إن كان لا بد من وهم، أو مجموعة أوهام، أو خرافة، أو مجموعة خرافات، كي تقوم قائمة الإمبراطوريات، كما هو محقق عبر التاريخ، فما نشهده اليوم على الساحة الأميركية ليس جديداً، وإن يكن بالغ الغرابة نسبة إلى مضمون الخطاب السياسي المحتشد بدعاوى تحرير الآخرين من العبودية، وتمدين المتخلفين، ونشر الديموقراطية، وإزالة الحيف عن الشعوب المهيضة الجناح. فخلف هذا الخطاب البرّاق معتقدات تستمد إيديولوجيتها من تفاسير وتركيبات توراتية، طالما رأت فيها الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذوكسية والكنيسة الأنغليكانية هرطقة لا تستحق حتى أن تناقش لاهوتياً في صورة جدية. إلا أن الواقع على الأرض شيء آخر بالمرة. فاستطلاعات "غالوب" أفادت أخيراً أن 64 في المئة من الأميركيين يعتبرون أنفسهم "إنجيليين مولودين مرة ثانية". ويؤمن 71 في المئة من هؤلاء أن العالم سينتهي قريباً في معركة بين المسيح والمسيح الدجّال، وذلك بحسب النص التوراتي كما يقرأونه، وستنشب المعركة في مرج ابن عامر شمال فلسطين آرماجدّون، أو وادي الملح. بناء عليه، وعلى مجموعة أخرى من التفاسير والاجتهادات، تشكلت في الولاياتالمتحدة أخيراً قوة معنوية هائلة، أين منها اللوبي الصهيوني، تدعم اسرائيل الشارونية بلا تحفظ، وترى في كل ما يحصل في الشرق الأوسط، علامة من علامات نهاية الأزمنة! "هنا، في هذا المكان، ستلتقي جيوش العالم" قالت الداعية السياسية تريس آمّونز بصوت ملؤه البحة والتهدج، وأكملت: "هنا سيحدث الكسوف الذي سيحطم كوكبنا. وسيكون دموياً في صورة لا تصدق. آه نعم. سيصل الدم إلى أعناق الخيول على امتداد مئتي ميل، وكل من كان هنا سيتمنى لو أخذه يوم الحشر. بالطبع نحن لن نكون هنا، لأن الرب سيأخذنا قبل ذلك إلى مكان أفضل". أمام هذا الكلام يهزّ فريق الزائرين رؤوسهم إيجاباً ويتمتمون بالتمجيد وهم يقفون في وسط منطقة صحراوية ليس فيها سوى الخرائب تدعى مجدّو في شمال فلسطين. ويذكر أن هذا المكان الموحش شهد معركة رهيبة بين تحوتمس الثاني وأمراء سورية حوالى سنة 1500 قبل المسيح. وفي إنجيل يوحنا كتاب الرؤيا نبوءة ترى في هذا المكان العتبة الأخيرة ليوم الكسوف الحاسم نسبة للبشرية كلها. والغريب أن الإنجيليين الأميركيين الجدد يأخذون النص "الشعري" بحرفية عمياء وساذجة إلى حد نسيان البديهيات البسيطة، مثل أن لا خيول في الحروب الحديثة ولا ساحات معارك وسط الصحارى في عصر الذرة والإلكترون. وربما تبادر إلى الذهن أن أصحاب تلك المعتقدات فلاّحون بسطاء، بلا ثقافة معرفية تؤهلهم التفريق بين التخييل الرمزي، لدى يوحنا أو غيره، وبين ما هو روح النص التي بقيت عبر الأزمنة لأن الذين قرأوا النصوص بوعي وإدراك لم يعتبروها وصفة حرفية، بل رؤى يشحنها الإيمان ويشطح بها الخيال. والحقيقة أن نصف الأميركيين "بن لادنيي" القراءة للنصوص التوراتية. والمثال عليهم في هذا المجال الرئيس جورج بوش ورئيس مجلس النواب، توم ديلاي، أحد أبرز السياسيين في أميركا. على جدار مكتبه عبارة تقول: "لعل اليوم هو اليوم الأخير"، إشارة إلى إيمانه الراسخ بالقرب الوشيك لنهاية العالم. وبالنظر إلى الثقافة الشعبية الرائجة