مضى عام 2003 بكل ما حفل به من تخريب وتدمير في أجزاء مختلفة من العالم، بعضه بسبب الظروف الجوية الطبيعية من عواصف وفيضانات وارتفاع غير مسبوق في درجات حرارة الصيف، والبعض الآخر بسبب الإنسان الذي مكّنته التكنولوجيا الحديثة مما لم يتمكن منه أسلافه، ففضل أن يستخدمها في الهدم بدلاً من البناء. وانقضى العام من دون أن تتفق دول العالم على وضع خطط تنفيذية لتحقيق الأهداف التي أقرتها قمة التنمية المستدامة في جوهانسبورغ عام 2002، والتي كانت في معظمها إعادة لما أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قمتها الألفية عام 2000. اتفق العالم على أهداف محددة مفروض أن تتحقق بحلول سنة 2015، أي بعد أكثر قليلاً من عشر سنوات، بينها محاربة الفقر وتقليص عدد الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولار أو دولارين في اليوم إلى نصف ما كانوا عام 2000. ومنها أيضاً خفض عدد المحرومين من المياه النظيفة والصرف الصحي إلى نصف ما كانوا عام 2002. واتفقت الدول على أهداف محددة منذ ثلاثة أعوام، وأكدتها منذ أكثر من عام ونصف عام، لكنها لم تحدد كيف يمكن تحقيق هذه الأهداف، وما الذي ستقدمه الدول المتقدمة لدول الجنوب التي تعاني من هذه المشكلات. وتحاورت الدول كثيراً حول تحرير التجارة، لكن الدول المتقدمة لم تحدد حتى الآن ما الذي ستفعله لمعالجة موضوع دعم الزراعة فيها بما يجاوز أضعاف ما تقدمه إلى الدول النامية من معونات. ذلك الدعم الذي يجعل الزراعة في العالم النامي غير قادرة على منافسة نظيراتها في دول الشمال. لم تتضح بعد صورة التجارة الدولية بالدواء، في ظل اتفاقات تحرير التجارة العالمية. وما زالت الشركات الضخمة المتعددة الجنسية والعابرة القارات تسيطر على مقاليد الاقتصاد في الدول المتقدمة، وبالتالي على مقاليد الحكم فيها، الأمر الذي ينعكس سلباً على الدول النامية، كما لم تتفق الدول على مبادئ محددة لنشاط تلك الشركات. كل هذه قضايا أساسية للتنمية. كانت معنا في العقد الأخير من القرن الماضي، ودخلت بعنف إلى القرن الجديد، الحادي والعشرين، وتزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. والأمل أن يرى عام 2004 خطوات إيجابية محددة لتنفيذ ما تعهدت الدول تحقيقه في نيويوركوجوهانسبورغ، وخطوات إيجابية في مفاوضات تحرير التجارة العالمية، خصوصاً في مجال الزراعة وتجارة الدواء. أما في قضايا البيئة العالمية، ففي مقدمها: تغير المناخ وارتفاع درجة حرارة العالم، مفقودات التنوع البيولوجي، تزايد إنتاج الكيماويات السامة وتداولها، نقل النفايات الخطرة عبر الحدود، تلوث المياه الشاطئية، الازدياد المستمر في عملية الحضرنة أو زيادة الرقعة الحضرية، وأخيراً شح المياه. وتضبط التعامل مع أربع أو خمس من هذه المشكلات اتفاقات دولية تفاوضت الحكومات على كل منها سنوات، ووقعتها ثم صادقت عليها أجهزتها التشريعية ودخلت حيز التنفيذ. وعندما حان وقت العمل الجاد من الدول لتنفيذ ما اتفقت عليه، وجدنا تفككاً غريباً في هذا الرباط الدولي. ولعل أوضح صورة لذلك قضية تغير المناخ التي تمثل التحدي الأكبر لهذا الجيل والأجيال القادمة، يصل إلى درجة ما إذا كانت الحياة على الأرض يمكن أن تدوم أو لا تدوم. لقد جاهد العلماء في كل بقاع الأرض سنوات طويلة لإيضاح أبعاد هذه القضية. واتفق رأي الغالبية العظمى منهم على أن الارتفاع الذي حدث في متوسط درجة حرارة العالم خلال القرن الماضي وهو 6,. درجة مئوية، إضافة إلى امتصاص المحيطات لقدر مماثل من الحرارة، سببه الرئيس النشاط الإنساني الذي تنتج منه زيادات مستمرة في ما سمي غازات الدفيئة، وأهمها غاز ثاني أوكسيد الكربون، وتأتي بعده غازات الميثان والأوزون وبعض أكاسيد النيتروجين. وقدم العلماء نماذج رياضية دقيقة لما حدث وما يمكن أن يحدث، وانتهى تقويمهم إلى أن متوسط درجة حرارة العالم سيرتفع خلال القرن الحالي في حدود ثلاث درجات مئوية، وإن كنا لا ندري حتى الآن أين ستكون الزيادات الكبيرة وأين ستكون الزيادات المحدودة وأين سيكون النقص أو الثبات في درجة الحرارة الذي سيؤدي إلى هذا المعدل العام. قد يرى القارئ أن زيادة متوسط درجة حرارة العالم ثلاث درجات مئوية ليست أمراً ذا بال، فهذه زيادة محدودة. ولكن إذا علمنا أن الفرق بين درجة الحرارة التي تعيشها الأرض الآن ومتوسط درجة حرارتها يوم كانت تعيش