تزامن بدء العام الجديد مع رحيل أحد مخرجينا الكبار... رحل كمال الشيخ في صمت عن عمر ناهز خمسة وثمانين عاماً. وبعد فترة توقف دامت نحو 17 عاماً منذ أن قدم آخر أفلامه "قاهر الزمن" عام 1987. رحيل الشيخ يتزامن تدريجاً مع غياب القيمة وتوقفه عن الإبداع منذ تلك الأعوام الطويلة دلالة على الرفض لما يدور على الساحة السينمائية الآن. اكتفى بوجوده في اللجان السينمائية المختلفة الى جانب نشاطه النقابي، لكنه لم يدخل استوديو ولم يقف خلف كاميرا احتجاجاً على ما يحدث... ربما. كمال الشيخ لم يكن مجرد مخرج يهتم بالتشويق والإثارة في أفلامه الأولى، بل زاد عالمه السينمائي اكتمالاً عندما اهتم في أفلامه اللاحقة بسينما النقد السياسي والاجتماعي. بلغ مجموع ما قدمه الشيخ للشاشة 33 فيلماً روائياً طويلاً وفيلماً روائياً قصيراً واحداً وفيلمين تسجيليين. غرام سينمائي مبكر وعلاقة كمال الشيخ بالسينما امتدت قرابة ستة وستين عاماً وبالتحديد منذ التحاقه باستوديو مصر في آذار مارس 1938 كمتدرب في قسم المونتاج. ولد كمال الشيخ في 5 شباط فبراير 1919 في حي حلوان احدى ضواحي القاهرة ابناً لأسرة من الطبقة المتوسطة تعمل بالتجارة وتملك بضعة فدادين من الأرض الزراعية... كان كمال مغرماً منذ طفولته بمشاهدة الأفلام التي كانت تعرض في كازينو حلوان وأحياناً يشاهد العروض في إحدى الكنائس، وشاهد في مطلع حياته فيلم "ملك الملوك" لسيسل دي ميل، وكذاك فيلم "الطوفان" وهو يعج بالزلازل والبراكين والمؤثرات البصرية والصوتية، فشعر الشاب الصغير بأن هناك شخصاً ذا مقدرة يقف خلف تنفيذ الفيلم، وهذا الشخص بالطبع هو المخرج... كما عرف الفتى في ما بعد. بعد حصوله على البكالوريا لم يدر الشيخ ماذا يفعل، وأين يستطيع أن يدرس السينما...؟ وعلى رغم رغبة أسرته في إلحاقه بكلية الحقوق التي لم يمل إليها قط توجه إلى منزل المخرج الكبير محمد كريم من دون سابق معرفة وسأله النصيحة، فنصحه المخرج الكبير بالتوجه إلى استديو مصر لتعلم فن السينما. ومن طريق وساطة أحد أقاربه التقى الفنان أحمد سالم مدير استوديو مصر آنذاك فأرسله إلى المخرج نيازي مصطفى ليتدرب في قسم المونتاج الذي كان يترأسه. في بادئ الأمر شعر كمال بالإحباط لأنه كان يرغب في دراسة الإخراج ولم يكن يعرف بعد ما هو المونتاج، وزاد من وطأة الأمر أنه ظل عامين لا يقوم بأي عمل فعلي في الاستوديو، فقط توجيهات أحمد كامل مرسي مساعد نيازي في ذلك الوقت، والكتب التي أمده بها... وسرعان ما تعلم كمال فنون المونتاج وأسراره داخل الغرفة المظلمة وفي غضون عامين عين مساعداً أول للمونتاج عام 1941. قام الشيخ بتوليف عدد كبير من الأفلام التسجيلية مع البعثات الأجنبية أثناء الحرب العالمية الثانية منها فيلم "مدغشقر" التي كانت احدى المستعمرات الفرنسية في ذلك الوقت، ولكن هذا لم يرض طموحه، وعندما علم أن المخرج كمال سليم سيقوم بإخراج فيلم بعنوان "البؤساء" اتصل به وطلب منه أن يقوم بعمل مونتاج هذا الفيلم فوافق من دون تردد نظراً لعلاقة الألفة والتفاهم التي كانت تربطهما. وبعد مونتاج فيلم "البؤساء" زادت هذه الثقة وقام الشيخ بعمل المونتاج لكل أفلام كمال سليم اللاحقة "حنان"، "ليلة الجمعة"، "شهداء الغرام"، "قضية اليوم" و"المظاهر". ذاع صيت كمال الشيخ كمونتير وعمل مع كبار المخرجين