبية وموسيقية. تتناول هذه المقالة مدينة سان بطرسبورغ من خلال كتاب المؤرخ الروسي فلاديمير فيدوروفسكي "رواية سان بطرسبورغ" الذي يجعل من سير القياصرة والأدباء والشعراء مرآة لتحولات المدينة الاجتماعية والسياسية والهندسية.
يفترض فلاديمير فيدوروفسكي في كتابه "رواية سان بطرسبورغ"، الصادر حديثاً في باريس عن دار روشيه، أن المدن تنفخ بالروح يوم تسكن أزقتها وأبنيتها وجسورها وقصورها بأهواء قاطنيها وهواجسهم. ويؤرخ فيدوروفسكي لمدينة سان بطرسبورغ عبر استعراض لحظات العشق التي تركت آثارها في هندسة المدينة وأدبها وموسيقاها.
حمل البدء بتشييد مدينة سان بطرسبورغ رياح التغيير إلى حياة الإمبراطور بطرس الكبير 1672-1725 العاطفية. فزوجة بطرس أودوكسي، التي دبرت أمه الملكة نتالي زواجه منها عام 1689، ربطت بين إبعاد زوجها لها وإجبارها على الانسحاب من حياتهما الزوجية المشتركة والدخول إلى الدير وبين المدينة التي شرع الإمبراطور في تأسيسها.
وكانت لعنة الزوال والتحول إلى عدم التي رمتها أودوكسي على مدينة زوجها الناشئة محور الأساطير الشعبية التي حاكت مخاوف الناس الكامنة في تحدي بطرس الكبير الطبيعة وقوى أنهرها وتربتها.
وتزامن تحطيم بطرس قيود التقاليد بفسخه زواجه المدبر مع مصارعته قوى الطبيعة وأحكامها. ذلك أن ابن الحادية والعشرين ربيعاً أمر بتشييد مدينة مثالية تعطيه الخلود بانتسابها إليه على مستنقعات مائية تحيط بضفاف نهر النيفا المنتزعة من ملك السويد شارل الثاني عشر. فإرادة التغيير التي سكنت بطرس الكبير دفعته إلى إرساء قطيعة مع رموز الماضي الماثل في موسكو وفرض اللباس وحلق اللحى.
واستعمل بطرس سلطانه المطلق، الذي آل إليه بعد وفاة شقيقه إيفان عام 1696، لإرسال مئات الآلاف من الفلاحين والسجناء وأسرى حربه مع السويد 1700-1721 إلى ضفاف النيفا للعمل على تحقيق حلمه. ووسع علاقاته التجارية مع غرب أوروبا وجعل التوقيت الروسي خاضعاً للروزنامة الغربية.
بعد ثلاث سنوات على وضع حجر أساس قلعة بطرس وبولس، حيث بنيت سان بطرسبورغ، صادف بطرس الكبير كاترين 1684-1727، وهي ابنة مزارع تعرضت للاغتصاب في أثناء الحرب الروسية - السويدية واتخذها اسكندر ماشينكوف، المقرب من الإمبراطور، خليلة له.
أبقى بطرس زواجه من كاترين، التي التهب قلبه حباً لها، سرياً لتفادي المشكلات التي قد تنجم عن رفض المجتمع الروسي التقليدي زواج الإمبراطور من فلاحة أمية.
وبعد خروج زواج بطرس من كاترين إلى العلن عام 1712، جعل هذا الأخير من سان بطرسبورغ عاصمة الإمبراطورية الروسية. شاركت كاترين أهواء بطرس فساهمت بتوسيع مدينة زوجها بإشادة قرية قيصرية إلى جنوب سان بطرسبورغ.
وتجلى تواطؤ الزوجين الإمبراطوريين العاشقين في تناسق هندسة الباروك في قصور سان بطرسبورغ مع الحدائق الفرنسية الكلاسيكية وأقنيتها المائية التي تزواجت مع الحدائق الانكليزية المنظمة وتماثيل شخصيات الميثولوجيا.
يحرص فلاديمير فيدوروفسكي على تقديم سيرة القيصر بطرس الذاتية. وكأن مسار حياة بطرس الكبير لا ينفصل عن مدينته التي لجأ إلى شوارعها وجاب فيها والدمع يملأ عينيه والهواء يبعثر شعره يوم أعدم عشيق زوجته وليام ونز عام 1724. وكان الحزن عرف طريقه إلى قلب بطرس مذ حكم على ابنه ألكسيس من زوجته أودوكسي بالموت عام 1715 لتآمره عليه.
