الأرجح ان الأكراد بدأوا يشعرون بإحباط غير قليل نتيجة تصاعد اصوات داخل مجلس الحكم العراقي وخارجه تدعو الى غير ما يرغبون فيه من حقوق سياسية وقومية في إطار الدولة العراقية الجديدة. هذا اضافة الى مخاوفهم من التباطؤ الحاصل في إعادة ضم مناطق جغرافية وسكانية كردية في كردستان العراق، كان قد سلخها النظام السابق عن خريطتها الادارية خلال الأعوام الثلاثين الماضية. واللافت ان الأكراد الموزعين على أحزاب سياسية عدة، والمقسّمين بين منطقتي نفوذ تتبع إحداهما أربيل للحزب الديموقراطي الكردستاني والأخرى السليمانية للإتحاد الوطني الكردستاني، موحدون في الدعوة الى ضرورة الاسراع في ضمان حقهم في نظام فيدرالي سياسي قائم على أسس قومية وجغرافية قبل إجراء الانتخابات المقبلة وتشكيل حكومة وطنية ذات سيادة في بغداد. في هذا الإطار، ألمح الزعيم الكردي مسعود بارزاني في مقال نشرته صحيفة "برايه تي" الناطقة بإسم حزبه، وتصدر باللغة الكردية في أربيل، الى أنه بالفعل أخذ يشعر بالقلق وعدم الارتياح إزاء مسألة الفيديرالية ومستقبل العراق والأكراد، مضيفاً أن ما يشاع في أوساط عراقية وبعض الأوساط الأجنبية حول إقامة نظام فيديرالية المحافظات في العراق، أمر يدعو الى الحذر. فالأكراد لم يعملوا من اجل إعادة ترتيب محافظاتهم ولم يقدموا التضحيات من اجل تحقيق هذا الهدف، إنما عملوا طوال القرن الماضي من اجل نيل حقوقهم السياسية والقومية التي وعدتهم بها بريطانيا العظمى والدولة العراقية الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. لكن الحكومات العراقية المتعاقبة تملّصت منذ تلك الفترة عن ترجمة وعودها الى وقائع، وفضّلت اللجوء الى قمع الاكراد ومحقهم قومياً. والواقع ان الأكراد حصلوا بعد الحرب العالمية الأولى على وعود من البريطانيين والعراقيين تشير الى تحقيق رغباتهم القومية في حال انضمامهم الى الدولة العراقية الحديثة. لكن الخطأ الكبير الذي وقعت فيه القيادة السياسية الكردية في ذلك الشطر الزمني، انها لم تعمل من أجل الحصول على وعود مدونة وموقّعة ورسمية من مراكز القرار السياسي، العراقي والبريطاني، حول الشكل الذي ترتأيه لحقوق شعبها في إطار الدولة العراقية، ما مهّد في ما بعد، لتراجع الحكومات المتعاقبة عن تنفيذ الوعود اعتباراً من عام 1921. واللافت أن السمة الديموقراطية التي طبعت بعض أنظمة الحكم في العراق في فترات زمنية محددة، لم تمنع الحكام العراقيين من المضي في سياسة سحق الواقع الذاتي الكردي ومميزاته وثقافته واقتصاده ووحدته لسبب أساسي هو فقدان نص مكتوب يلزمهم من الناحية القانونية بمعاملة الاكراد وفق سوّية المواطنة الكاملة. كذلك لم يفد في وقف الاندفاعة الشوفينية للأنظمة السابقة ثورات وانتفاضات مسلحة غطت المشهد السياسي الكردي طوال القرن الماضي وفي مقدمها ثورة ايلول سبتمبر 1961 التي قادها الزعيم الكردي الراحل مصطفى بارزاني. فيما الحال تقوم على هذا التراث السحيق من اللا ثقة المتبادلة، يعتقد الأكراد أن الخطوة الصحيحة في المرحلة الراهنة التي هي مرحلة تأسيس عراق جديد، هي حصولهم المسبق على إقرار عراقي رسمي وصريح لا بإحترام ارادتهم في الفيدرالية فحسب، بل بموافقة مجلس الحكم العراقي على المشروع الذي قدموه في هذا الخصوص وإعتباره، أي المشروع، وثيقة رسمية ملزمة للعراق المستقبلي. وهذا كلّه، قبل وضع الاسس الكفيلة بإعادة دمجهم