يتعذّر ان تسمع أديب الدايخ يغني من دون ان تتذكر ناظم الغزالي . ويستحيل ان تسمع جوليان جلال الدين فايس يعزف على القانون من غير ان تتذكر السنطور العراقي او السيتار الفارسي أو الهندي. وحين يجتمع الدايخ وفايس في حفلة موسيقية، مثل الحفلات الثلاث التي أحياها في مسرح المدينة، فإن السبيكة السمعية التي يقدمانها للجمهور لا تعود مستعصية على الوصف: تقاسيم على مقامات مختلفة على القانون تليها غزليات شعرية في موّال أصولي مرتجل. مقامات الجزء الاول بدأ جلال الدين فايس الجزء الاول بعزف منفرد على القانون على مقام البياتي. والبياتي مقام عربي أساسي في تجويد القرآن وفي الغناء الدنيوي العربي ايضاً. يعزف فايس بالسبابتين اللتين تزوّدان كشتباناً وريشة. وهذا هو المعتاد في القانون. لكنه عند الرش، يبدو كأنه يستخدم الاصبعين الوُسطيّين ايضاً. وهذا غير معهود في عازفي العود العرب التقليديين إلا سيد حجاب المصري الذي يعزف بثماني أصابع. وحين يعفق بيده اليسرى للتعريب، فإنه يعفق بعُرب النحاس، ولا يعفق بالإبهام مثلما يفعل معظم العازفين العرب. اما روح جلال الدين فايس في العزف فهي روح مختلفة، لكنها ليست غريبة ولا غربية. فهذا العازف الماهر على القانون استوعب روح المقام العربي وإحساسه، واستوعب كذلك اسلوب التقسيم العربي وأصوله استيعاباً مقنعاً. ومع انك قد تتوقّع قبل سماعه ان يكون وجهة نظر غربية في فن التقسيم العربي، في أحسن الاحوال، الا انك تكتشف منذ الدقائق الاولى انه استعرب بعمق وأصالة، ولم يمكث عند القشور في الاقتراب من الروح العربية. وهو لذلك يختلف عن جمهرة المستشرقين الذين ظلوا في مختلف الفنون والآداب مجرد نافذة غربية يطلّون بها على العرب، من داخل احساسهم الغربي المندهش برؤية الشرق. ويختلف صوت قانون جلال الدين فايس عن صوت القانون العربي المعهود، في ان رنّة صوته معدنية. وهو قانون صمّمه فايس نفسه وصنعه التركي إغدر غوليك، ليتمكن من أداء فواصل أضيق من ربع الصوت، حسب قياسات زلزل والفارابي وابن سينا الفيزيائية. في وصلة البياتي هذه ارتجل فايس، وادّى تعدد اصوات جميلاً، فعزف باليمنى فوق لحناً أساسياً، صاحبته اليسرى تحت بلحن ثانٍ موقّع. ثم انقلبت الادوار، فعزفت اليد اليسرى تحت اللحن الاساسي، وصاحبته اليد اليمنى فوق بايقاع ولحن ثان، في وصلة بغدادية هي تحية لمنير بشير ألفها المستعرب الفرنسي سنة 1986. وبدأ الدايخ يغني وسرعان ما تسلّق بصوته الى درجات عالية جداً يفضلها الدايخ في غنائه، وهي في اية حال أجمل طبقات حنجرته اللامعة. ويمكث الدايخ على المرتفعات معظم الوقت على طريقة ناظم الغزالي، الذي كان نادراً ما يلامس القرار. لكن قفلات الدايخ تتسم بعُرب جميلة وسريعة أشبه بعُرب قفلات صباح فخري. ولا يشبه الدايخ الغزالي في تفضيله الدرجات العالية فقط، بل في انه يئن ويتوجّع ويتحرّق في غنائه في القفلات على الاخص مثل الغزالي. وهو بذلك يحرّك المشاعر والشجن، ويتقن النواحيات العراقية بروحها ومقاماتها إتقان ابنائها. ويرتجل الدايخ غناء الغزليات الشعرية بالعربية الفصحى، فينهل من تراث غني جداً من الأبيات الغزلية التي تشبّه ثغر الحبيب بالخمر وعينيه بالبحر، ووجد الحب بالسكر الحلال، وما الى ذلك من شعر جميل تزخر به خزانة التراث البغدادي والحلبي على السواء. و يحفظ الدايخ الكثير من هذا الشعر الذي تعلمه من أبيه واستاذه محمد الدايخ 1890-1962، وإن كان بعض ما غنّى من أبيات مكسور الوزن، لتواتر نقله من دون تدقيق. ومع ان صوت الدايخ يغطّي ثلاثة دواوين - وهذه مساحة نادرة الاتساع - إلا أنه لا يستخدم منها الا المناطق العليا إجمالاً. ومع انه قدير في التلوين المقامي، الا ان ارتجاله لا يكثر من ألوان المقامات المتاحة، وهذا مزاج. وبعد مقام البياتي عاود فايس التقسيم على مقام الراست، فلوّنه بالنكريز ثم بالهزام والعجم. وحين غنّى الدايخ بدأ بليالٍ مستوحاة من ليالي مطلع موال محمد عبدالوهاب: شجاني بوحك يا بلبل. ثم غنّى آهات مطلع أغنية محمد القصبجي: ليت للبراق عيناً غنتها أسمهان. ورسم