هل يعني الفوز التاريخي الذي أحرزه الرئيس بوش في الانتخابات النصفية، ان الطريق الى تجديد ولايته سنة 2004 أصبحت سالكة وآمنة؟ وهل يعني انتصاره في معركة استعادة السيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب، أنه سيظل القائد المفضل للحزب الجمهوري؟ وهل من الممكن ان تحرمه الأزمات الخارجية المتعاظمة في الشرق الأوسط من استثمار انتصاراته الداخلية في معركة تمديد ولايته الثانية؟ الصحف الأميركية بدأت تلمّع صورة السناتور جوزيف ليبرمان، نائب المرشح الديموقراطي السابق آل غور، وتتحدث عنه كمنافس جدي لانتخابات الرئاسة المقبلة سنة 2004. وكشف هو عن هذا الطموح عبر المحاضرة التي ألقاها في جامعة "جورجتاون". وبدلاً من أن يتصدى للمشكلات الاقتصادية كما يفعل زملاؤه في الحزب، اختار ليبرمان القضايا العالمية المطروحة أمام رئيس الجمهورية ليشرح وجهة نظره في السعي لإيجاد الحلول المناسبة. قال انه على استعداد لضرب النظام العراقي وتصعيد الحرب ضد الإسلام السياسي الراديكالي الذي يعتبره امتداداً للحرب الباردة، ونسخة جديدة عن الستار الحديد العقائدي. وانتقد بعنف الرئيسين بوش وبوتين لأنهما يعززان فرص السلام في الشرق الأوسط بدلاً من تقليد اسلوب اسرائيل في حل النزاع مع الفلسطينيين. ودعا في محاضرته المجلس الوطني العراقي الى اسقاط شرعية صدام حسين قبل ان تتدخل واشنطن لإسقاطه بالقوة، ثم طالب بضرورة انشاء تحالف عسكري دولي لانجاز مهمة لم تتحقق عام 1991. ولكنه استدرك ليقول انه في حال فشلت عملية تأسيس التحالف، فإن أميركا مدعوة لخوض الحرب بمفردها نظراً للخطورة التي يمثلها صدام حسين على أمنها القومي وسلامة شعبها. وختم محاضرته بالتحدث عن رحلته الى أفغانستان واجتماعه بالرئيس حميد كارزاي. أول ردَّ فعل على مضمون المحاضرة وتوقيتها جاء من المعلق روبرت نوفاك الذي كتب في "نيويورك تايمز" تحليلاً قال فيه ان المرشح الجدي لمنافسة جورج بوش عام 2004 هو جوزيف ليبرمان وليس آل غور. ثم تبعه عدد من المعلقين الذين كتبوا عن جرأته، وقالوا ان ترشيحه السابق لمنصب نائب رئيس الولاياتالمتحدة شكّل اختراقاً تاريخياً في جدار سياسي محرم على السود واليهود. وأثبت الحزب الديموقراطي بهذا الاختيار انحيازه التقليدي الى إسرائيل باعتباره أول حزب أميركي يرشح أول يهودي لهذا المنصب القيادي. مطلع الثمانينات اقترح رئيس وزراء اسرائيل فكرة "اقتحام" البيت الأبيض سياسياً وترشيح أميركي من أصل يهودي لخلافة الرئيس رونالد ريغان عقب موافقته على بيع السعوية طائرات "أواكس". وكان من الطبيعي ان يحدث هذا الاقتراح بعض الخلافات في وجهات النظر بين الراغبين في الانصياع لإرادة بيغن والمتخوفين من اعتراض غالبية الشعب الأميركي المسيحي على تميّز فريق لا يتجاوز عدده نسبة اثنين في المئة من مجموع المواطنين. خصوصاً ان هذا الفريق لا يخجل من الجهر بازدواجية الولاء الوطني، الأمر الذي يؤدي الى إحداث خلل في قيادة الدولة. وتدخل يومها هنري كيسنجر مع منظمة "إيباك" محذراً من مخاطر تجاهل رأي الغالبية المسيحية، ومقترحاً زرع المتنفذين في المواقع الخلفية المؤثرة وليس في المواقع الأمامية المكشوفة. وفي اجتماع عقدته المنظمات اليهودية لبحث هذا لموضوع، قدم كيسنجر الحجج لدعم موقفه وقال ان وزير المال مورغانتو والأخوين روستو وهو شخصياً، كانت لهم ادوار غير مباشرة في توجيه سياسة أميركا من وراء الستار. وأوصى بضرورة الاحتفاظ بهذا الحجم من التدخل خوفاً من بعث مشاعر العداء في القارة الجديدة التي لجأوا اليها هرباً من روسيا وأوروبا. وعلق مناحيم بيغن يومها على نتائج الاجتماع الذي طغى عليه منطق كيسنجر بالقول