بعدما استعرضت الحلقات الثلاث الأولى مواقف المرشحين الديموقراطيين لانتخابات الرئاسة الأميركية هاوارد دين وويسلي كلارك وريتشارد غيبهارت، تتناول الحلقة الآتية الأخيرة تاريخ المرشح الديموقراطي السيناتور جوزيف ليبرمان ومواقفه من القضايا الدولية والداخلية. يتمتع السيناتور جوزيف ليبرمان بنفوذ كبير في أوساط النخبة الحاكمة في الولاياتالمتحدة، فهو من الشخصيات المتنفّذة في مجلس الشيوخ وأدار لجاناً مهمة عدة فيه، وهو منخرط كذلك في العديد من المراكز الاستراتيجية، وله تأثيره في السياستين الخارجية والعسكرية. كما أنه أحد أقطاب تيار "الديموقراطيون الجدد" الذي ظهر مطلع عقد التسعينات من القرن الفائت وأوصل بيل كلينتون إلى السلطة عام 1992، وهو تيار وسطي يسعى إلى الحصول على أصوات الناخبين المحافظين ودعم الشركات الكبرى، على حساب التحالف التقليدي للحزب الديموقراطي مع نقابات العمال والأقليات. ويعتبر عرض مواقف ليبرمان مفيداً من نواح عدة، إذ إنه خير من يمثّل النخبة الحاكمة، كونه من صانعي القرار الأساسيين في الولاياتالمتحدة، وليس ذلك بصفته الشخصية وإنما بالأوساط التي يمثلها ويعبّر عنها. فهو من ولاية كونيكتيكت التي توجد فيها بعض أهم شركات الأسلحة والأدوية، وهو حريص على مصالحها، كما أن له تأثيراً واسعاً في السياسات الخاصة بقطاع المصارف والتجارة والاستثمار، إضافة إلى تمثيل مصالح الحركة الصهيونية. وكان ليبرمان يدعو منذ سنوات عدة إلى تطبيق معظم السياسات التي تقوم إدارة جورج بوش بانتهاجها الآن، خارجياً وعسكرياً، وإن كانت هناك اختلافات في الأساليب وليس في الأهداف. ولد ليبرمان عام 1942 في مدينة ستامفورد في ولاية كونيكتيكت لأبوين يهوديين هاجرا من أوروبا. أنهى دراسة القانون في جامعة ييل عام 1967، ثم عمل في المحاماة حتى عام 1970 عندما انتخب لمجلس شيوخ الولاية، وظل في هذا المنصب حتى عام 1981. وفي عام 1982 انتُخب لمنصب النائب العام لولاية كونيكتيكت. وفي عام 1989 انتُخب لمجلس الشيوخ الأميركي، وما زال يشغل هذا المنصب. وفي عام 2000 اختاره آل غور لمنصب نائب الرئيس أثناء الحملة الانتخابية للرئاسة، وكان اختياراً تاريخياً، إذ إنه أول مرشح يهودي إلى هذا المنصب عن أحد الحزبين الرئيسين. الصهيونية واللاسامية والانتخابات أثار اختيار ليبرمان عام 2000 لخوض المعركة الرئاسية مع آل غور موجة من الفرح والفخر في أوساط الجالية اليهودية في الولاياتالمتحدة، وحصل آل غور فيها على ما يزيد على 80 في المئة من أصوات اليهود. إلاّ أن ترشح ليبرمان لعام 2004 لم يثر ذلك القدر من الحماسة، لأسباب عدة منها أنه متديّن وينتمي إلى الطائفة اليهودية الأرثوذكسية، وكانت الأوساط اليهودية تاريخياً من أشد دعاة فصل الدين عن الدولة، فيما ينادي ليبرمان بدور أكبر للدين في المجتمع والدولة. وأوردت صحيفة "واشنطن تايمز" في 8/7/2003 أن المتبرعين اليهود يخشون من أن فوز ليبرمان قد يثير اللاسامية، خصوصاً أن العالم مشغول بالحرب على الإرهاب والحرب في العراق. وأضافت "أن المتبرعين اليهود منجذبون بشدّة للرئيس بوش، الذي ظهر أنه أفضل صديق لإسرائيل ممن شغلوا البيت الأبيض". ونقلت عن إيريك كانتور، وهو عضو يهودي جمهوري في مجلس الكونغرس عن ولاية فرجينيا، "أن مشكلة ليبرمان الرئيسة هي الرئيس بوش، إذ أيد أكثر من أي رئيس آخر العلاقات القوية بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وهو