فرزت الحركة السياسية في سورية في تاريخها الحديث والمعاصر عدداً من الشخصيات السياسية المهمة التي عرفت محلياً وعربياً وعالمياً، وأثارت حولها أسئلة كثيرة. ومع الأسف، فإننا لا نتذكر مثل هذه الشخصيات ودورها وسلبياتها وايجابياتها إلاّ عندما تموت! وها هي شخصية جديدة عرفتها سورية، في مرحلتي الخمسينات والستينات وما قبلهما، ترحل عن هذه الحياة، تاركة الكثير من التساؤلات التاريخية السياسية، التي لم تحسم حقيقتها حتى يومنا هذا. هذه الشخصية هي شخصية الدكتور ناظم القدسي الذي توفي قبل أيام عن عمر يناهز الاثنين والتسعين عاماً، بعد أن توفي قبله الكثير من الشخصيات السورية، التي كانت فاعلة في الحياة السياسية، كشكري القوتلي وأكرم الحوراني وخالد بكداش وعفيف البزري ونورالدين الاتاسي. لقد شغل ناظم القدسي العديد من المهام السياسية كنائب في البرلمان، وسفير ووزير للخارجية ورئيس للوزراء ورئيس للبرلمان، بالاضافة إلى المحطة الأهم في حياته والتي هي رئاسة الجمهورية. ورحيل هذه الشخصية في أيامنا هذه وبعد مرور نحو أربعين عاماً على قيام الجمهورية العربية المتحدة، يفسح المجال للحديث عن مرحلة مهمة من تاريخ سورية الحديث هي فترة حكم الانفصال وتفكيك الجمهورية العربية المتحدة التي قامت بين مصر وسورية ورأسها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. فناظم القدسي كان رئيساً للجمهورية إبان حكم الانفصال، وكان وصوله إلى هذا الموقع، وفي تلك الفترة بالضبط، خطيئة سياسية ارتكبها هو، ونجا منها خالد العظم ورشدي الكيخيا اللذان كان قد طُرح اسم كل منهما لشغل هذا المنصب. وقد تراجع خالد العظم الذي رشح نفسه بالفعل لصالح ناظم القدسي بحجة إرضاء أبناء حلب التي ينتمي إليها القدسي. ومهما قيل عن شخصية ناظم القدسي، فإن ذاكرتنا السياسية والوطنية حفظته على أنه رئيس جمهورية الانفصال التي قامت على انقاض دولة الوحدة، والتي اسقطتها ثورة الثامن من آذار مارس 1963. إن كل رموز تلك المرحلة كانوا يكنون الاحترام لناظم القدسي ولشخصيته الديموقراطية الجذابة، والتي تحب المزاح السياسي وتتقبل آراء الآخرين ومزاجهم. لكن طبيعة هذه الشخصية وجاذبيتها لم تحل دون وصفها بالانفصالية والمعادية للوحدة، بل أن كثيرين أكدوا وجود مصالح طبقية وراء انحسارها زمن الوحدة وصعودها بعد وقوع الانفصال! لقد وقعت جريمة الانفصال في الثامن والعشرين من ايلول سبتمبر 1961، وبعد شهرين ونصف الشهر فقط من هذا التاريخ انتخب القدسي رئيساً للجمهورية، ولم يكن هذا يعني سوى موافقته الكاملة على سقوط دولة الوحدة، إلا أنه حاول الدفاع عن هذه النقطة في أول كلمة له ألقاها أمام البرلمان، حيث تأسف على أن تكون العودة إلى الديموقراطية البرلمانية نتيجة لفشل تجربة الوحدة أو، كما سماها، أعلى الأماني وأقدسها في وحدة الوطن العربي. وقال ناظم القدسي: "إن مبادئ أهدافنا القومية نحو شقيقاتنا العربيات، إنما هي مبادئ مستمدة من واقعنا وتاريخنا وكفاحنا وتضحياتنا. وهي جميعها تفرض علينا ان نعمل على اتحاد صحيح واضح المعالم، بيّن الخطوات، يحقق القوة والمنعة ويضمن سلامة جميع هذه الاقطار في مراحل مرورها التاريخي نحو الوحدة المنشودة". كذلك فإن العودة إلى برنامج حزب الشعب الثاني، الذي ساهم ناظم القدسي في تأسيسه عام 1948 بعد انشقاق مجموعته عن الكتلة الوطنية ، تُرينا كيف أن القدسي ومجموعته دعوا إلى السعي لتحقيق الوحدة العربية عن طريق اتحاد دولي بين البلاد العربية، أو باتخاذ الجامعة العربية وسيلة لتمهيد الطريق أمام الاتحاد. وتمكن ناظم القدسي، الذي مثل هذا الحزب في مرحلته الذهبية، من فرض نفسه كشخصية ديموقراطية ووطنية تعرضت للاضطهاد من قبل الديكتاتور أديب الشيشكلي عام 1951. إلا أن كل ذلك لن يزيل من الذاكرة كون ناظم القدسي رئيس الجمهورية العربية السورية ابان حكم الانفصال! والواقع ان الموقف من قضية الوحدة العربية بشكل عام والموقف من وحدة 1958، سيظل المعيار الذي تحاسب