نقلت وسائل الإعلام، فيما يخص الدول والسياسات العربية، من مناقشات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس رأي وزير خارجية قطر في صدق عزم الرئيس السوري على السلام، ومرارة جمال حسني مبارك جراء السياسة الأميركية وصنوف تأييدها الديموقراطية والديموقراطيين في العالم العربي، الى لقاء نبيل شعث وشيمون بيريز ومصافحة بيريز وبرويز مشرف الباكستاني، وهذا خارج نطاق السياسات العربية على المعنى الضيق. وأما إجماع بعض رجال الأعمال والسياسيين العرب، وبين هؤلاء سلمان بن حمد آل خليفة البحريني، على ان الخروج من الأزمة العربية العامة والمتفاقمة يقتضي انكباب السياسات العربية على ثلاثة امور: إرساء دولة الحق والقانون، وإصلاح القطاع العام بالتضييق على الفساد، وفتح الأسواق الداخلية بعضها على بعض وإضعاف معوقات التداول - اما هذا الإجماع فلم يحظ بانتباه الإعلام، ولا استوقف العناوين الأولى ولا الثانوية في الصحف او في نشرات الأخبار المتلفزة والإذاعية. ففي الأثناء تصدرت الإعلام اخبار التظاهرات العراقية التي دعاها السيد محمد علي السيستاني، من النجف، الى المطالبة بانتخابات عامة ومباشرة في العراق قبل نقل التحالف، والحاكم المدني الأعلى، السلطة الى العراقيين عشية آخر حزيران يونيو الآتي. والحق ان التظاهرات الكبيرة لم تتصدر الإعلام، إخباراً وتحليلاً وتحقيقاً، إلا جراء تمثيلها الظاهر، على ما استنفد الإعلام جهده في التنبيه والتشديد، على بروز السيستاني "قوة جماهيرية" عظيمة. فوضعت الصحف والشبكات والإذاعات على لسان الرجل الإنذار تلو الإنذار، والتهديد تلو التهديد، بماذا؟ ب"فتوى" تدعو الى جهاد "الأميركيين"، وتجيز مقاتلتهم وطردهم. فيلتئم، من جديد، عقد العراقيين وشملهم. وتعود الى العراق، من جديد، وحدته التي كسرها الاحتلال الأميركي، وشمرت المقاومة في سبيل إرسائها هذه المرة، على ركن من فولاذ لا يُفل. وبدت الخيبة على الإعلام الجماهيري غداة تكذيب مكتب السيستاني ما قيل في تخطيه المطالبة بالانتخابات العامة والمباشرة الى الإنذار والتهديد والفتوى. وما لبث الرجل ان عاد الى انكفائه. وهو ينتظر قدوم لجنة الأممالمتحدة الى العراق، وتقصيها ظروف البلد، ورأيها، بناء عليه، في اجراء الانتخابات على النحو الذي ربما يميل إليه "العالم" الإيراني النجفي. ولم يُعِر الإعلام الجماهيري انتباهه ردّ مقتدى الصدر على السيستاني. فهو دعا أنصاره ببغداد، في المعقل الذي ورثه عن والده ووضع يده عليه قبل انهيار صدام حسين، الى التظاهر إنكاراً لاضطلاع الأممالمتحدة بدور في العراق، وهي تولت، على زعم المحرض الشاب والمتهم بالضلوع في اغتيال عبدالمجيد الخوئي بالنجف، الاعترافَ بالاحتلال. واستعجلت التظاهرات الصدرية الانتخابات، وقرنتها باستعجال محاكمة صدام حسين وإعدامه أو إعدامه قبل محاكمته، على مثال عدالة "سرها" من مكنونات "علم" الصدر وأمثاله، وبرفض الفيديرالية "الكردية". وبدا، بإزاء تظاهرات القطبين، ميل إعلامي "شارعي" بعضه اوروبي وأميركي، الى مظاهرة السيستاني وتأييده، او تعظيم دوره، ليس لتفوق رأيه، في ميزان سياسة العراق العامة ومصالح العراقيين الجامعة، على نزق منافسه، المحرض والمستولي على العراقيين الشيعة النازحين الى "حزام" المخيمات البغدادية البائسة. فرأي السيستاني، او ما نقل عنه من رأي، لا يتعدى إثبات مبدأ "اميركي" في الانتخاب. وهو لا يتجاوزه الى معالجة الانقسامات العراقية، وموازنة هشاشة الأبنية السياسية المستقلة، وإنضاج عناصر اختيار عراقي شعبي ومتبلور في صيغة دستور مقترح، وهيكل مؤسسات، ونمط عمل إدارة، ترسي بعض اسس دولة الحق "الدافوسية" بعض الشيء. فما بهر الرأي العام "الشارعي" والجماهيري، وما