في الدولة العراقية بعد اثني عشر عاماً قضوها في بناء تجربة قومية شبه مستقلة في كردستان العراق شهد الجميع على انها تجربة ديموقراطية سائرة بخطى حثيثة وثابتة في طريق التكامل. لكن المشكلة في جوهرها، لا تقتصر على سياقات التاريخ وحالات اللا ثقة فقط. بل هناك شعور كردي جارف مؤداه أن الاكراد قدموا كثيراً من الدماء والجهود والتضحيات على طريق التخلص من النظام السابق في حرب حرية العراق من جهة، والمشاركة مع الأطراف العراقية الأخرى في وضع اسس بناء العراق الجديد من جهة ثانية خلال الاشهر الثمانية الماضية. ويرى بارزاني في مقاله الذي حظي باستقطاب كبير بين الأكراد، أن الغاية من حرب تحرير العراق ومشاركة المقاتلين الأكراد البيشمركه في أوارها لم تكن اطاحة النظام السابق فقط، بل كانت في جزء حيوي منها تجسيداً لإرادة العراقيين والأكراد في إقامة نظام سياسي جديد يضمن تحقيق المطالب المشروعة لمختلف التكوينات العراقية كالأكراد والشيعة. وما أعطى هذه المسألة بعدها الحقيقي أن الاحزاب الكردية توصلت مع القوى السياسية العراقية التي كانت تؤلف في فترة ما قبل الحرب جماعات المعارضة العراقية الى اتفاق صريح وواضح على الخطوط الاساسية لعراق المستقبل بين مفرداته احترام الارادة الكردية في الفيديرالية. لكن الأكراد يرون ان تلك الأطراف لم تعبّر عن مواقف توضح استمرار التزامها في ظل الاوضاع الجديدة بالإتفاق. في هذا المنحى، يمكن القول إن التجربة الديموقراطية التي أقامها الأكراد ظلت طوال السنوات الماضية مثالاً ناجحاً يوحي بقدرة العراقيين على بناء مؤسسات المجتمع المدني وإتخاذ الخطوات الصحيحة للسير في الاتجاه الديموقراطي الصحيح. علاوة على هذا، لم يبخل الأكراد، قبل إطاحة النظام السابق أو بعدها، في تأكيد أن تجربتهم ليست ذاتية خالصة، إنما عراقية وصالحة لكل العراقيين. ولا أدل على هذا من الإشارة الى عدم ترددهم في تحويل أراضيهم الى جبهة شمالية لإطاحة النظام السابق. كما لم يترددوا في الدخول في نزاعات وتوترات خطيرة مع دول الجوار، في مقدمتها تركيا، لا دفاعاً عن ارضهم إنما دفاعاً عن العراق. أما إذا جادل أحد بأن الموقف الكردي ضد انتشار القوات التركية قبل أشهر لم ينبع سوى عن عقدة كردية تاريخية ضد الجيوش التركية، فإن أقل ما يمكن ان يقوله الأكراد هو ان الجيش التركي لم يعتزم الانتشار في الاراضي الكردية، إنما في غرب العراق وأطراف الانبار وتكريت، ما يؤكد ان الموقف الكردي إزاء تركيا كان عراقياً أكثر منه كردياً. الى ذلك يضيف الأكراد أن الأوضاع الراهنة اختلفت عن السابق على كل الصعد الكردية والعراقية والإقليمية والدولية. وهناك أيضاً نجاح التجربة الكردية في اثبات كونها عنصر استقرار في المنطقة على عكس ما كان شائعاً في السابق من إنها عنصر زعزعة، بالإضافة الى درجة الإتضاح الواسعة نسبياً في الرؤية العالمية لأحقية الاكراد في الحصول على حقوق متناغمة مع رغباتهم في اتحاد اختياري في إطار دولة عراقية موحدة. لكل هذا، فإن الأكراد لا يبدون في حالة استعداد للقبول بأقل من الفيديرالية السياسية القائمة على العنصرين الجغرافي والقومي. بل أن أوساطاً بينهم تشدد على ان أي قبول بأقل من هذا، قد لا يفضي في محصلته النهائية إلا الى إعادة وضع المستقبل الكردي في دائرة ملتهبة من الغموض والمحق. والواقع ان بارزاني لفت الى هذه الحالة بتأكيده ان الاكراد في حال