بقوة مذهلة حالياً عبر الولاياتالمتحدة، يتبين ان مايكل د. إيفنز هو صاحب اكثر الكتب مبيعاً في الآونة الأخيرة: "ما بعد العراق: الخطوة التالية - لقاء النبوءات القديمة ونظرية المؤامرة الحديثة". وبالنسبة إلى إيفنز وملايين القراء الذين تهافتوا لشراء كتابه، فإن "خريطة الطريق" ليست الحل المطلوب لقضية الشرق الأوسط، بل هي الحل المكروه، كونها تؤخر الطريق الموعود توراتياً إلى مرج ابن عامر. ويقول إيفنز: "جرى استبعاد المسيحيين المؤمنين بالتوراة عن محادثات أوسلو. أما أنا فقررت ألاّ أدع ذلك يحدث مرة ثانية. هذه إسرائيل أرض التوراة ولنا الحق في اختيار التوراة خريطة طريق إذا شئنا. محادثات العقبة التي نتج عنها قرار "خريطة الطريق" لم تكن محادثات سلام، بل محادثات تهدئة خواطر خضعت لها إسرائيل بالإكراه لتهدئة أوروبا والأممالمتحدة والعرب". ويرى إنجيليو أميركا الجدد أن نهاية العالم المحققة للنبوءات التوراتية بدأت عام 1948 مع إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، فتجمُّع اليهود في أرض الميعاد، بنظرهم، إرادة عليا، القصد منها التحضير للمعركة الفاصلة بين قوى الخير إسرائيل والولاياتالمتحدة وقوى الشر العرب، الأوروبيون، المسلمون، وأيضاً الأممالمتحدة! وفي تلك المعركة سيجرى تدمير الأرض، ما يشير إلى عودة المسيح ليحكم العالم ألف سنة. أما اليهود فما عليهم إلا أن يشهروا إيمانهم، ولو دقائق قبل الكسوف الأخير، بأن ينسفوا المسجد الأقصى ويبنوا مكانه الهيكل الثالث، تكفيراً عن إنكارهم الطويل بأن عيسى ابن مريم، هو المسيح الحق! هذا هو السيناريو الذي يحرّك سياسة أقوى دولة في العالم اليوم، وتبث تفاصيله على مدار الساعة شبكات تلفزة وإذاعات ومواقع أنترنت يلمّ بها أكثر من مئة مليون أميركي. ولو أردنا اختصار العقلية التي تسيّر مواقف الأميركيين المذكورين حيال قضية الشرق الأوسط في مشهد حيّ، نستعير ما كتبه الصحافي البريطاني جوهان هاري واصفاً رحلته إلى فلسطينالمحتلة مع فريق إنجيلي أميركي جاء يقوم بما يسمى "سياحة سياسية". وكتب هاري لملحق "أندبندنت" في 30 حزيران يونيو 2003 واصفاً "ذكاء" تريسي، أحد الناشطين الأميركيين في الدعاية لإسرائيل، إذ يقوم بزيارتها للمرة الأولى مع زوجته: "يرى تريسي أن الفلسطينيين سيخسرون كل شيء قريباً، لأنهم متطلبون يتحدّون إرادة الرب برفضهم سيطرة إسرائيل على كل الأراضي المقدسة، بما فيها غزة والضفة الغربية وشرائح كبيرة من الأردن. وينبغي لذلك أن يجبروا على الرحيل بقوة الجيش الأميركي. "إعط الصحراء للعرب، إنهم يحبون البداوة. يمكنهم أن يفعلوا ذلك وسنكون سعداء، ما داموا يتصرفون في شكل لائق". وفي مكان آخر ينقل هاري عن تريسي قوله: "المسلمون يشكلون اليوم 55 في المئة من الشعب الفرنسي. الناس هناك خائفة أن تترك بيوتها، وأنا أخشى المصير نفسه لإنكلترا. الإسلام ينتشر كالسرطان في العالم كله". ولدى وصول فريق الزيارة إلى حائط المبكى ينظر تريسي إلى زوجته ويسألها: "عزيزتي هل تريدين الكلام مع الرب؟