ردد الإعلام السياسي على مثال "الاقتصاد السياسي" اصداءه، هو قوة السيستاني غير المتوقعة، وتلويحه بالفتوى العتيدة. فأيقظ الأمران، القوة الجماهيرية والفتوى، اطياف الحركة الخمينية، في اواخر 1978 وأوائل 1979. فيومها، وهو "يوم" اعلامي مجيد، ايقنت "كتلة تاريخية" من الكادحين والمثقفين والطبقة الوسطى الوطنية ان صناعة التاريخ في متناول اليد والقلم وعدسة التصوير. وهذا بهر بعض الثقافة الغربية، او الأوروبية، واليساريين والمعممين المحدثين، فوق ما بهر اصحاب الشأن المفترضين. واليوم تعول بعض الصحافة الأميركية على "اعتدال" السيستاني، وأثره الجماهيري المفاجئ، في رعاية انتقال مطمئن وآمن للسلطة، على قدر ما يعول انصار المقاومة الصدامية - اللادنية على فتواه المزعومة في سبيل اشتعالها وعمومها العراقيين. وفي الحالين يُراد للناس ان يشهدوا ولادة "بطل". فالرجل الذي رجا عشائر الفرات الأوسط، حول النجف، ان تحميه من عدوان الغوغاء التي حررها سقوط "دولة" صدام حسين، ومعظمها من الشيعة وأقلها من فرق الاغتيال المتخلفة عن الأجهزة، ينتفض من رماد الضعف، ويبعث قائداً "شديد الذكاء"، تمنعه كبرياؤه من استقبال بول بريمر، الحاكم المدني، الجاثي على ركبتيه، والطائر الى واشنطن مستشيراً وراضخاً عند التفاتة ضئيلة، بالواسطة، من آية الله العظمى الصامتة على قول زعيم "مدينة الصدر" والمتخفية. وعلى نحو قريب من بروز السيستاني من وراء حجب الحوزة النجفية "شمساً" شارعية وجماهيرية تناط بها الآمال المتضاربة والمتناقضة، يبرز في باكستان او هو في طور البروز والظهور عبدالقادر خان، عالم الذرة و"والد" القنبلة الذرية، من وراء ابخرة المختبرات، وأجهزة الطرد المركزي التي "تلد" اليورانيوم المخصب، غذاء الانشطار المدمر. فغداة التفتيش الدولي في المنشآت الإيرانية النووية، ظهرت على هذه المنشآت علامات استيراد اجهزة ملوثة يرجح أن منشأها صانعو "القنبلة الذرية الإسلامية الأولى"، على قول وزير خارجية ايران، خرازي، بمطار اسلام اباد مهنئاً بالمولود السعيد في 1998. وعلى رغم توقيع ساسة طهران ميثاق تفتيش الوكالة الدولية للطاقة النووية، فهم لم يكفوا عن استيراد اجهزة الصناعة النووية ذات الاستعمال المزدوج، المدني والعسكري. ومن يسميه بعض مواطنيه من الإسلاميين الباكستانيين، انصار "طالبان" ومستنزلي البركة على بن لادن في دعائهم وصلاتهم، "بطلاً قومياً"، يرجح انه هو ومساعده محمد فاروق مصدر الأجهزة الإيرانية. ويخشى مراقبون فيما يرجو مناضلون ان ينقل عبدالقادر خان ومحمد فاروق بعض عناصر الصناعة الذرية العسكرية الى جماعات تنشط على هدي "مشورة" بن لادن ولفيفه. وهذا الوجه من علم الرجلين، ومهارتهما، يدعو تحالف الأحزاب السياسية الباكستانية المعارضة، وهي جزء من هيئات الحكم بباكستان ولا سيما من المجلس التشريعي، الى "الانتصار للعلماء"، وتنظيم تظاهرات جماهيرية تأييداً لهم. ولا يدعو توسل العالمين، وغيرهما ربما، بعلمهم الى خزن الثروات بالدولار في حسابات مصرفية، لقاء بيعهم علمهم الى ساسة ايران وليبيا وربما كوريا الشمالية وعلى هذا الطرز تبني الثورة الإيرانية صرحها العلمي والتقني وتقدمها، على قول خامنئي - لا يدعو مؤيديهم والمنتصرين لهم الى النظر في الأمر. ف"أبطال الأمة الباكستانية"، صناع "درعها النووية" بإزاء الهند، على قول قاضي حسين احمد، حالوا بين هذه وبين الهجوم على باكستان. وعلى هذا فهم يستحقون التظاهرات الحاشدة، والتهديد بالزحف على العاصمة، وربما المضي على محاولة اغتيال برويز مشرف الى ان يستقر المقام بأركان بن لادن بوزيرستان الباكستانية، ويطمئنوا. فالحرب على الهند، وإجلاؤها عن كشمير على استحالتها النووية، تتصدر