ملتزم بقاء إسرائيل كدولة يهودية أكثر من أي رئيس آخر". كما أوردت الصحيفة أن أموالاً طائلة ذهبت بالفعل من المتبرعين اليهود إلى حملة بوش الانتخابية الحالية، فهو "مؤيد لرئيس الوزراء شارون، وخلّص إسرائيل من خصمها الرهيب صدام حسين، وزار معسكر اعتقال أوشفيتز". والواقع أن يهودية ليبرمان لا تحول نظرياً دون وصوله إلى أعلى منصب في الولاياتالمتحدة، لأنه على رغم جهود المنظمات الصهيونية في هذا البلد لتضخيم خطر اللاسامية، فإن هذه الظاهرة ليست ذات شأن، إذ أجرت مؤسسة "غالوب" في 1999 استطلاعاً للرأي العام حول استعداد المواطنين لانتخاب يهودي كفي لمنصب رئيس الولاياتالمتحدة، وأجاب 92 في المئة ممن شملهم الاستطلاع بالإيجاب، في مقابل 46 في المئة في استطلاع مماثل أجرته المؤسسة نفسها عام 1937. ولا يعلن ليبرمان انتسابه إلى أي منظمة صهيونية، ومع ذلك فهو عضو استشاري في إدارة منظمات إسرائيلية عدة منها "مركز بيريز للسلام" و"مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية". وظل ليبرمان يتلقى دعم المنظمات الصهيونية خلال مسيرته السياسية، وفي العام 2000 حصل على تبرع مقداره 186 ألف دولار لحملته الانتخابية لمجلس الشيوخ. وصرّح تيم ويلوغر، رئيس منظمة "إيباك": "لا نتذكر أن هناك أي تشريع يتعلق بعلاقة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وضع دون دور رئيسي للسيناتور ليبرمان في ذلك". وعلى رغم ذلك، هناك حالات خالف ليبرمان فيها الموقف الإسرائيلي والصهيوني، فإبان رئاسة جورج بوش الأب، دعم صفقة بيع طائرات "أف-15" للسعودية، وعارض أثناء رئاسة كلينتون إطلاق الجاسوس اليهودي جوناثان بولارد، مما أثار غضب بعض المنظمات الصهيونية. وقد تكون هذه المواقف نابعة من حقيقة أن شركات السلاح والمؤسسة العسكرية تدعمان ليبرمان، وهو حتماً لن يغامر بإغضابها. الصراع العربي - الإسرائيلي استهلّ ليبرمان خطابه أمام المؤتمر الوطني ل"المعهد العربي-الأميركي" في مدينة ديربورن في ولاية ميشيغان 17/10/2003، بالقول: "أنا أخوكم يوسف، هذه كلمات لا تنسى من إحدى قصص التوراة المفضلة لدي ... نحن أخوة بالمعنى الحرفي للكلمة". لم يسعَ ليبرمان في هذا المؤتمر إلى تملّق العرب الأميركيين، على رغم الكلام المعسول الذي بدأ فيه خطابه، بل أعرب عن مواقفه المعتادة المؤيدة لإسرائيل وللحرب على العراق. وأثناء إجابته عن بعض الأسئلة، أثار غضب الحضور بدفاعه عن إسرائيل، مما حدا بهم إلى إطلاق صرخات استياء واحتجاج، وذلك ما أبرزته عناوين الصحف في اليوم التالي. وعليه يكون الخطاب قد حقق هدفه، إذ أراد ليبرمان توصيل رسالة إلى مؤيدي إسرائيل مفادها أنه لا يلين في دعمه لهم، حتى في أوساط الجالية العربية. ومن المؤكد أن ليبرمان من أشد المؤيدين لإسرائيل، ففي خطاب أمام مجلس العلاقات الخارجية 10/9/2003، سأله أحد الحضور: "عندما ترى إسرائيل تقوم بعمليات الاغتيال، أو بناء السياج الأمني الذي يتجاوز حدود عام 1967، فهل ترى في ذلك تصرفاً حكيماً، وإن كان الجواب لا، فهل علينا انتقادها على ذلك؟"