العصر الجليدي هو خمس درجات مئوية، يتضح أن ثلاث درجات هي زيادة مخيفة يتبعها تغير في نظام سقوط الأمطار وارتفاع للمياه في البحار والمحيطات وتحطيم قدرة العديد من الكائنات الحية - بما فيها الإنسان - على التعايش مع مثل هذه الحرارة العالية. وأكد العلماء أن هذا الارتفاع في درجة الحرارة خلال القرن الحالي ستصحبه، لفترة طويلة منذ بداية القرن، تغيرات مناخية واضحة: ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة صيفاً، وخفض ملحوظ في درجات الحرارة شتاء، واشتداد العواصف والرياح والفيضانات التي تحطم في طريقها النبات والمسكن والحيوان. فلنتصور العديد من الأخطار التي قد يمكن وقد لا يمكن التعايش معها، حتى لو بدأنا الإعداد منذ الآن لإنتاج محاصيل تستطيع العيش في درجات حرارة أعلى وأنتجنا مزيداً من الطاقة لتبريد البيوت وأماكن العمل. العالم كله لا يناقش هذه الحقائق، بل يعترف بها ويتفق على خفض انبعاثاته من غازات الدفيئة لنسب محددة خلال الفترة من 1992 إلى 2010. وتتسابق الدول للتصديق على اتفاق كيوتو الذي ينظم هذا التحقيق. وفي خضم هذا القدر الهائل من القلق يصر قادة الولاياتالمتحدة، التي تنتج أكثر من 20 في المئة من إجمالي غاز ثاني أوكسيد الكربون في العالم، على الانسحاب من الاتفاق فجأةً. وتأتي الدولة الكبرى الأخرى، روسيا الاتحادية، التي تنتج نحو 10 في المئة من هذه الغازات، لتؤجل أيضاً اتخاذ قرار بالتصديق على الاتفاق. حجة الدولتين أن الخفض يؤذي اقتصاد كل منهما، كما لو كان المهم هو مزيد من الغنى للأغنياء ومزيد من التفوق للأقوياء ومزيد من النعم للأثرياء، وهم محدودو العدد جداً في هذا العالم، على حساب الغالبية العظمى من سكانه، الذين سيعانون الأمرين من مثل هذا التغير في المناخ. وإذا كان مما لا شك فيه أن موضوع تغير المناخ، بحسب ما يقدمه العلم والعلماء، مدعاة للقلق الحقيقي، فهل يكون هناك أمل أكبر في أن تشهد سنة 2004 انفراجاً في التعامل مع هذه القضية، وأن يرى قادة الولاياتالمتحدةوروسيا الأمر في إطاره الصحيح، كخطر داهم يتهدد العالم كله؟ إذ إن كل التكنولوجيات المتاحة للدول الغنية وكل الأموال لديها لا يمكن أن تحميها من النتائج المأسوية لتغير المناخ، إذا استمر التهاون في شأنه على نحو ما نرى. ولا يداني هذه القضية أهمية سوى قضية شح المياه، وهي القضية التي تعاني منها دول عدة في العالم، وستشتد حدتها لا شك مع استمرار زيادة معدل حرارة الجو والتغير في المناخ. وهذه القضية تهم منطقتنا العربية بصفة أساسية. فكلنا، باستثناءات لا تذكر، نعيش الآن بالفعل تحت خط الفقر المائي. ويمكن تصور الوضع بعد عشر سنوات أو 20 سنة، وكميات المياه المتاحة كما هي فيما سكان المنطقة يتزايدون باطراد. وفضلاً عن ذلك، تعاني المنطقة العربية من مشكلة خاصة هي أن غالبية المياه الدولية الموجودة فيها تأتي من مصادر تقع خارج الدول العربية، ومعنى هذا أنها قد تتعرض لمشكلات من دول منابع تلك الأنهار والبحيرات، الأمر الذي يستوجب أموراً ثلاثة: 1- ترشيد حقيقي لاستهلاك المياه العذبة وليس مجرد شعارات. ولن يتم هذا من طريق وضع القوانين فقط، بل يستلزم تعاوناً كاملاً بين الأجهزة التنفيذية والتشريعية في الدول وبين الأكاديميين والباحثين من جانب، وتنظيمات المجتمع المدني القادرة على تحريك تعاون جموع الشعب قاطبة لتحقيق هذا الترشيد. 2- التعاون البناء الخلاق بين دولنا ودول منابع مصادر المياه الدولية التي تأتي إلى بلادنا لإقامة مشروعات مشتركة يستفيد فيها الجميع من مياه المصدر. 3- التعاون بين الدول العربية وصولاً إلى توطين تكنولوجيات تحلية المياه المالحة. فنحن نعيش في هذه المنطقة على بحار من كل جانب، وتوطين هذه التكنولوجيات سيتيح خفض كلفة إنتاجها، وبالتالي إمكانات استخدامها من دون أن تجعل الناتج منها غير مناسب اقتصادياً. لا نريد أن نحلق في سماء الخيال ونرسم آمالاً على رمال الصحراء تذروها الرياح، ولكن نعتقد بصدق أننا، بقدر من صدق النية والتعاون، يمكن أن نرى بدايات واضحة وجادة لقضايا: التجارة وتغير المناخ وشح المياه. فهل هذا كثير؟ * رئيس المركز الدولي للبيئة والتنمية المدير التنفيذي السابق لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة. ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" عدد كانون الثاني/يناير 2004