فرض أي صيغة قومية عليهم أقل من صيغة الفيديرالية فإنهم قد يلجأون الى خيارات أخرى غير خيار القبول بعراق لا يحترم ارادتهم. التطهير العراقي وإزالة آثاره يجادل الاكراد بأن الحكومات السابقة غيّرت بشكل منهجي الطابع الديموغرافي لمناطقهم، خصوصاً الغنية منها بالنفط والثروة الزراعية. ويؤكدون ان هذه السياسة تجلت في ممارسات التطهير العرقي التي طالت مدينة كركوك وأطرافها ومدن خانقين ومخمور وسنجار وشيخان وزمار والقرى التابعة لها. كما شملت طرد مئات الالوف من العوائل الكردية الى خارج حدود العراق، وبالذات الى ايران، اضافة الى تدمير أكثر من 4 آلاف قرية وترحيل أهاليها الى مجمعات سكانية قسرية ومدن أخرى في جنوبالعراق ووسطه. وكان واضحاً أن الغرض الرئيسي من وراء هذه السياسة هو تعريب المناطق الكردية، وقد بلغت هذه السياسة ذروتها المأسوية في حرب الأنفال في عامي 1987 و 1988، وكان أحد فصولها قصف مدينة حلبجة بالاسلحة الكيماوية. يؤكد مسعود بارزاني في مقاله ضرورة اعادة التوازن الديموغرافي المختل لكردستان العراق. ويرى أن هذا التوازن سيمكّن المنطقة الكردية، كوحدة سياسية وادارية وجغرافية واحدة، من المشاركة بشكل فاعل وحيوي في بناء العراق الجديد. ويدعو ايضاً الى ضرورة أن تضم الخريطة الفيديرالية كل المناطق الكردية التي كانت تحت سيطرة النظام في السنوات السابقة، مع تركيز اساسي على اعادة توطين سكانها المهجرين وتوفير مستلزمات الحياة والعمل لهم. وفي هذا الإطار يشير بارزاني الى أن الحركة السياسية الكردية لم تطالب يوماً بإعادة ضم كركوك الى المناطق الكردية لكونها مدينة نفطية، بل طالبت بها لأنها جزء من النسيج الجغرافي التاريخي لكردستان العراق، مشيراً الى أن ازالة آثار سياسة التطهير العرقي من المناطق الكردية أمر لا ينبع من رغبة قومية صرفة، إنما من حرص كردي عميق على تعزيز العلاقات العربية - الكردية في العراق المستقبلي بإعتبار أن تلك السياسة شكّلت على الدوام عاملاً أساسياً لتوتير الاجواء بين الطرفين وهيأت مصدراً لنيران الثورات الكردية ضد الحكومات المركزية في بغداد. من دون شك، لا يربط الاكراد استكمال عملية ازالة آثار التطهير العرقي بمدى استعدادهم للمشاركة في بناء العراق الجديد. لكنهم يصرّون على ضرورة العودة في ما يخص كركوك وبقية المناطق المعرّبة، في أي انتخابات مقبلة الى الاحصاء السكاني الذي أجراه النظام الملكي العراقي عام 1957، أو في قرار إعادة المدينة الى حضنها الإداري الأول. أما كيفية إزالة أثار التطهير العرقي، فإن الاكراد لا يبدون اعتراضاً كبيراً على التأني في تحقيقها والإنتظار الى حين تشكيل الحكومة العراقية المقبلة للإنتهاء من تفصيلاتها. هل يعني هذا الكلام أن العراق يواجه عقبة حقيقية أخرى الى جانب العقبة الأمنية في المثلث السني العراقي؟ الرد يمكن تلمسه في قلب كل كردي عراقي اعتقد أن عراق ما بعد صدام حسين سيكون بلد الديموقراطية والتسامح والتناغم، لكنه لم يلمس حتى الآن أي تحول على أرض الواقع. ثم هل يعني هذا الكلام أن الأكراد عازمون على الإبتعاد عن ركب العراق؟ بارزاني الذي يعرف بُبعد نظره السياسي شدد في مقاله على عزم شعبه على الدفاع بكل طاقاته عن العراق الموحد، لكنه اشترط لذلك أن يكون هذا العراق ديموقراطياً برلمانياً فيديرالياً، أي عراقاً خالياً من آثار التطهير العرقي والمذهبي. * كاتب كردي عراقي.