منهم: نيازي مصطفى، أحمد جلال، أحمد سالم، أحمد بدرخان، أنور وجدي، حلمي رفلة، بركات، فطين عبدالوهاب، يوسف وهبي، يوسف شاهين في فيلم "المهرج الكبير" وهو من آخر الأفلام التي قام كمال الشيخ بعمل المونتاج لها. من "المنزل رقم 13"... الى "حياة أو موت" رفض كمال الشيخ عروض الإخراج التي عرضت عليه منذ عام 1947 حتى جاء فيلمه الأول "المنزل رقم 13" ليعبر عن السينما التي حلم بها، عثر كمال على الفكرة في جريدة المصري كخبر عن حادثة حقيقية حدثت في هولندا في ذلك الوقت، ثم دفع بهذه القصة لكاتب السيناريو الراحل علي الزرقاني ليصوغها في شكل سيناريو بعد أن قرر أن يخوض المغامرة للنهاية كمنتج لهذا الفيلم. وعلى رغم أن هذا الفيلم هو أول أفلامه إلا أنه وضع به ملامح أسلوبه الأولى كمخرج يعتمد على التشويق والغموض والإثارة إذ أن الفيلم يدور حول مريض نفسي استغله أحد الأطباء ودفعه لارتكاب جريمة قتل تحت تأثير التنويم المغناطيسي. وقام بأداء الأدوار الرئيسية في هذا الفيلم فاتن حمامة، عماد حمدي ومحمود المليجي. فيلمه الثاني "مؤامرة" 1953 مقتبس عن الفيلم البريطاني "جنون القلب" كتب له السيناريو علي الزرقاني. وإن كانت أحداثه ميلودرامية تقترب من السينما السائدة في ذلك الوقت إلا أنه حافظ على التشويق والإثارة في بعض مشاهده. يعتبر النقاد فيلم "حياة أو موت" 1954، ثالث أفلام كمال الشيخ واحداً من أهم أفلامه، بل واحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية. وترجع قيمة الفيلم إلى أنه الوحيد الذي تناول الإنسان كقيمة بحتة يجب الحفاظ على سلامته وحياته من مؤسسات الدولة كلها، وأيضاً تضافر الأفراد في ما بينهم من أجل إعلاء تلك القيمة. وتحمست الفنانة المنتجة آسيا داغر لإنتاجه على رغم خلو الموضوع من عناصر الجذب التجاري. ويعتبر بعض النقاد فيلم "حياة أو موت" الذي خرج في معظم مشاهده بالكاميرا إلى شوارع القاهرة إرهاصاً لما حدث بعد نحو ثلاثين عاماً في أفلام الواقعية المصرية الجديدة التي سارت على النهج نفسه وخرجت إلى الشارع. قدم الشيخ بعد ذلك أفلاماً عدة تتراوح بعداً وقرباً من عالمه السينمائي، لكنها لا تمثل سينماه القائمة على التوتر والإثارة والحبكة البوليسية بشكل صريح. ومن هذه الأفلام فيلم "حب ودموع" 1955، "الغريب" 1956 الذي شارك في إخراجه فطين عبدالوهاب، وهو مأخوذ عن رواية أميل برونتي "مرتفعات ويذرنغ" وهو بعيد كل البعد عن عالم الشيخ السينمائي. أما "حب وإعدام" 1956 فيعود به الشيخ إلى عالم الجريمة. فيما فيلم "أرض السلام" 1957 تعود أهميته لتناوله المبكر لقضية الصراع العربي - الإسرائيلي ما يعكس اهتمام الشيخ بالقضايا الوطنية. أما فيلم "تجار الموت" 1957 ثم ينحاز كمال الشيخ في أفلامه اللاحقة للسينما التي تكشف الفساد وتعريه، إذ تميل هذه الأفلام للنقد السياسي والاجتماعي وخاصة داخل المؤسسات الصحافية وشركات القطاع العام. ومن هذه الافلام "المخربون" 1967 وكذلك "الرجل الذي فقد ظله" 1968 عن رواية فتحي غانم، سيناريو وحوار علي الزرقاني. الشيخ/ الميهي اشترك كاتب السيناريو رأفت الميهي مع كمال الشيخ في أربعة أفلام كانت بمثابة إعلان عن مولد سيناريست موهوب ومواصلة لخط التشويق والإثارة الذي انتهجه الشيخ بالتوازي مع النقد السياسي وتعرية الفساد... أول هذه