سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تعقيبان على الوثائق البريطانية السرية حول مطاردة الحاج امين الحسيني - وصل الى لبنان بحراً فالتف اللبنانيون حوله بمختلف طوائفهم . الحسيني ترك فلسطين في زي بدوي لا بملابس امرأة
نشرت "الحياة" في السادس والسابع من آب أغسطس الماضي ملفاً عن وثائق أفرجت عنها الخارجية البريطانية أخيراً، بعدما بقيت حبيسة الأدراج نحو 62 عاماً، كشفت أن الحكومة البريطانية لم تقم بأي مبادرة للحؤول دون وقوف الزعيم الفلسطيني مفتي القدس الحاج أمين الحسيني إلى جانب دول المحور بقيادة ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية. وأوضحت الوثائق أن بريطانيا لجأت إلى التشهير بالمفتي والحط من قدره وإشاعة الأخبار الكاذبة عنه بعدما وجدت أن لا أساس قانونياً لاعتقاله وتقديمه إلى المحاكمة. وأظهرت أن الدوائر البريطانية شُغلت على مدار عام كامل في تقصي مكان وجود الحاج أمين الذي برع في التخفي والإفلات من عيون الرقباء. وضم الملف مجموعة كبيرة من المراسلات بين الوزارات البريطانية الثلاث، الخارجية والمستعمرات والدفاع، مع السفراء والقناصل والمندوبين السامين البريطانيين في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، محورها الحاج أمين ونشاطه السياسي وتحركاته. وفي ما يأتي تعقيبان يتضمنان تعليقات وتوضيحات لما تضمنته تلك الوثائق. في الوثائق السرية البريطانية التي نشرتها "الحياة" الشهر الماضي، تعترف بريطانيا بأنها طاردت المفتي بعنف مراراً، براً وبحراً وجواً، لاعتقاله ونفيه الى احدى الجزر ومنعه من الوصول الى دول المحور خلال الحرب العالمية الثانية، لئلا يستفيد المحور من شعبيته عربياً وإسلامياً. ويظهر إبقاء الملف سرياً لمدة 62 عاماً بدل 30 عاماً كما هو متبع عادة، أهمية هذا الملف للانكليز وضرورة حجبه عن أنظار العرب والمسلمين أطول فترة ممكنة. وتعترف الوثائق بالخطة التي أمرت بريطانيا بها سفاراتها وعملاءها وصحفها لتشويه سمعة المفتي ونشر الاشاعات والأكاذيب عنه. كما تعترف بالجهود والاموال التي أنفقتها لتحقيق هذه الغاية. وتقر بمشاركة وزارات الخارجية والداخلية والسفارات البريطانية، اضافة الى وزارة المستعمرات ومندوبيها في القدسوبغداد وعمان وتركياوطهران والهند وغيرها في المطاردة المستمرة للمفتي. ومن جهة اخرى، لا بد من إنارة جوانب عدة مهمة من سيرة المفتي، استناداً الى مذكراته التي كتبها بخط يده، ونشرتها مجلة "فلسطين" تباعاً، ثم جمعها وأصدرها عبدالكريم العمر، خصوصاً ان هذه المذكرات تغطي فترة الحرب العالمية الثانية وما سبقها مباشرة، مما له علاقة بالملف السري. يقول المفتي الحسيني في مذكراته: "علمتنا التجارب المريرة كثيراً عن دهاء الانكليز ومكر اليهود السيئ، وخطر دوائر الاستخبارات البريطانية... وهي تنفق اموالاً كثيرة، وتستخدم ألوفاً من الموظفين، ومن اصحاب المطامح الشخصية، وطلاب المناصب، والراغبين في الاثراء الذين يحبون المال حباً جماً". ويذكر انه عرف من هؤلاء "المطالب بعرش النمسا ووزيراً مفوضاً ومشعوذاً دجالاً وماسح احذية بباب الحرم القدسي ومتسولاً في المسجد الاقصى"، كما عرف "كفيفاً للبصر، وسمع عن نساء يدخلن البيوت للتجسس على اهلها". وتوضيحاً لبعض ملفات الخارجية البريطانية السرية المنشورة اخيراً نورد ما قاله المفتي شخصياً عن مغادرته القدس: "كان الخروج من القدس في السابع مساء الثامن من شعبان 1356 ه الموافق 13 اكتوبر 1937... ولم يكن هناك مناص من تسلّق احد الأسوار والهبوط منه الى الخارج، وهكذا كان، فقد ربط حبل متين في اعلى سور المسجد الجنوبي، وهبطت مع رفيق عارف الجاعوني بواسطته من ارتفاع عشرين متراً، حتى وصلنا الارض، وقد نبحت كلاب الحي وراء سياج الحاكورة المزرعة التي هبطنا اليها... هبطنا الى وادي الربابة ثم صعدنا الحي الغربي القائم على جبل الشيخ النوري، حيث كان في انتظارنا احد الاصدقاء في سيارة اعدت إعداداً خاصاً، لنقلنا الى يافا". ويضيف: "وصلت بنا السيارة الى يافا، على رغم تعرضها للتفتيش مراراً، وكنت ارتدي ملابس بدوية مهلهلة"، وهذا مناقض لما جاء في الملف البريطاني السري حول خروج المفتي بلباس امرأة! وتنبغي الاشارة الى ان المفتي رفض مراراً توضيح كيفية تنكره وتصرفه للإفلات من الانكليز، وبرر ذلك بأنه قد يضطر لاستعمال الطريقة نفسها مرة اخرى، علماً ان ما قيل بعد ذلك في شكل غير رسمي ان السيارة المذكورة كانت من اعداد اميل الخوري، وفيها فلسطينيان مسيحيان، وربما كان المفتي نفسه حمل آنذاك بطاقة او جواز سفر باسم مسيحي. وربما كان المفتي يغير لون لحيته او لباس رأسه او نوعية ملابسه الخارجية...