ان اعتراض العزيز هنري ناتج من كونه من المهاجرين الجدد، وأنه لا يحق له دستورياً ترشيح نفسه للرئاسة. المرة الثانية التي أعرب فيها السناتور ليبرمان عن رغبته في خوض معركة 2004 كانت في ولاية "همبشاير" التي تقام فيها الدورة الأولى لاختيار مرشحي الحزب الديموقراطي. واعترف بحضور زعيم الأقلية ريتشارد غايبهاردت والسناتور جون كيدي ولاية ماستشوست والسناتور جون ادواردز ولاية نورث كارولينا بأنه يتطلع برغبة جامحة الى اليوم الذي يجري فيه اختياره لمنافسة جورج بوش. وراح يختار المناسبات لإظهار كفاياته في الخطابة مشدداً على التمسك بقيم روحانية أقرب ما تكون الى كرازة المبشرين منها الى حملة المرشحين. كل ذلك لكي يحشد حوله أكبر عدد من المواطنين المتدينين الذين يشدهم - بعد احداث 11 أيلول سبتمبر - الكلام على الإيمان وتأثيره في سلوك البشر. ويبدو ان الاكثار من هذه الجرعات المذهبية استثار المتزمتين، خصوصاً عندما كان يوظف التلمود أرميا وحزقيال لدعم وجهة نظره. وتصدى له مرة ابراهام فوكسمان لينتقده بشدة ويطالبه بعدم زج اسم "يهوه" في المعارك الانتخابية. وشاركه في هذا الانتقاد عدد كبير من فريق الإصلاح العلماني المتمثل في قيادات الحزب الديموقراطي، نظراً للمتاعب التي يجرّها الحديث عن الدين والمذاهب في الولاياتالمتحدة. ويتخوف هذا الفريق من تحريك مشاعر الكاثوليك بين أفراد الجاليتين الايرلندية والألمانية اللتين تختزنان كراهية قديمة لزعماء اليهود بسبب تأييد زعمائهم قرار تجميد الهجرة في القرن التاسع عشر. ويكشف كتاب "القوة اليهودية" عن السبب الحقيقي، إذ يرجعه الى الخوف من تعزيز قوة الكنيسة الكاثوليكية. اضافة الى هذا العداء المتأصل، فإن غالبية الكاثوليك في الولاياتالمتحدة تؤمن بأن اغتيال الرئيس جون كينيدي لم يكن نتيجة مخطط نفذته عصابة المافيا أو كاسترو أو موسكو أو ادغار هوفر أو ليندون جونسون، وانما هو عمل مدبر من "الموساد". والسبب يكمن في بضعة أسطر كتبها بن غوريون في مذكراته إثر اجتماعه بالرئيس جون كينيدي. قال له الرئيس الأميركي انه لن يسمح لإسرائيل بإدخال أسلحة الدمار الشامل الى منطقة الشرق الأوسط، وأبلغه انه سيرسل خبراء للكشف عن حقيقة ما يجري داخل مفاعل "ديمونا". ونفذ كينيدي تهديده وأرسل وفداً من الخبراء ضللهم الاسرائيليون اثناء عملية المراقبة. وكتب بن غوريون حرفياً في مذكراته: "عندما سمعت تهديد الرئيس كينيدي ايقنت انه من المفيد لمصلحتنا ألا نسمح بوصول كاثوليكي الى رئاسة البيت الأبيض". وعلى رغم اشارات الإيحاء التي قدمها مؤرخو تلك المرحلة - إن كان عبر التحاليل أو المذكرات أو الأفلام التي أُنتجت عن حياة كينيدي - فإن اغتيال القاتل لي أوزولد على يد اليهودي جاك روبي، كان الجواب الشافي عن كل التساؤلات المريبة. ذلك انه بقتل القاتل أسدل الستار على أبشع المسرحيات الدموية وأكثرها غموضاً في تاريخ الولاياتالمتحدة. وكان من المنطقي أن تشنّ وسائل الإعلام المحكومة من اليهود حملة تضليل بهدف اخفاء هوية المحرض الحقيقي من طريق توزيع التهم على جهات لم يثبت تورطها. في لقائه مع مجلة "جيروزالم ريبوت" الاسرائيلية التي اختارته موضوعاً رئيسياً لغلاف عددها 12 آب/ أغسطس الماضي، انتقد جوزيف ليبرمان سياسة بوش الخارجية، واعتبرها عاجزة لأنها رفضت التعاون مع سورية وإيران بطريقة تحول دون استشراء موجة الارهاب. وقال انه التقى عرفاتمرات عدة، وشارك المراهنين على نجاحه بعد أوسلو، ولكن الرئيس الفلسطيني خيّب آمال الجميع بسبب قيادته الفاشلة. وعندما وقعت أحداث 11 أيلول سبتمبر أيّد ليبرمان الرئيس بوش في مواقفه الحازمة ضد الارهاب، وقام بدور مهم داخل