تملّك المرض جسم بطرس بعدما نزل إلى مياه النيفا الجليدية وأنقذ من أغرقه طوفان النهر الذي يحيط بمدينته ويحاصرها.
رافق بطرس الكبير هاجس مواكبة امبراطوريته التطورات التي تشهدها أوروبا الغربية في لحظات احتضاره ولازمه في هلوسته طيف ابنه ألكسيس، الذي قضى على يديه.
كلفت سنوات حكم بطرس الإمبراطورية الروسية فقدان ثلاثة ملايين نسمة لاقت حتفها في حروب خاضها هذا الأخير وفي المجاعة التي اجتاحت بلاده بين عامي 1714 و1715 وفي تشييد مدينة سان بطرسبورغ. وفشل بطرس في فرض استبعاد الأبنية الخشب عن مدينته ونجح في إعطائها طابعاً أوروبياً تستمده من غياب التعرجات بين الأبنية التي استوت على واجهة الطريق وأبعدت الطابع الريفي عنها.
ولم يحل الموت دون رسم بطرس الكبير صورة سان بطرسبورغ التي أصبحت بفضل القانون الذي أصدره عام 1722 عاصمة الإمبراطورات اللواتي توالين على الحكم في القرن الثامن عشر.
يظهر فيدوروفسكي ارتباط مكانة المدينة هذه في الإمبراطورية الروسية ودورها بإرادة القياصرة الذين تسلّموا دفة القيادة. فكاترين الأولى منعت اندثار مدينة زوجها برفضها أن يدفن في موسكو إلى جانب أجداده ووارت ثراه في كنيسة سان بطرس وبولس البطرسبورغية. وعلى خلاف كاترين الأولى، رد بطرس الثاني، حفيد بطرس الكبير، الاعتبار إلى موسكو وجعلها عاصمة له، بعد موت كاثرين عام 1727 وترك سان بطرسبورغ فريسة الإهمال الذي غزا جدران قصور بطرس الكبير.
أما إليزابيث بتروفنا 1741-1761 فأعادت الحياة إلى مدينة والدها التي تزايد عدد سكانها في عهدها وبلغت مساحة اليابسة فيها 2 و40 كلم مربع وربط بين أطرافها 141 جسراً خصص معظمها للمشاة وازدهرت التجارة. وجعلت اللغة الفرنسية، التي تغلغلت في ثنايا أحاديث الطبقة الأرستقراطية، لغة رسمية في السفارات. وأضفى ميل الأرستقراطية إلى التسوق في أوروبا طابعاً كوسموبوليتياً على سان بطرسبورغ. وعلى أثر إعلان فولتير إعجابه ببطرس الكبير الذي سنَّ القوانين وجعل الأرض الخلاء مدينة مأهولة، عُيِّن هذا الأخير عضواً في أكاديمية العلوم التي أسسها بطرس قبل أن توافيه المنية عام 1724. وخاضت إليزابيث حرباً مع السويد بين عامي 1741 و1743 وأسست أكاديمية الفنون الجميلة.
ويجعل فيدوروفسكي في روايته هذه من عاطفة القياصرة والوحي الذي يستمده كل منهم من عشقه باعثاً على اتخاذ القرارات. فالقرابة التي ربطت كاترين الثانية بالرجل الذي أحبته القيصرة إليزابيث وسلبه الموت منها قبل الزواج، دفعت بهذه الأخيرة إلى اختيار كاترين الثانية زوجة لخليفتها بطرس الثالث.
ما لبثت كاترين الثانية أن انتزعت السلطة من زوجها، حفيد بطرس الكبير، وتخلصت من هذا الأخير بواسطة السم. قبل أن ينحو حكم كاترين الثانية 1762-1796 نحو المحافظة، تركت آخر امرأة تسلمت السلطة الإمبراطورية العنان لشغفها بالهندسة وفلسفة الأنوار. فراسلت فولتير واستقبلت ديدرو في بلاطها بين عامي 1773 و1774 وأخذت بأفكار مونتسكيو. وأحيت تنظيم شوارع سان بطرسبورغ وتجميلها. واستقدمت المهندسين راستريللي الذي عدل واجهة قصر بيترهوف وشادل الذي بنى قصر مانشيكوف وأورانيبوم.
