قبل أيّام كانت بروكسل تعبق بروائح الشرق. الشرق كما يفضله الغربيون عادة، روحانيّاً حدّ الدروشة، كأغاني الزوايا وحلقات الذكر، وساحراً بفضل تأثيرات آلة قانون على آذان تحاصرها موسيقى التكنو من كل جانب. جاءت مجموعة الكندي التي أسسها جوليان جلال الدين فايس العام 1983، لتحتفل بميلادها العشرين في العاصمة البلجيكية... فايس، الفرنسي الأب، السويسري الأم، الكاثوليكي النشأة، الإسلامي الديانة، الشرقي الفؤاد، الحلبي الإقامة وجد نفسه من جديد تحت دائرة الضوء. يتحدث عن الشرق بلغة العارف الواثق أمام جمهور غربي منبهر بهذا الخمسيني ذي القوام الرشيق الذي يتحدث بعربية طليقة لمن لا يعرف من العربية غير كلمة شكراً. "إنه دليل على أن الاندماج مسألة إرادة وعزيمة" أسرّت بلجيكية عجوز إلى جارتها. لكن رحلة "الاندماج" عند جوليان فايس لم تكن قسرية. بل كانت رحلة طوعية طويلة بدأها عازف القيثارة الشاب وهو في السادسة عشرة من العمر. سافر جوليان إلى المغرب وأقام في ساحة جامع الفنا في مراكش العام 1970 بحثاً عن عوالم كانت تجذب شباب الهيبي... قبل أن يغادر إلى الولاياتالمتحدة الأميركية ليعود إلى المغرب بعد ذلك ملبياً نداء الشرق. الشرق الذي لم يعانقه فنياً إلا سنة 1976 عندما استمع لأول مرة في باريس إلى أسطوانة للعواد العراقي الراحل منير بشير. هكذا هجر جوليان قيثارته وراح يجري وراء العود وأوتاره، قبل أن يختار القانون في خضم رحلة إلى الشرق تنقل فيها بين تونس والقاهرة وإسطنبول ودمشق وبيروت وبغداد. ولأن الموسيقى درجات فإن سحر الشرق أيضاً كذلك. هكذا استبدل جوليان اسمه بجلال الدين وتراجعت باريس لصالح حلب، بلد الإقامة الجديد حيث يقطن فايس. ولم يكن لفرقة الكندي أن تصل إلى ما وصلت إليه من شهرة لولا اعتمادها على أسلوب "اللّمة" بشكل بارع. وهي تستقطب المغنين والعازفين وتستبدلهم بحسب متطلبات العمل الفني وطبيعة الحفلة. هذا الأسلوب جعل العديد من شيوخ الإنشاد في سورية يتعاملون مع الفرقة. منشدون كبار من عيار أديب الدايخ وحمزة شكور وصبري مدلل. ووفق سياسة "اللّمة" نفسها كان الحفل الذي احتضنه "فضاء فلاجي" الثقافي في بروكسل غنياً ومتنوعاً. ففي الجزء الأول من العرض كان الجمهور على موعد مع فن المقام العراقي بحضور أحد أبرز قرّاء المقام وحملة تراثه، الفنان العراقي حسين الأعظمي. لكي ينتقل الجزء الثاني بالجمهور إلى سدرة الوجد الروحي مع الشيخ أحمد حبوش وجوقته الصوفية ودرويشه الدوار. وكما يدور الدرويش راحت أرواح الجمهور البلجيكي تدور في شطحات تسافر بهم عبر الفضاء والزمن.