الكونغرس لتشجيع ممارسات ضبط الأمن، وقال في احدى خطبه ان هناك ثلاثة ثوابت مشتركة تجمع اليهود بسائر جاليات أميركا: أولاً - حب الدفاع عن أرض الوطن. ثانياً - الاعتزاز بالتراث القديم. ثالثاً - مواصلة الاعتماد على الله. وهو بتكرار هذه الثوابت يريد ازالة الشكوك من أذهان الأميركيين الذين يؤمنون بأن اليهود يعتبرون القارة الجديدة جسراً للعبور الى أرض الميعاد، ومصدراً اقتصادياً يمكن استغلاله لتقوية دولتهم التاريخية. كما يؤمنون بالاختبار ان مصلحة الدولة اليهودية تأتي في طليعة الأولويات، وان أسرار القنبلة الذرية نُقلت في الخمسينات الى موسكو بواسطة عائلة روزنبرغ الى أُعدمت في عهد ايزنهاور. والقرائن على اعمال التجسس كثيرة كانت آخرها عملية الجاسوس بولارد الذي سرب لإسرائيل أهم معلومات عن التكنولوجيا المتقدمة. وهي بدورها منحتها لروسيا في مقابل هجرة مليون يهودي! الآلة الإعلامية اليهودية نشطت خلال الشهرين الماضيين في اتجاه تلميع صورة ليبرمان ضمن محاولة لإظهاره مرشحاً جدياً قادراً على قيادة الولاياتالمتحدة. وأعطى هو النماذج السياسية التي يقتدي بها وقال ان روزفلت وترومن وكينيدي هم الشخصيات التي أثرت في حياته. ولكن الصحف الاسرائيلية تتحدث عنه بمواصفات ابراهام لينكولن كأن دخوله البيت الأبيض يشكّل فرصة تاريخية لا تعوض. والملاحظ انه في جميع جولاته الانتخابية يحاول ان يعطي كل تيار حصته من المداهنة والتزلف. ففي لقائه مع جماعة حماية البيئة قال لهم انه سيؤمن تشريعات تحمي صحة المواطنين وسلامتهم ونظافة مجتمعهم. وانتقد إهمال ادارة بوش هذا الموضوع لاعتقاده أن البيئة تمثل أجمل خلق الله... والذي يهمل البيئة يهمل الله. وفي محاولة أخرى للإفادة من الموجة المتنامية ضد الارهاب، أسس ليبرمان جمعية بقيادته ورعاية زوجة ديك تشيني "لين" تسمى "المجلس الأميركي للأمناء". وغاية الجمعية التصدي لكل الأكاديميين والكتّاب والصحافيين الذين يتجرأون على انتقاد عجز الدولة في شأن أحداث 11 أيلول... أو على الأقل يتجرأون على اتهامها بالتآمر، واعتبرت هذه الخطوة في نظر المثقفين مجرد خطوة جديدة لبعث حركة السناتور جو ماكرثي الذي طارد الشيوعيين والراديكاليين في الأربعينات والخمسينات. يبقى السؤال الأخير المتعلق بهذه العملية التي تُعتبر الأولى من نوعها في تاريخ المجتمع الأميركي المحافظ والمتدين. وفي تقدير ليبرمان ان الصدمة الأولى مرت بسلام خلال الدورة السابقة، وان الناخبين تقبلوا اسمه كنائب رئيس، علماً أن العرب والمسلمين الأميركيين انتخبوا منافسه جورج بوش لاعتقادهم أنه سيكمل خطوات والده، فإذا به ينحرف عن خط الاعتدال ويسير في ركاب شارون. ومعنى هذا ان التجربة وحدها تثبت قدرة ليبرمان على حصر ولائه الوطني بالولاياتالمتحدة، من دون أن يسخّر قوتها وامكاناتها ودورها لخدمة أرض الميعاد، وفي هذا يختلف زعماء الجاليات اليهودية حول النتائج المتوقعة من وراء هذه المغامرة، وما إذا كان المجتمع الأميركي يتقبل بارتياح وصول يهودي متدين الى رأس السلطة. بعضهم يؤيد موقف هنري كيسنجر في ضرورة البقاء في أروقة الحكم من دون التعرض للمواجهات المكشوفة... والبعض الآخر يقول ان صناعة "الهولوكست" نظفت المجتمعات الدولية من مشاعر العداء واللاسامية. أما جوزيف ليبرمان فيقول انه ينتظر الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ستعانيها البلاد خلال العام المقبل، وأن أزمة العراق لن تحل مشكلة الشرق الأوسط. ومن خلال هاتين الثغرتين سيتسلل الى البيت الأبيض عام 2004 بهدف محو صورة "اليهودي التائه" التي رسمها هنري فورد مطلع القرن الماضي، عن الشعب الأفّاك!! * كاتب وصحافي لبناني.