العشق والجغرافيا السياسية
ينيط صاحب "العشق على ضفاف النيفا" تحولات جغرافيا القارة الأوروبية السياسية بصاعقة الحب التي استقرت في قلب كاترين الثانية، البالغة أربعة وأربعين عاماً، عندما التقت عيناها باللفتانت غريغوري بوتمكين الذي يصغرها بتسع سنوات. بعد عامين على زواج كاترين الثانية من عشيقها بوتمكين حصل هذا الأخير على لقب أمير. وعلى هدي صديق قلبها أجرت كاترين الثانية إصلاحات إدارية وشجعت الصناعة والملاحة البحرية وأنشأت خمساً وعشرين مدرسة وخففت من معاناة الرقيق وسعت إلى التحالف مع أوروبا الغربية في حربها على الأتراك 1768-1774. وبقيادة بوتمكين توسعت الإمبراطورية الروسية وتحالفت مع فيديريك الثاني، ملك بروسيا، ضد بولونيا التي أساءت معاملة الأرثوذكس وأتباع لوثر، وحقق الجيش الروسي وأسطوله البحري النصر على الباب العالي.
ودفعت ظنون بولس الأول تولى الحكم من 1796 إلى 1801 في ضلوع والدته كاترين الثانية بمقتل أبيه إلى إهمال سياسات هذه الأخيرة المنفتحة على أوروبا. فعمل على "تطهير" الطبقة الأرستقراطية من التأثيرات الفرنسية ومنع الناس من اتباع موضة الملابس الباريسية والقبعات. ورفدت ظنونه هذه مخاوفه من وصول "دوامة" الثورة الفرنسية إلى إمبراطوريته.
أما حفيد كاترين الثانية الكسندر الأول، الذي تشرب الثقافة الفرنسية منذ نعومة أظفاره على يد الإمبراطورة الراحلة، فشارك في مؤامرة الضباط التي أطاحت بولس الأول.
وعلى غرار جدته كاترين، أجرى إصلاحات ليبرالية في بداية عهده فألغى الرق والعبودية.
وبين عامي 1805 و1807 تحالف الكسندر الاول مع النمسا وبريطانيا وبروسيا لمواجهة فرنسا نابوليون. وبعد خمس سنوات على اتفاق السلام الذي أبرم بين القائد الفرنسي وألكسندر الاول قاد نابوليون حملة عسكرية على روسيا عام 1812. وعلى أثر سلسلة من هزائم منيت بها الإمبراطورية الروسية، نجح الروس بطرد جيش نابوليون من أراضيهم ودخلوا باريس في 31 آذار مارس 1814.
المجد لقيصر الشعراء
وعلى رغم هذه الانتصارات، لم يمنح التاريخ المجد لألكسندر الأول. إذ ان الروائي والشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين خطف الأضواء منه وترك بصماته الأدبية على سان بطرسبورغ.
لا يحصر فيدوروفسكي تأريخه لمدينة سان بطرسبورغ بتتبع لحظات العشق في حيوات أصحاب السلطة من القياصرة. فالأدباء ساهموا في تشكيل صورة المدينة وفي تخليدها.
كانت سان بطرسبورغ مصدر إلهام الشاعر بوشكين. فهو بدأ دراسته في الليسيه التي أسسها الكسندر الاول في تساركسوي سيلو، غير بعيد من قصر كاترين الأولى.
ويجعل المؤرخ - الروائي من الحرب على نابوليون وجمال قصر تساركسوي سيلو مصدر نفحة الشعر والمواطنية التي هبطت على بوشكين ورفاقه. فبوشكين نظم أول ابياته الشعرية يوم شاهد من مبنى الليسيه الإمبراطوري فرق الجيش الروسي تجتاز القرية الإمبراطورية عند انطلاقها لتحرير موسكو والدفاع عن جرس إيفان الرهيب.