، فأجاب ليبرمان: "أعتقد بأنه لا ينبغي لنا توجيه نقد عام أو التعليق على ما تختار إسرائيل أن تفعله لحماية أمنها لدى تعرضها للهجوم من الإرهابيين". كما وجه ليبرمان نقداً شديداً للرئيس بوش في ربيع العام 2002 عندما دعا إسرائيل إلى سحب قواتها من جنين في أوج الجرائم التي ارتكبتها هناك، وصاغ حينذاك قراراً لتأييد إسرائيل وبذل جهوداً كبيرة لدفع مجلس الشيوخ لتبنّيه القرار رقم 247، وصّرح قائلاً "إما أن تكون معنا أو مع الإرهابيين". وحول رؤيته إلى الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، قال في خطاب ألقاه في مؤتمر للحزب الديموقراطي في ولاية فلوريدا 14/4/2002 إن "هذا الصراع هو الآن الخط الأمامي في الحرب على الإرهاب ... وما يحدث في الشرق الأوسط الآن لا يتعلق بتأسيس دولة فلسطينية علينا دعمها، وإنما يتعلق بالانتحاريين الفلسطينيين، ويجب علينا وقفهم". واستنكر مطالبة بوش إسرائيل بوقف عملياتها في جنين قائلاً: "كيف يمكن أن نكون صادقين في سعينا لتدمير فلول إرهابيي القاعدة في أفغانستان، فيما نطالب إسرائيل بالتوقف عن عمل الشيء ذاته في الضفة الغربية؟"، ووصف الانتحاريين الفلسطينيين بأنهم "قتلة مستهترون بالحياة الإنسانية، تماماً مثل القتلة الذين هاجمونا في 11 أيلول سبتمبر". وهو حدد في لقائه مع العرب الأميركيين مواصفات الدولة الفلسطينية التي يدعمها بالقول إن عليها أن تشترك مع الولاياتالمتحدة في "المصالح الاستراتيجية كما هي الحال مع إسرائيل". ودعا في خطاب آخر أمام مجلس العلاقات الخارجية السلطة الفلسطينية إلى أن "تبذل 100 في المئة من جهدها لوقف الإرهاب ضد الإسرائيليين، وأن تلتزم إسرائيل الرد إيجاباً وفي صورة ملموسة على هذه الجهود". ويعارض ليبرمان "خريطة الطريق" وأي مساع أوروبية لحل الصراع، إذ قال تعليقاً على لقاء وزير الخارجية الفرنسي مع الرئيس ياسر عرفات "هناك طرفان لهذا السلام، والإسرائليون ليسوا في صدد عقد سلام مع اللجنة الرباعية الدولية، وهم لا يثقون بالأوروبيين في ما يتعلّق بالسلام، ولا يثقون بالأممالمتحدة كذلك، هم يثقون بنا فقط. وعندما يلتقي وزير الخارجية الفرنسي مع عرفات بعدما أعلنت الولاياتالمتحدة، محقّةً، بأن عرفات هو عقبة أمام السلام، فذلك من شأنه أن يجعل السلام أصعب". ويوجّه ليبرمان انتقاداته للمرشحين الآخرين بسبب تذبذب مواقفهم أحياناً، ويشير دائماً إلى ثبات مواقفه ودفاعه عنها، حتى وإن كانت مكلفة سياسياً. وواقع الأمر أنه يؤكد مواقفه بالفعل في تأييد الحرب والدفاع عن إسرائيل والمواقف الاقتصادية والسياسية الأخرى، وبدلاً من التظاهر بتأييد مواقف مغايرة بحسب ما تستدعي الظروف، فإنه يغلف مواقفه المتشدّدة بكلام معسول وإنساني. اذ قال في مقابلة تلفزيونية حول ما إذا كان يوافق على "مقاطعة عرفات": "نعم. أوافق تماماً على ذلك، لأن قيادة عرفات أضرت بالقضية الفلسطينية وبالفلسطينيين وآمالهم بتأسيس دولة، إذ أخفق عرفات في اغتنام فرص عدة لتحقيق حياة أفضل للفلسطينيين وتأسيس دولة مستقلة، وهو الآن عقبة في وجه السلام". كما نادى في المقابلة نفسها بتغيير نظام الحكم في إيران لأن ذلك "من مصلحة العالم، وفي صورة خاصة من مصلحة الشعب الإيراني". وهو كذلك لا يكل عن ترديد أن دعمه للحرب على العراق نابع من رغبته في "تحرير الشعب العراقي". وحول الجدار الفاصل يرى أنه "إذا أوقف الفلسطينيون الإرهاب، فلن يكون هناك جدار. هذا الجدار إجراء موقت ويمكن هدمه حال التوصل إلى اتفاق". وحول تدمير 1500 بيت في غزة خلال أسبوع واحد، وعما إذا كان ذلك يعتبر إرهاباً ، قال ليبرمان: "لا، ليس إرهاباً، ولكنه تدمير وهو أمر يدعو للأسف". الحرب على العراق وجهت غالبية المرشحين الديموقراطيين انتقادات للرئيس بوش