التقيته بعد غياب اشهر عدة قضاها بين بغداد والنجف وكربلاء ونيويورك وواشنطن، وهو يبحث عن "حق الاعتراف بالآخر"، فقال لي: "اكتشفت بعد هذه الرحلة الطويلة أن الاميركيين والديموقراطية الفردية التي ينادون بها ويروجون لها، بل يريدون تعميمها وإن بالقوة على العالم كله، أفضل بكثير ليس فقط من أنظمة التسلط الشرقية، بل من الديموقراطيات المجتمعية أو الاجتماعية الأوروبية مجتمعة لا سيما الفرنسية منها!". وبعد حوار طويل مشدود بيني وبينه وبعد أخذ ورد وشد وجذب لخص لي انتخابه الآنف الذكر بالقول: "انهم عنوان الثروة وسيادتها، مقابل عنوان السلطة وجبروتها"، لذلك فهم أهون على الشعوب والأمم - والأهم على الأفراد - من غيرهم ممن يريدون الاستحواذ على الفرد بشكل أبدي لصالح العقل الجمعي مرة ولصالح الوطن احياناً ولصالح الدين اخرى ولصالح جبروت السلطة في كل الأحيان!". بقدر ما هو عزيز علي هذا الصديق مما يجعلني لا أذكر اسمه هنا حفاظاً على حقه في الدفاع عن نفسه وهو الغائب في هذه الحوارية، بقدر ما هي عزيزة عليّ مقولة "الكفاح من اجل الاعتراف" التي اعتقد أن الاميركيين، والمقصود هنا "مذهب الاميركيين" من حيث تمثيلهم لمبدأ أو أصل الثروة التي يمثلونها في هذه الحوارية، انما يدوسونها بأقدامهم مع فجر كل يوم جديد على رغم كل مظاهر التغني بالديموقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها! يقول جورج بوش في كتابه عن حياة النبي محمد ص 1832: "ما لم يتم تدمير امبرطورية السارزن المسلمين فلن يتمجد الرب بعودة اليهود الى وطن آبائهم وأجدادهم". ويقول السناتور البرت بيفردج في العام 1900: "ان الله اصطفى الأمة الاميركية من بين كل الأمم والشعوب وفضلها عليهم وجعلها شعبه المختار وذلك من أجل قيادة العالم وتخليصه من شروره". ويقول السناتور هارت نبتون في خطاب أمام مجلس الشيوخ في العام 1846: "ان قدر اميركا هو الغزو والتوسع. انها مثل عصا هارون التي صارت أفعى وابتلعت كل الحبال. هكذا ستغزو اميركا الأراضي وتضمها اليها أرضاً بعد أرض. ذلك هو قدر المتجلي. اعطها الوقت وستجدها تبتلع في كل بضع سنوات مفازات بوسع ممالك أوروبا. ذلك هو معدل توسعها". بالمقابل، تقول امرأة من شعب هيداستا من أمم الهنود الحمر التي أبادتهم قوافل "الحجاج" الانكلو ساكسون الاميركيين في العام 1895 ما يأتي: "في بعض الأماسي أجلس أمام نهرنا، نهر الميزوري العظيم، الشمس تغيب والغسق يذوب في المياه وتلوح لي في تلك الظلال قريتنا الهندية... وفي هدير النهر اسمع جلبة المقاتلين تموج مع قهقهات الصغار والكبار، لكنني أحلم! نعم. انها ليست إلا أحلام امرأة عجوز، فأنا لا أرى إلا أشباحاً، ولا اسمع إلا هدير المياه... ثم تنفجر الدموع في عيني، لأنني أعرف ان رجالنا ذُبحوا وان حياتنا الهندية انتهت... الى الأبد". يقول الكاتب السوري والباحث في شؤون القارة الاميركية على مدى عقود الاستاذ منير العكش في كتابه "اميركا والإبادات الجماعية" الصادر عن دار رياض الريس، ملخصاً أبحاثه المعمقة في هذا الشأن ما يأتي: "كانت تلك الإبادة الأكبر والأطول في التاريخ الانساني، والخطوة الأولى على الطريق الى هيروشيما وفيتنام، انهم كما يقول الحاخام المؤرخ لي ليفنغر اكثر يهودية من اليهود لأنهم يعتبرون أنفسهم