أتاحت سان بطرسبورغ ومدارسها فرص اللقاء بين الشبان والشابات. فاستيقظت حواس بوشكين في سن مبكرة. واختبر رعشات الحب الأولى يوم كان في السادسة من العمر، كما ذكر في رسالة أرسلها إلى زميل دراسته. وتسنى لبوشكين الغرق في الحب حتى قال عنه المؤرخ كارامزين: "بسبب الحب يكذب على الجميع ويتشاجر معهم ويتوقف عن الكتابة". وأسس قيصر الشعر "فن الحب في سان بطرسبورغ". وكان يغوي النساء بإظهار رغبته المتأججة داخله من دون اللجوء إلى الشعر.
يجعل فيدوروفسكي من رسم شخصية بوشكين وسرد مغامراته العاطفية مناسبة لوصف سان بطرسبورغ القرن الثامن عشر، حاضنة الفلسفة الكلاسيكية التي غذت الرغبة في التغيير داخل المجتمع والتأثير فيه. وفي جو الاحتفال المستمر الذي ساد في مدينة بطرس الكبير، دفعت حمى الحياة، التي تدب في روح بوشكين وتدفعه إلى مبارزة أصدقائه لأتفه الأسباب، إلى نظم شعر يسخر من اتخاذ القيصر الكسندر الأول الآنسة جورج، الممثلة الفرنسية وعشيقة نابوليون السابقة، خليلة له. أمضى بوشكين، قيصر الشعراء، ما يقارب خمس سنوات في المنفى وعاد إلى سان بطرسبورغ بعد وفاة القيصر الكسندر الأول المباغتة عام 1825.
تركت محاولة مجموعة من الضباط الاستيلاء على السلطة في كانون الأول ديسمبر 1825 أثرها في سنوات حكم القيصر نيقولا الأول 1825 -1855 الذي أحبط المحاولة الآنفة الذكر.
ووصمت مبادئ نيقولا الأول، الساعية إلى المحافظة على الطابع الشرقي للإمبراطورية الروسية، أساليب البناء الفنية والهندسية في سان بطرسبورغ.
وزادت الرقابة التي فرضها نيقولا الأول على أعمال بوشكين من كآبة هذا الأخير الذي كانت الهموم المادية تثقل كاهله والغيرة على زوجته تتآكله. وكذلك، كان العشق وراء موت بوشكين في مبارزة مع عشيق زوجته.
ويشير فيدوروفسكي الى ان الأديب الفرنسي بلزاك عزف عن قراره إهداء روايته "الكولونيل شابير" إلى ماركيز كوستين الذي أصدر كتاباً عام 1840 يظهر فيه سان بطرسبورغ مدينة لا تعطي الاعتبار للحياة الإنسانية.
وتفقد أرواح الناس قيمتها وتسلب حريتهم. فبلزاك فضل تقديم حبه للسيدة هانسكا من التابعية الروسية والارتباط روحياً بسان بطرسبورغ على التنديد ببربرية مدينة بطرس، كما فعل كوستين.
ومن أدباء سان بطرسبورغ أديب يصعب إغفاله وتناسيه، هو دوستويفسكي الذي ولد عام 1821 ونشأ في عهد نيقولا الأول الذي كان شاغله القضاء على احتمال انتقال عدوى أفكار الغرب إلى طبقات المجتمع، فراقب الفكر ومنع رعاياه من السفر إلى الخارج من دون إذنه واستبعد الإصلاحات وعزز اللغة الروسية والدين.
وأدى ذلك إلى عزل سان بطرسبورغ، التي أرادها بطرس الكبير نافذة على أوروبا، عن التأثيرات الخارجية بعد ثورتي 1830 في فرنسا و1848 في أوروبا. وحال التقوقع الذي فرضه نيقولا الأول دون تطور الإمبراطورية الروسية وأدى إلى هزيمتها العسكرية عام 1856.
وما لبثت الرياح أن جرت على ما لم يشتهه نيقولا الأول، فازدهر الفكر السياسي وبدأت براعم الانتليجنسيا الروسية تنبت. وباتت لقاءات مجموعة من الطلاب لقراءة الأدب ومناقشة الفلسفة تجتذب الموظفين وعامة الشعب.
وكان دوستويفسكي، الذي ترك أسرته الفقيرة ودراسته في الهندسة لينصرف إلى الكتابة، يتردد على هذه اللقاءات التي سرعان ما انقسم أتباعها إلى تيارين. وانتسب التيار الأول إلى ثوار كانون الأول/ ديسمبر 1825 وأمل في تحرير الرق وفي ارساء دستور ليبرالي، ودعا التيار الثاني إلى تدمير النظام كلياً والى إحلال الاشتراكية والإلحاد.
