نشر الدكتور غسان العطية رئيس تحرير مجلة "الملف العراقي" مقالاً في "الحياة" يوم 28 ايار مايو الماضي وأعيد نشره في الملف العراقي، العدد 90 لشهر حزيران يونيو الجاري تحت عنوان: "مقترحات في الوضع الدستوري لعراق ما بعد صدام". يتضمن المقال أفكاراً عامة جيدة كإشارته الى ضرورة "احترام الحقوق المشروعة للطوائف والأقليات الدينية والاثنية، والمشاركة المتوازنة في السلطة بدءاً من البلدية الى الحكومة، واعتماد مزيج من الفيديرالية واللامركزية في الإدارة والسلطة، واحترام كافة حقوق الانسان...". لكن المقال يخفق في التصدي لأهم مشكلتين تواجهان العراق، وهما القضية الكردية والمسألة الطائفية، على رغم ما ورد في عنوانه من عبارة التصدي لهاتين المشكلتين. سأحاول التركيز على جله للمسألة الكردية. ان الحل الذي يقترحه للمسألة الكردية في العراق لا يتفق مع وقائع التاريخ الكردي. فالشعب الكردي يعيش في هذا الجزء من كردستان على أرضه المحددة جغرافياً وتاريخياً. ولا نعود هنا كثيراً الى الوراء. لنستشهد بآراء العديد من الباحثين القدامى الذين حددوا كردستان، بل نكتفي بآراء المؤرخين محمد أمين زكي وعبدالرزاق الحسني والباحث الدكتور شاكر خصباك، وأخيراً الباحث الاستاذ حسن الجلبي، فإذا كان الأمر بهذا الوضوح، فلماذا الاستعانة "بصيغ توفيقية خاصة"، خصوصاً وان بعض تلك "الصيغ التوفيقية" سبق واستعان بها النظام العراقي اكثر من مرة في المفاوضات التي اجراها مع القيادة الكردية قبل إبرام اتفاق 11 آذار مارس 1970، وخلال مفاوضاته مع قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1984، واخيراً في مفاوضاته مع القيادة السياسية للجبهة الكردستانية خلال صيف 1991. أجمعت القيادات السياسية الكردية خلال سير تلك المفاوضات مع النظام العراقي على رفضهم لتلك الحلول المبتورة، فكيف يقبلون بها اليوم حتى ولو طُرحت بصيغ مختلفة. يبدو ان الباحث غير ملم بالاتفاق الذي حصل بين المرحوم مصطفى البارزاني والنظام العراقي عام 1970، الذي تأجل بموجبه بحث مستقبل منطقة كركوك لحين اجراء احصاء فيها خلال فترة معلومة. وخلال تلك الفترة باشر النظام بتوطين الألوف من العوائل العربية التي جلبت من وسط العراق وجنوبه، مع طرد الألوف من العوامل الكردية، خصوصاً من بين الموظفين والعمال، الى مناطق اخرى من العراق. وعندما تبين له ان نتائج الاحصاء لن تكون لصالحه على رغم تلك الممارسات العنصرية المخالفة لروح الاتفاق المذكور، أخذ يخلق المشاكل والمعاذير الموهومة التي أدت في النهاية الى شن الهجوم العسكري على الحركة الكردية في اذار 1974. ان المآسي التي حلت بالشعب الكردي على أيدي الأنظمة العراقية المختلفة، خصوصاً منذ عام 1963 ولحد الآن، خلقت لديهم حال عدم ثقة بالطرف المقابل، وتبقى آثارها عالقة في أذهانهم خلال فترة طويلة من الزمن. ان هناك أموراً مهمة وأساسية بالنسبة للكرد، كضرورة إدانة سياسة التطهير العرقي التي مارسها النظام العراقي ولا يزال يمارسها في المناطق الكردية الخاضعة لسيطرته. لكن أطرافاً عديدة من المعارضة العراقية تسكت عن تلك الممارسات العنصرية، على رغم انها تدرك ان أبعادها ونتائجها لا تختلف عن تلك التي تسعى لخلقها السلطات الاسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والسلطات الصربية في البوسنة وفي كوسوفو. وما يزيد من حال عدم الثقة لدى الكرد، ان أطرافاً من المعارضة العراقية الحالية ساهمت في تنفيذ تلك السياسة العنصرية عندما كانت جزءاً من النظام. وبدلاً من ادانتها الآن، تلتزم الصمت والسكون .... فأين موقف الباحث من هذه الاجراءات والممارسات، وكيف يحق له إسباغ الشرعية على نتائج تلك الممارسات العنصرية. كان الأولى بالباحث ان يقول ان الاحصاء العراقي الرسمي الذي أجري عام 1957 - ولا يعترف الكرد بغيره - يجب ان يكون الاساس لتحديد الحال القومية في منطقة كركوك، لا أن يقول ان كركوك "التي يقطنها مزيج مذهبي وقومي تركمان، كرد، عرب" يجعل منها "ذات خصوصية وتحتاج الى صيغة توفيقية خاصة" .... إن الحرص على بقاء الكيان العراقي موحداً لا يتم بطرح أفكار لا تأخذ الحقائق التاريخية بالحسبان. ان منطقة كركوك كانت جزءاً من كردستان، وأُسبغ عليها تلك الصفة وعلى ولاية الموصل بأكملها يوم زارها الرحالة العثماني المعروف شمس الدين سامي قبل أكثر من قرن من الزمان، وليس بإمكان أحد سحب تلك الصفة منها مهما كانت تبريراته. كان قادة النظام العراقي لا ينكرون عن منطقة كركوك صفتها الكردية خلال مفاوضاتهم مع ممثلي الشعب الكردي، لكنهم كانوا يتذرعون تارة بحرجهم أمام قواعدهم، وأخرى بوجودهم في حرب طاحنة مع ايران أو مع الدول الغربية. اما التذرع بكونها منطقة يقطنها "مزيج مذهبي وقومي" وهو ما يستلزم "صيغة توفيقية خاصة" انطلاقاً من نتائج الممارسات العنصرية للنظام وليس على أساس احصاء عام 1957، فيرفضها الكرد الآن كما رفضوا غيرها سابقاً. إن المشاكل القائمة في العراق والتي هي من صنع الانظمة العراقية المختلفة منذ تأسيس الدولة العراقية، لا يمكن حلها بتكريس النتائج التي ترتبت على ممارسات الانظمة العنصرية والطائفية، بل بإزالة تلك النتائج وعدم إفساح المجال لعودتها مرة اخرى. ولا يتم ذلك إلا بقبول الفىديرالية لعراق الغد وتقسيمه الى اقليمين عربي وكردستاني تتمتع في اطارهما كل القوميات والاثنيات والمذاهب بحقوق متساوية وضمان حقوق الانسان واعتماد الديموقراطية في العراق بوجود مجلسين أحدهما يمثل مجموع الشعب العراقي، والآخر يمثل الاقليمين بصورة متساوية، مع وجود محكمة دستورية عليا تشرف على ضمان تطبيق أحكام الدستور والقوانين. أما تقسيم العراق حسب أسس طائفية، ففضلاً عن تعذر ذلك، فإنه هو الذي يؤدي الى تكريس الطائفية التي حاربناها وسنحاربها الآن ايضاً. لندن - نوري طالباني قانوني كردي مقيم في بريطانيا امين سر جمعية حلقات الفكر والدراسات الاسلامية.