يهود الروح الذين عهد الله اليهم ما عهده الى يهود اللحم والدم قبل ان يفسدوا ويتخلوا عن أحلام مملكتهم الموعودة. وان يهودية هؤلاء الحجاج هي التي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الاميركي في كل محطاته من بليموث الى جيكور: - المعنى الاسرائيلي لأميركا. - عقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي. - الدور الخلاصي للعالم. - قدرية التوسع اللانهائي. - حق التضحية بالآخر". وأنا بدوري هنا أحاول العودة الى صديقي العزيز صاحب الشأن والمقام في بلاده كما كان يوماً وان كان استقال منه الآن بسبب ما ذهب اليه من رأي في خروجه على سياق تكوينه العائلي والديني والسياسي، إلا أنه يظل يمثل شأناً مهماً في التكوين الاجتماعي العام لبلده من حيث انتماؤه للسلك أو الصنف الذي ينشط فيه، ثم لأهمية ما يذهب اليه من مذهب سياسي وفكري جديد لا ينحصر بفرده بقدر ما صار مذهباً رائجاً لدى العديد من النخب "الوطنية" في عدد من أقطار العالم العربي والاسلامي لا سيما بعد تجربة الاجتياح الاميركي للعراق. أعود اليه فأقول: "قد يكون صحيحاً ما ذهبت اليه وهو ما يشاطرك فيه العديدون من أبناء جلدتنا بأن بلداننا تعيش منذ أمد تحت وطأة ما تسميه ب"الاستبداد الشرقي" اللعين! وان هم السلطة والتسلط واستمرار البقاء في سدة الحكم بأي ثمن كان انما باتت تشكل ثقافة عامة لدى أوساط النخب الحاكمة في بلادنا. لكن في المقابل فإن ما تدعونا، ويدعونا اليه بعض زملائك ومن يشاطرونك الرأي "بضرورة" اللجوء الى سيادة "الثروة" للتخلص من جبروت "السلطة" انما هو في الواقع دعوة مفتوحة الى "اجتياح هوليوودي" للعالم، أزعم واعتقد ان العديد من مناهضي العولمة في العالم معي بعد ان تكرست "أمركة" له في ظل موازين مختلة بامتياز لصالح "القوي" بثروته وامكاناته. إن الإدارة الاميركية الحالية التي تطالبونها بالتدخل ومن ثم بالبقاء أطول فترة ممكنة في بلادنا لتخلصنا من جبروت الاستبداد الشرقي انما تقوم اليوم بحسم كل نزاعاتها بالذخيرة الحية، كما ترون وعلى الهواء مباشرة غير معنية أبداً بما يترتب على ذلك من علاقات دولية قلقة وغير مستقرة، والأهم من كل ذلك لا تعترف بالآخر الذي تكافح انت وأمثالك من أجل انتزاعه عبر الاستعانة بها بعدما فشلت في انتزاعه من حكومتك المحلية. لست محامياً للدفاع عن الحكام في بلداننا كما اتهمتني ويتهمني الكثيرون، ووطني هو عقيدتي كما تعرف، وقلمي الذي أخط به ما أؤمن بضرورة الدفاع عنه على مدى ربع القرن الماضي كما تعرف ويعرف الكثيرون، وحدود الأوطان الشرقية التي نتنقل فيها ما هي إلا من صنع سايكس - بيكو أو ما شابهها من اتفاقات التجزئة، لكن ما هو مطروح علينا كما تعرف في قرارة نفسك على ما أظن هو ليس "الاعتراف بالآخر" الذي نبحث عنه منذ عصر النهضة والصحوة الجديد. بل قبول "حق التضحية بالآخر" وعلى حسابنا بالتحديد. أي ان نكون نحن "الآخر" الأول الذي يجب ان يضحى به حتى تستقر الموازين للآخر القادم من بعيد. أليس إفلاساً للثورة الاميركية ان تصل نهاياتها بقول بيل كلينتون في بداية حملته على الارهاب في العام 1995: "إذا تخليت عن اسرائيل فإن الله سيغضب عليك! وان ارادة الله تقضي بأن تكون اسرائيل الى الأبد"؟! * كاتب متخصص في الشؤون الايرانية.