عليه برامج وطروحات الأحزاب والشخصيات السياسية في سورية. وقد كانت قضية الوحدة العربية، بالاضافة إلى القضية الفلسطينية، العامل الحاسم في إظهار أي شخصية سياسية أو حرقها! وعندما وقع الانفصال بدا الحدث كجريمة مروعة ترتكب بحق قضية مقدسة عند الشعب العربي هي قضية الوحدة. وعلى الرغم من أن الكثيرين اعتبروا انقلاب 28 أيلول 1961 بمثابة انتفاضة وثورة على حكم عبدالحكيم عامر وعبدالحميد السراج، فإن القضية بدت أبعد من ذلك بكثير بعد شهور من وقوع الانفصال. فجمال عبدالناصر الذي اعتبر الانفصال هزيمة سياسية كبيرة له لم يكن شخصاً عادياً في حياة الأمة، وكان يمكن في أوج التأييد الجماهيري العفوي له، ان يتحول كل شخص في موقع معارضته إلى عدو لهذه الجماهير. لذلك سارع الجميع إلى اعتبار الانفصال جريمة. ورأى محمد حسنين هيكل أن الانفصال انقلاب دبرته ملايين عدة من الجنيهات دفعت لمن قاموا به. وقال: "لقد تألم عبدالناصر أشد الألم من الانفصال. فقد كانت الوحدة أول تعبير على مستوى دولي عن حلمه بالوحدة العربية. ولم يكتب لها أن تبعث في حياته. ومن هنا فإنه عندما سمع بتورط وكالة المخابرات المركزية الأميركية في المؤامرة، أحس بالتأثر والدهشة معاً، ذلك أنه إذا كان كينيدي يتقرب منه فما الذي يدفع وكالة المخابرات المركزية إلى العمل ضده؟". وفي خطاب مهم كشف جمال عبدالناصر خيوط لعبة الانفصال، بل تم الاعلان عن وجود وثائق حول ذلك في شعبة المخابرات السورية نفسها التي كان يقودها السراج من قبل. وعلى الفور توالت الأحداث في "جمهورية الانفصال" وتعثر حكم ناظم القدسي بعد أقل من عام على توليه السلطة، فقدم استقالته كما زُج به في السجن فور وقوع الانقلاب في 28 آذار 1962، والذي اعتبر خطاب جمال عبدالناصر في عيد الوحدة الذي سبقه 22 شباط سبباً له. والغريب أن الأسماء التي اتهمت هي لطفي الحفار، مأمون الكزبري، صبري العسلي، معروف الدواليبي، سعيد الكلاوي، وخالد العظم. ولم يرد اسم ناظم القدسي بينها، وربما كان ذلك هو السبب في عودته إلى سدة الحكم بعد يومين من سجنه، بالاتفاق مع قائد الجيش عبدالكريم زهرالدين. وفور عودة القدسي إلى الحكم، بارك الجيش هذه الخطوة. وسارع رئيس الجمهورية العائد من السجن إلى إصدار بيان أكد فيه أنه "والحكومة التي تتألف للفترة الانتقالية سنبذل كل ما في وسعنا من جهود ممكنة لإرساء حياة دستورية ديموقراطية سليمة، ومباشرة العمل من أجل الوحدة مع البلاد العربية مبتدئين بمصر العزيزة على أسس واضحة مستمدة من التجارب...". ثم قبل ناظم القدسي استقالة وزارة معروف الدواليبي، وكلف بشير العظمة بتشكيل الوزارة. ونلاحظ ان عبدالكريم زهرالدين قد أضحى في هذه الوزارة وزيراً للدفاع، كما تمكن عبدالحميد السراج من الفرار من سجنه! وبعد أقل من عام واحد على هذه الأحداث، سقط حكم الانفصال، وسقطت معه الكثير من المقولات التي نمت في ظله. ومنذ ذلك الوقت غاب الدكتور ناظم القدسي عن الأحداث، فعاش قريباً من سورية، أي في لبنان، سنوات طويلة، ثم حرمته الحرب الأهلية في لبنان من هذا القرب، فذهب إلى لندن ثم وافته المنية في عمّان القريبة بدورها من سورية. ولم يكن ناظم القدسي سوى واحد ممن برزوا في تاريخ سورية، إلاّ أن الموقف منه لم يتحدد بعد، أي أن ارتباط اسمه بمرحلة الانفصال لم يكن يعني حكماً نهائياً إلا من الذاكرة التي تربط اسمه بوقوع حدث اعتبر جريمة. كان ناظم القدسي، ومنذ أيام الكتلة الوطنية، واحداً ممن ساهموا بنشاط في الحياة السياسية السورية، وسواء اعتبر مع رشدي الكيخيا وآخرين، من رموز البورجوازية السورية أم لا، فإنه في نهاية المطاف واحد ممن أسسوا لحركة سياسية قوية نهضت ابان الاستعمار الفرنسي وكانت فاعلة ابان الاستقلال وبعده. ومع رحيل ناظم القدسي تبدو دراسة شخصيته واجباً وطنياً على دارسي الحركة السياسية في سورية، لأن التاريخ وشخصياته ملك للوطن بشكل عام، وعلينا جميعاً قراءة كل ما خفي وأعلن من وثائق هذا الوطن، بدقة وأمانة!