وفي 23 نيسان أبريل 1849 ألقي القبض على دوستويفسكي بجرم قراءة رسالة أرسلت إلى غوغول تنتقد الرقابة على الأعمال الأدبية. وبعد ثمانية أشهر على اعتقاله من دون التحقيق معه، اقتيد دوستويفسكي إلى المقصلة. وفي جو بارد بلغت حرارته 21 درجة تحت الصفر أجبر دوستويفسكي وزملاء سجنه على انتظار إملاء الحكم عليهم وهم عراة. وبعدما رفع الجنود بنادقهم لإعدام "مجرمي الدولة" أصدر الإمبراطور قراراً بالعفو عنهم وأمر بسجنهم مع الأشغال الشاقة.
بعد عشر سنوات قضاها دوستويفسكي في السجن والمنفى، عاد إلى سان بطرسبورغ ليسترجع، "الحاجة البطرسبورغية بامتياز إلى البحث عن السعادة في العذاب". وعلى خلاف غيره من الأدباء الروس، امتنع صاحب "الجريمة والعقاب" عن الكتابة عن "روائع" سان بطرسبورغ وركز على بؤس مدينة بطرس بفقر أحيائها. ورسم دوستويفسكي صورة مظلمة وجنائزية لهذه المدينة.
وحملت أعمال دوستويفسكي سرداً لمشاهد الإعدام ودرساً لسيكولوجية المحكوم عليه بالموت وتساؤلات عن الأفكار التي تدور في خلد هذا الأخير.
يشير فيدوروفسكي إلى أن سان بطرسبورغ قدمت لدوستويفسكي أبوليناريا، ابنة العشرين عاماً التي تأثرت بالموجة الداعية إلى تحرر النساء، وسيصف هذا الأخير التناقض الكامن في شخصيتها وأنانيتها في "الاخوة كارامازوف" و"الأبله".
من سان بطرسبورغ الى بتروغراد
فقدت سان بطرسبورغ اسمها مع بدء الحرب العالمية الأولى. ذلك أن الحكومة القيصرية أرادت تشذيب اسم مدينة بطرس من آثار اللغة الألمانية فأمست "بتروغراد". وبين عامي 1914 و1915 شهدت ضفاف النيفا حب الشاعر مايكوفسكي للأختين ليلي وإيلا التي ستحمل اسم ألسا عند مغادرتها مدينة بطرس مع اندلاع الثورة البولشفية والتي سيغرم بها الشاعر الفرنسي أراغون ويتغنى بعينيها.
عام 1917 توجه لينين من منفاه السويسري إلى بتروغراد حيث تسلم حكم الدولة السوفياتية. فغاصت مدينة بطرس في المجهول وتلفقتها دوامة العنف والدم، وفقاً لمذكرات الشاعرة آنا اخمانوفا.
وسلك عدد كبير من المثقفين الروس طريق المنفى وتعرض من بقي في مدينة العشق للإرهاب الثوري. فأعدم الشاعر نيقولا غوميليوف في 16 آب اغسطس 1928 بتهمة التآمر على البولشيفيين.
وما لبث لينين ان جعل موسكو عاصمة للاتحاد السوفياتي. وفي عام 1919 خلت سان بطرسبورغ من معظم سكانها وغزا الجوع والبرد أجساد الذين بقوا في المدينة. وحاول الكاتب الكسيس غوركي الدفاع عن الانتليجنسيا التي امتلأت السجون بأعضائها. ولكن مساعيه باءت بالفشل فانصرف هذا الأديب إلى التوسط لدى لينين للحصول على حصة سكر إضافية لزميل له.
في الفصل الاخير من رواية فيدوروفسكي التاريخية يختزل هذا الأخير تاريخ سان بطرسبورغ في المرحلة السوفياتية بفقدان المدينة هذه اسمها للمرة الثانية. فبعد صمود بتروغراد أمام الغزو النازي نسبت السلطات السوفياتية هذه المدينة إلى "الزعيم" الراحل لينين الذي زرع الخوف والفوضى في أطرافها. فكأن العشق، محور التأريخ الذي اعتمده فيدوروفسكي، هجر ضفاف النيفا مع فقدان المثقفين حرية التعبير والرأي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.