طبعاً، تقول الزوجة، فيناولها تريسي هاتفه الخلوي، وتقترب الزوجة من الحائط وتبدأ مكالمتها "الإلهية"... ربما بدا ذلك أقرب إلى المزاح، مع أنه نقل واقعي غير منقوص، إلا أن المعلومات الإحصائية الأخيرة تفيد أن ربع الأميركيين يعتقدون بوجود "نبوءة توراتية" وراء أحداث 11 أيلول سبتمبر، ومثلهم يعتقدون بأن المسيح عائد في وقت وشيك، وثلثهم يولي اهتماماً جدياً للمقارنة بين النبوءات التوراتية والأحداث الجارية، فيما يؤمن ثلثا الأميركيين بعلاقة وثيقة بين كتّاب الرؤيا ليوحنا والزمن الراهن، بمن فيهم الرئيس بوش. ويلعب الإسراء او الأخوذ والانتقال إلى السماء بقوة الرؤيا، بحسب يوحنا، دوراً أساسياً في تكوين الإيديولوجيا الجديدة. ملايين الأميركيين موقنون أنهم في لحظة ما، ومن دون سابق إنذار، سينتقلون جسماً وروحاً إلى الجنة، كونهم في عداد المؤمنين المختارين الذين سيوليهم الرب معاملة خاصة قبيل الكسوف الأخير، فينقذهم من ذلك اليوم الرهيب. ويعزّز هذا الاعتقاد بصورة مكثفة سيل من الكتب والأسطوانات المدمجة وكتب الأطفال وبرامج الانترنت والروزنامات التي تحصي أيام ما قبل الإسراء بنصوص وشذرات مختارة، ناهيك عن ملصقات للسيارات. بينها: "انتبه! سائق هذه المركبة ممكن أن يختفي في أي لحظة. إركب على مسؤوليتك!". من أين جاءت هذه الفلسفة الخارجة عن اللاهوت الكلاسيكي والغريقة في التهويل الخرافي؟ بعض الدارسين البروتستانتيين اعتبروا كتاب الرؤيا ليوحنا إنجيل المسحوقين في الأرض، كونه مليئاً، بل حافلاً، بالوعود الفردوسية. وبما أن عبارة "أبوكاليبس" واردة غير مرة في ذلك الكتاب، والكلمة معناها اليوناني "كشف الحجاب"، بمعنى الكشف عن حقيقة العالم، وبالتالي فضح ظلم الظالم والإصغاء لشكوى المظلوم الذي قهره العالم القائم على الفساد والخطيئة. من هنا انطلق دعاة نهاية العالم ليقولوا إنهم هم "المظلومون" وبما أن يوحنا يبشر أيضاً بلحظة الإسراء قبيل لحظة الدمار الشامل فالعدالة السماوية ستأخذ مجراها، وسيكونون من المنقذين. وقد بدأت هذه الفلسفة تتبلور منذ مطلع القرن التاسع عشر على يد المحامي الإيرلندي جون نلسون داربي الذي جال الولاياتالمتحدة مكرزاً بمشروعه الخلاصي، انطلاقاً من التوراة والأناجيل، بعدما قام بتشريحها إلى سبع مراحل: مرحلة "البراءة الأولى" أي زمن آدم عليه السلام، "مرحلة الوعي" منذ آدم حتى الطوفان، مرحلة "الحكم والسلطة" في ما بعد الطوفان، مرحلة إبراهيم وموسى وسمّاها "مرحلة الشريعة"، مرحلة موسى حتى المسيح أو "مرحلة النعمة"، "مرحلة القيامة" بعد المسيح، وأخيراً "زمن المملكة" بعد نهاية العالم وعودة المسيح المنتظرة. واللافت في هذا التقسيم أن كل مرحلة تبقى مستقلة عن الأخرى ولا تنطبق تعاليمها وإرشاداتها على غيرها من المراحل، فرسالة التسامح المتناهية في موعظة الجبل، التي يعتبرها السواد الأعظم من المسيحيين ركن إيمانهم الوطيد، عليها أن تبقى مجمّدة حتى إلى ما بعد نهاية العالم، ذلك أن المساكين والأبرار الذين أراد المسيح ترطيب قلوبهم بوعد الملكوت ينبغي أن يكونوا في عداد المختارين الذين أسروا إلى السماء قبل الأبوكاليبس. وحتى ذلك الوقت لا بأس لو أخذ المسيحيون بالتعاليم اليهودية. وهكذا تولدت في أميركا ديانة مسيحية جديدة تدعى اليهودية - المسيحية، كونها تعتبر