في غنائه السكك المقامية ذاتها التي اتّبعها فايس في تقاسيمه، فعاد تكراراً الى سبيكة الراست النكريز، وهي سبيكة جميلة غاية الجمال. وتلت وصلة الراست وصلة هزام، فقسّم فايس تقسيماً جليلاً وقوراً وجميلاً، وغنّى الدايخ من روح أغنية أم كلثوم "سهران لوحدي" لحن السنباطي. وتميّز العزف والغناء بمسافات واسعة بين درجات اللحن. وختم الثنائي الجزء الاول من السهرة بوصلة من مقام الحجاز، فأثبت فايس انه لا يكتفي بأداء الدرجات السليمة في المقام، بل يستوعب روح المقام وإحساسه العربي تماماً. وغنّى الدايخ ليالي هادئة ومطربة قبل ان يبدأ موال: "لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم"، فأطرب الحاضرين. والحجاز هو مقام: فوق النخل، أغنية الغزالي الرائعة. ولا بد ان هذا أسهم في تحريك المشاعر. وبعد الاستراحة انقسم الجزء الثاني ثلاث وصلات: بياتي ثم صبا فنهاوند. لكن طول معزوفة فايس: رحلة ابن عربي على مقام البياتي اقتضت تأجيل وصلة الغناء على هذا المقام الى آخر هذا القسم، تنويعاً وتحريكاً للمزاج. وتميّزت معزوفة فايس بإيقاع جورجينا الأعرج. وقد استوحى فايس في معزوفته هذه اجواء فارسية، فضرب على أوتار القانون بأصابعه مثلما تضرب المضارب على أوتار السنطور. وبعد تقسيمة الصبا، بدأ الدايخ غناءه بآهات متصاعدة أشبه بلحن عبارة "يا نجوم" في أغنية محمد عبدالوهاب "ايها الراقدون تحت التراب" 1935 - من فيلم "دموع الحب". وغنى بعدها مواويل بدأها بموال: "حجبوك عن عيني لقد ظلموني" فاعتمد التلوين التقليدي: صبا - عجم، ثم دخل في مزاج الشيخ زكريا احمد في رائعته "هو صحيح الهوى غلاب" 1961 - غنتها أم كلثوم. وافتتح فايس وصلة النهاوند بسماعي مسعود جميل بك الرائع. وهو من المؤلفات الجميلة للغاية، وكان عزفها جميلاً جداً ايضاً. ثم ارتجل ألحاناً عزف فيها ألحاناً باليد اليمنى أشبه بصوت الماندولين فيما كانت اليد اليسرى تعزف تحت ميزاناً متكرراً. وختم الدايخ السهرة غناءً على مقام النهاوند ثم البياتي. الرجلان في سيرتين وُلد أديب الدايخ في حلب سنة 1938 للشيخ محمد الدايخ الذي تخرّج في الجامعة المصرية في اللغة العربية والشعر. وكان والده استاذه في محبة الشعر العربي، اما الغناء فتعلمه على أخواله، وكان احدهم عبدالوهاب الصقّال مشهوراً. وكان أديب الدايخ شيخاً معمماً يقرأ في الموالد وينشد التواشيح الدينية وحلقات الذكر. وبرع في غناء المواليا التي نشأت في واسط العراق اليوم. وقد اختبره أولاً العواد والمغني الحلبي الشهير عبدالقادر الصواف أبو هلال في موال: "قلبي وطرفك على قتلي قد اتفقا". فلما بدأ الفتى أديب في الغناء أوقف ابو هلال عزف العود، وأخذ يستمع الى صوت المغني وحده، فبكى وأجازه. وعلى رغم اتقانه الغناء والإنشاد الديني، الا ان الدايخ ظلّ رجل اعمال حلبياً ومغنياً في الوقت نفسه، وأخذ يشتهر سنة 1970 فشكّل فرقاً غنائية. وفي سنة 1992، وكان يغني في التلفزة التونسية سمعه جلال الدين فايس فشكّلا ثنائياً يقدم الحفلات ويسجّل الاسطوانات معاً. اما جوليان جلال الدين فايس فهو فرنسي، أمه سويسرية وأبوه ألزاسي، ولد سنة 1953. بدأ عمله موسيقياً بتأليف موسيقى مسرحية وباليه على الطريقة الكلاسيكية الاوروبية. لكنه اهتدى في بحثه إلى الموسيقى العربية، فشكل سنة 1983 فرقة موسيقية سماها فرقة الكندي، على اسم الفيلسوف والموسيقي العربي الكبير ابي يوسف يعقوب الكندي 801 - 866م. ونشر مجلة موسيقية في الموسيقى العربية سماها: "غران مغرب" المغرب الكبير. ثم تعلّم القانون بدءاً من سنة 1977 على الاساتذة المصري كامل عبدالله والتونسي حسن المغربي والتركي سعد الدين أوكتناي والعراقي سالم حسين. وفي سنة 1988 قاد مهرجان الموسيقى في الجامعة الأوروبية العربية. وهو مع العديد من حفلاته وإسهاماته، ألّف كتاباً سينشر قريباً عنوانه: "القانون والنظريات الموسيقية العربية الاسلامية" بالفرنسية. تعرّف على أديب الدايخ عبر التلفزة التونسية، وهو يقيم الجولات والحفلات معه منذ خمس سنوات. وقد اعتنق الاسلام وأقام في حلب.