الأفلام "غروب وشروق" 1970، قصة جمال حماد، سيناريو وحوار رأفت الميهي. وكما دارت أحداث "الرجل الذي فقد ظله" في عصر ما قبل الثورة، تدور أيضاً أحداث "غروب وشروق" في ذلك العصر إبان الحكم الملكي، والفساد هنا يتمثل في شخصية رئيس البوليس السياسي. تبدو براعة الميهي في بناء سيناريو شديد الإحكام يسقط الماضي على الحاضر.. ربما هرباً من مواجهة الرقابة وهو ما فعلاه أيضاً في فيلم "شيء في صدري" 1971 عن قصة إحسان عبدالقدوس. فالفيلم يحلل شخصية الانتهازي المتسلق ويضع في مواجهتها شخصاً شريفاً يرفض الانصياع. ويأتي فيلمهما الثالث "الهارب" 1975، عن قصة وسيناريو وحوار رأفت الميهي، وهو ينتقد مراكز القوى، وأصدرت السلطة قراراً بمنعه فاضطر كمال الشيخ الى مناقشة وزير الثقافة يوسف السباعي والوصول معه إلى حل يقتضي تغيير بعض الأحداث والوقائع حرصاً على أموال المنتج، فوافق السباعي، وعقدا جلسات عمل انتهت إلى كتابة بعض المشاهد الجديدة التي تقول ان السبب في ما حدث ليس مراكز القوى ... فحدث نوع من التمييع والارتباك بالسيناريو وضاع الفيلم على حد تعبير كمال الشيخ .... أما "على من نطلق الرصاص" 1975 فهو ثمرة التعاون الرابع بين الشيخ والميهي ومن إنتاجهما أيضاً. ويبلغ الثنائى الميهي/ الشيخ قمة التمكن الحرفي بهذا الفيلم المقترن بعمق الرؤية السياسية. وقد حقق نجاحاً كبيراً على المستويين النقدي والجماهيري. من الجاسوسية إلى الخيال العلمي في العام 1978 كان "الصعود الى الهاوية" عن قصة لصالح مرسي مستوحاة من ملفات الاستخبارات، ويقدم الشيخ فيه عالم الجاسوسية وهو عالم جديد وإن كان لا ينفصل عن عالمه المليء بالإثارة والتشويق. ويعد الفيلم من أوائل وأفضل الأفلام المصرية التي سبرت ملفات الاستخبارات. بعدها فتح الباب للعديد من الأفلام والمسلسلات التي تناولت ملفات استخبارية أخرى كمادة للدراما. بعدها توقف الشيخ خمس سنوات ثم قدم "الطاووس" 1982 المقتبس عن رواية "صراع" لالكس ماريسون، سيناريو وحوار عبد الحي أديب، ولم يقدم فيه مخرجنا الكبير إضافة تذكر في ما يختص بأسلوب التشويق وعالم الجريمة اللذين أجادهما طوال رحلته الإبداعية. وبعد توقف دام خمس سنوات أخرى قدم كمال الشيخ آخر أفلامه "قاهر الزمن" 1987 وهو ينتمي الى أفلام الخيال العلمي التي تقدم لأول مرة في مصر ولكن لم يظهر الفيلم بشكل جذاب نظراً لضعف الإمكانات التقنية التي تحتاجها هذه النوعية من الأفلام. لذا لم يحقق النجاح المرجو. منذ هذا التاريخ توقف كمال الشيخ عن الإخراج لكن علاقته بالسينما استمرت من خلال لجان السينما المختلفة وكذلك عضوية لجان التحكيم في المهرجانات السينمائية... لم ينخرط في سينما المقاولات ولم يقدم "اللمبي" أو "كلم ماما" واكتفى بما قدمه من علامات في تاريخ السينما العربية. رحل هيتشكوك السينما العربية وبقى لنا هذا التراث/ الكنز المتمثل في أفلامه الممتعة التي تعد بمثابة محصلة رحلة طويلة من الجهد والإبداع. عرضت أفلامه في العديد من المهرجانات والمحافل، وحصل على العديد من الجوائز، وصنفت ثمان من أفلامه ضمن قائمة أفضل مئة فيلم مصري. ولكن الأكثر أهمية من وجهة نظرنا هو اننا افتقدنا مخرجاً فناناً وجاداً في زمن أصبحت فيه هاتان السمتان وصمة عار. ولا نملك إلا أن نقول لمعلمنا وشيخنا الكبير... وداعاً.