باستغلال أحداث 11 أيلول من أجل تغيير خريطة الشرق الأوسط وبتضليل الشعب الأميركي في ما يتعلق بالحرب على العراق. إلا أنه كان من دعاة هذه الحرب منذ فترة طويلة، وسبق بوش في الدعوة لشن هجوم منفرد. ففي خطاب ألقاه في جامعة جورج تاون في واشنطن حول الحرب على الإرهاب 14/1/2002، قال: "لن تنتهي الحرب على الإرهاب حتى يتم إسقاط صدام حسين الذي ظل يعمل على تطوير أسلحة نووية منذ انتهاء حرب الخليج، وطرد مفتشي الأممالمتحدة قبل أكثر من ثلاث سنوات... إن الخطر الذي يشكّله نظام صدام حسين على أمن أميركا حقيقي وكبير ووشيك. وحتى وإن لم تساعدنا أي أمة أخرى، يجب علينا أن نكون مستعدين للعمل وحدنا". وفي خطاب أمام مجلس العلاقات الخارجية 10/9/2003 وجّه إلى ليبرمان السؤال الآتي: "نظراً إلى أننا لم نجد أسلحة دمار شامل في العراق، فلو كنت تعلم قبل ستة أشهر بأن العراق لا يمتلك هذه الأسلحة، هل كنت ستؤيد الحرب؟"، فأجاب: "بالطبع ... لقد توصلت إلى هذه النتيجة بمعية السيناتور جون مكين والسيناتور بوب كاري وآخرين في العام 1998، عندما قمنا بوضع القانون الخاص بالعراق". وحول رأيه بسياسة الحرب الوقائية، يجهر بأنه ضد "الإعلان" عن سياسة الحرب الوقائية، وليس ضد هذه السياسة نفسها، ويقول: "أنا لم أدعم إعلان سياسة العمل العسكري الوقائي، وأعتقد أن ذلك لم يكن ضرورياً ... إن أي دولة تحتفظ بالحق بالتصرف دفاعاً عن نفسها ضد ما تعتبره هجوماً وشيكاً، ولكن لماذا علينا الإعلان عن ذلك؟ فهذا يسبب القلق للحلفاء ويثير الأعداء، لأنهم سيعتقدون أن دورهم هو التالي على القائمة ... لذلك أعتقد أن الإعلان خطأ... لقد اعتبرت الحرب على العراق بوصفها آخر معركة في حرب الخليج، وبمعنى آخر لفرض قرارات مجلس الأمن". وأضاف: "لم يطلب الرئيس كلينتون من الأممالمتحدة تفويضاً للتصرّف في البلقان، لأننا كنا نعلم أن الروس سيستخدمون حق النقض لمنع القرار. وهذه حقيقة، لذلك فنحن نفعل ذلك حينما يتاح لنا، وعندما لا نتمكن من ذلك، علينا إيجاد طريقة أفضل". ويؤكد أن على الولاياتالمتحدة دائماً "أن تحتفظ بحقها باتخاذ إجراء منفرد ضد أي دولة تهدد أمنها". الإرهاب يصرّ الساسة الأميركيون على أن الإرهاب ظاهرة ليست لها أسباب ولا علاقة للولايات المتحدة بها، وعلى رغم ذلك يجتهدون في بسط الأسباب لتفسيرها. وقال ليبرمان في خطاب أمام مجلس العلاقات الخارجية 26/2/2003 إن "العالم الإسلامي ممزق اليوم بحرب أهلية بين أكثرية فقيرة ومُهدَّدة، وأقلية متطرفة وعنيفة وشمولية، تريد استغلال الفقر واليأس من أجل البدء بحرب حضارات مع الغرب". وفي خطابه الآخر أمام مجلس العلاقات الخارجية 10/9/2003 يقول: "إنهم يكرهوننا لأننا لا نؤمن بما يؤمنون ... لأننا عصريون وتقدميون ولأننا نعيش في بلد منفتح... يكرهوننا لأننا نكرس أنفسنا للتعددية والتسامح والحرية والمساواة". وأشاد بعظمة الدين الإسلامي، وبكتاب عن الإسلام أنهى قراءته أخيراً هو كتاب "أزمة الإسلام" لمؤلفه برنارد لويس! وقال: ""يجب علينا أن نبيّن للناس العاديين في أنحاء العالم الإسلامي، أن الولاياتالمتحدة ستبذل ما في وسعها من أجل دعم حريتهم وطموحاتهم ومستوى معيشتهم ... وأن نوضّح لحلفائنا في العالم الإسلامي بأننا لن نغلق أعيننا وآذاننا كما كنّا نفعل سابقاً عن البروباغاندا التي تنشرها وسائل الإعلام أو المساجد والمدارس التي ترعاها الحكومة". * باحث أردني مقيم في نيويورك.