المسيح استمراراً طبيعياً للتوراة اليهودية لا ثورة عليها. وفي "قانون الوطنية" عبارة واضحة من شأنها التأكيد على الهوية الدينية لأميركا وضرورة الحفاظ على التركة اليهودية - المسيحية كواجب وطني مقدس! وعلى رأس الدعاة المتحمسين لليهودية - المسيحية المبشر الشهير بيلي غراهام، وهو الهادر باستمرار في الدعوة لنصرة الإسرائيليين على جيرانهم "المتوحشين". لكن لسوء حظه تسرّب إلى وسائل الإعلام أخيراً تسجيل حديث له في البيت الأبيض مع الرئيس السابق ريتشارد نيكسون. كان ذلك في العام 1972، وكان غراهام يشكو للرئيس الأميركي من "القبضة الخانقة لليهود على الحياة الأميركية"، تلك القبضة، قال المبشر: "يجب أن تكسر وإلا فنحن والبلاد إلى الهاوية... إذا جرى انتخابك مرة ثانية يجب أن نفعل شيئاً". ثم أسرّ غراهام إلى نيكسون بتورطه في لعبة التخابث المتبادل بينه وبين اليهود الأميركيين: "عليّ أن أكون سلساً معهم بعض الشيء، كما لا يخفاك، فأذهب وأتصنّع الصداقة مع السيد روزنتال في نيويورك تايمز... لكنهم لا يعرفون شعوري حيال ما يفعلونه لهذا البلد". بل يعرفون كيف يستغلون ضعف الضعفاء تجاههم بما يفوق إدراك بيلي غراهام! العام قبل الماضي زارت إسرائيل زعيمة "الائتلاف المسيحي" روبرتا كومبس، وهي من أبرز الشخصيات الأميركية الداعية لإسرائيل، فهرع إلى الاحتفاء بها آرييل شارون وبنيامين نتانياهو ولفيف كبير من شخصيات ليكود، وفي النتيجة تراجعت كومبس عن نقدها للجدار العازل و"تفهمت" وجهة نظر إسرائيل. أما جيري فالويل، أحد أشهر المبشرين الإنجيليين في الولاياتالمتحدة فقال علناً: "أنت وأنا نعرف أن السلام في الشرق الأوسط لن يتحقق إلا متى جلس يسوع المسيح على عرش داوود في أورشليم". لقاء هذا القول، وتصريح سابق له عام 1999 قال فيه إن المسيح الدجّال سيكون يهودياً و"لعله يعيش اليوم في مكان ما" منحته الدولة العبرية جائزة جابوتنسكي للصداقة الاسرائيلية، وهي أرفع الجوائز التي تمنح لأجانب يساندون إسرائيل... لذلك يندفع بعض الإنجيليين في حماستهم الساذجة إلى حدود الهوس، مثل المبشر هال ليندسي الذي نشر رواية بعنوان "دم القمر" بطلها رئيس حكومة اسرائيلي "خارق" ضرب العالم العربي وقائياً! بالسلاح الذري، فدمّر مدنه الكبرى كلها. وفيما لقيت الرواية إقبالاً كاسحاً لدى جمهور الأبوكاليبس انتقدها الباحث اليهودي ليون ويسليتر في مجلة "نيو ريبابليك" بقوله: "إنها كوميديا قاتمة قائمة على التزلف المتبادل، الإنجيليون يتزلفون لليهود بدعمهم لهم قبل أن يعمدوهم أو يقتلوهم. واليهود المحافظون يتزلفون للمسيحيين بقبول الدعم وهم يعرفون أن تبشيرهم هراء". واضح أن فهم الإنجيليين الإميركيين للكتب المقدسة اعتباطي في أفضل الأحوال، ونفعي مصلحي في أسوأها. فمنذ القرن الخامس للميلاد بدّد القديس آغوسطينوس اللاهوتي كل الأوهام الأبوكاليبسية المنبثقة من رؤيا يوحنا، مؤكداً ضرورة قراءة كتاب الرؤيا من منطلق روحي فحسب: "إلى أولئك الذين يقيمون الحسابات أقول أريحوا أصابعكم"، قال آغوسطينوس، ولم يكن يدري أن أصابع كثيرة ستعزف بعد خمسة قرون نشيد نهاية العالم انطلاقاً من كتاب الرؤيا، كما يحدث اليوم.