برنامج القوة الباكستانية الجماهيري والشارعي. وعبدالقادر خان وزملاؤه ابطال هذا البرنامج. وهو إذا ادى الى دولة الغصب والفساد والدمار، وسلط على السياسة والمجتمع قوى خفية لا وجه لها ولا حساب على ما تفعل، وإذا لم يُعِد الولايات البنغالية الى باكستان الأم "بلد الأطهار"، على قول الأب المؤسس، فلا ضير في ذلك ولا حيف. فكرامة الأمة من كرامة "ابطالها" العلماء وعسكر "طيبتها" و"شهدائها"، من قضى منهم ومن يكدس الحسابات السرية في المصارف. ويسعى في الأرض إرهاباً وفساداً واستبداداً. وختام الأسبوع الذي شهد تظاهرات السيستاني ونقضَ الصدر عليها، وتوجيه التهمة الى عبدالقادر خان وبعض زملائه - وكان شهد انعقاد منتدى الاستكبار والمستكبرين في دافوس والتوصية بضرورة اجتراح ستة ملايين فرصة عمل جديدة في السنة طوال خمس عشرة سنة لامتصاص بطالة الشباب - ختامه كان مسكاً. ففي يوم السبت منه اعلن الوسيط الألماني في مفاوضات "حزب الله" اللبناني، وراعييه الإيراني والسوري، وإسرائيل على تبادل "الأسرى" ورفات القتلى، عن وشك اجراء المبادلة. واحتفظ امين عام الحزب لنفسه بإعلان الأمر في مؤتمر صحافي عامر دام زهاء ساعتين. وأجمعت الصحافة، على خطى الرأي العام الشعبي، على ان المبادلة تتوج انتصاراً "تاريخياً" وهي صفة اطلقها آرييل شارون وجان عبيد، وزير الخارجية اللبناني ل"حزب الله"، ولأمينه العام. ولم يتواضع الأمين العام العتيد الى التقليل من صفة التاريخية، او الى التقييد منها. ف"تحرير" اربعمئة فلسطيني شارفوا انتهاء اعتقالهم، ولم يضلعوا في مقاومة بطولية على المثال المعروف، الى واحد وثلاثين لبنانياً - فيهم بعض "الوجوه المضيئة من وجوه الإسلام في لبنان" على قول آية الله عظمى، غير السابقة، في منشئ "حركة التوحيد الإسلامي" بطرابلس مثل مصطفى الديراني مسؤول التحقيقات في الجيش اللبناني قبل ان يرتقي مسؤولية الأمن في "امل" وينشئ "المقاومة المؤمنة"، في آن، ابان احتدام الخلاف والاغتيالات بالواسطة بين "امل" و"حزب الله"، وورثة ايران العسكرية التي ادت الى تسليم خميني بوقف النار في صيف 1988 -، ورفات بضع عشرات من المقاتلين في "مقبرة الأرقام"، هذا كله قمين ببسط نفوذ حسن نصر الله على ما لا يحصى من الشوارع والجماهير العربية والإسلامية. وانتزاع "ابطال الأمة العربية" من براثن اسرائيل وسجونها، والانتصار لهم بقوة الهالة التي تجلل المفاوض وزعيم المنظمة الأهلية الأمنية والعسكرية في اعين الجماهير، إنجاز يعد "حزب الله"، و"الدولة" من ورائه وبين يديه، العدة للاحتفال به بأقواس النصر والأعلام والحشود التي قد تفوق حشود قاضي حسين احمد انتصاراً لعبدالقادر خان وأصحابه "الأبطال". ولا ضير، في هذا المعرض كذلك، من تسديد ثمن "البطولة" الأمنية هذه نفوذاً خفياً ومتعاظماً لا رقابة عليه وليس هو اهلاً ليراقب شيئاً، ومَسْخاً للانتخاب والاقتراع يحيلهما الى مسرح خاو، وانقياداً لقوى بلاؤها العظيم يقتصر على ميدان اجهزة التخصيب الملوثة وشرائها خفية، وهرباً للاستثمارات المجدية في لبنان وغيره. ولكن حجة المنظمة الأهلية والأمنية التي لا ترد هي الحشود التي لن تتردد في استقبال "الأبطال" العائدين، والاحتفال بهم. وهي عينها الحجة العراقيةوالباكستانية. وإذا كان حشر مجتهد سيستان وفقيهها في هذه القافلة افتئاتاً وتجاوزاً، فهو ليس إلا قرينة على صنف الاحتجاج السياسي السائد والسائر، وعلى نوع الثقافة السياسية، الشارعية والجماهيرية، و"نبضها" على المعنى السوري الرسمي. وفي الأثناء يسع التسعين مليون فرصة عمل ان تنتظر هي ودولة الحق والقانون وإصلاح القطاع العام وفتح الأسواق الداخلية. فاليوم نشوة نصر و"غداً" امر. * كاتب لبناني.