الى غير ذلك من أساليب التنكر. ويصف المفتي وصوله سائحاً الى يافا، فيما كان الانكليز يحاصرون الحرم القدسي الشريف "حيث كان الزورق البخاري الجاهز لنقله والمعد سابقاً تحت شكوك ومراقبة الانكليز... فلجأت الى ركوب زورق شراعي صغير بطول ثلاثة أمتار... يملكه شاب وطني مغامر من بحارة يافا الشجعان المرحوم يوسف اللواح ومساعد له، متوكلين على الله، وسار الزورق بي وبرفيقي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل متسللاً ومحاذراً، وخرج من ميناء يافا ثم تل أبيب ثم قلعة أرسوف حيث أوينا الى صخرة قرب ميناء ابو زابورة، ثم استأنفنا السير الليل كله حتى قرية الطنطورة، حيث أوينا الى كهف، وبعدها الى الكرمل وميناء حيفا غير بعيدين عن الشاطئ حتى وصلنا الى البياضة قرب صور اللبنانية، حيث كانت سيارة تقف على الطريق المحاذي للشاطئ، وتوجه انوارها الى البحر، فأدركنا انها السيارة التي كنا قد اتفقنا مع احد الاصدقاء على إعدادها لنقلنا بطريق لبنان الى دمشق". لكن زورقاً فرنسياً أوقف الزورق ومن فيه، وزعم لهم المفتي ان اسمه محمد الجفري، فنقلوه الى بيروت حيث "قابلني مدير الامن العام الفرنسي المسيو كولومباني وعرفني، ومكثت في بيروت تحت حراسة الشرطة الفرنسية، ولم يسمح لي بمتابعة السير الى دمشق، ولا بمقابلة احد في بيروت ... وحاول المندوب السامي الفرنسي الكونت دو مارتيل نقلي الى باريس فرفضت، وقامت مظاهرات عربية حماسية في بيروت، التي بذل زعماؤها الوطنيون جهوداً مشكورة ادت الى بقائي في لبنان، وإقامتي بقرية ذوق مكايل، تحت اشراف البوليس عامين كاملين الى ان نشبت الحرب العالمية الثانية". ومن الواضح المؤسف ان الملف البريطاني يتجاهل هذه الاقامة في لبنان لمدة سنتين، في حين يذكرها المفتي بكل محبة، خصوصاً انها تميزت بالتفاف اللبنانيين من كل الطوائف حول سياسته، وقامت الكتائب اللبنانية بقيادة الشيخ بيار الجميل بتأمين حراسة اضافية خاصة له، كما يقال ان الجميّل اطلق اسم المفتي على ابنه البكر أمين الذي اصبح في ما بعد رئيساً للجمهورية. وعندما أقام المفتي في قرنايل في الصيف، تبرع اهلها بتأمين الحراسة له بصفته ضيفاً عليهم. ومع اعلان الحرب العالمية الثانية، وتغير العلاقة بين ديغول وحكومة فيشي وبريطانيا، اصبح خطر اعتقال المفتي في لبنان محدقاً، لذلك قرر مغادرته، سراً ايضاً، الى العراق عبر سورية. ويقول عن ذلك في مذكراته: "في الساعة السابعة من مساء 13 تشرين اول اكتوبر 1939، وبعد عامين كاملين على اقامتي في لبنان، غادرت بيروت الى بغداد، ومن غريب الصدف ان خروجي من بيروت كان في نفس الساعة واليوم والشهر التي خرجت فيها من القدس قبل سنتين". ولم يكن هذا الخروج سهلاً بسبب الحراسة الأمنية الفرنسية حول بيته والحواجز من رجال الشرطة على طريق بيروت - دمشق، ومع ذلك "تمكنا من ترحيل معظم المجاهدين والعاملين من اخواننا الى بغداد". اما خروجه، فكان بعدما شاغل حراسه رجال الأمن الفرنسيين بحفلة عشاء، فخرج من الناحية الخلفية للمنزل، ويقول المفتي: "كان الليل قد أرخى سواده، فسرت على قدمي بصحبة رفيق لي مسافة ابتعدنا بها عن المنزل، ثم جاوزنا الحي كله مصعدين في الجبل، الى حيث كان ينتظرنا احد اخواننا المجاهدين المخلصين مع سيارة، فركبناها... وفي دمشق كان ينتظرنا رفاق آخرون في سيارات اعدت خصيصاً، ومعها دليل خبير في معابر الصحراء التي يسلكونها الى تدمر ثم دير الزور. وبعد مشوار شاق طويل وصلت السيارة الى مضارب ظننتها للبدو الذين يعرفهم السائق ولكن لم يكد يعرج بالسيارة نحوهم، حتى وجدنا انفسنا وسط مضارب قوة الصحراء التابعة لفرنسا وقد أحاط بنا عشرات من الجنود المسلحين. وكان قائدهم عربياً من دير الزور حاولنا اقناعه اننا لسنا مهربين، لكنه اصرّ على اعتقالنا وإرسالنا لقيادته الفرنسية في تدمر، ورأيتني مضطراً للمجازفة، فانتحيت بالرجل جانباً، وعرّفته بنفسي، وذكرت له الاسباب التي تضطرني للسفر خلسة وتنكراً من سورية ولبنان، وهما تحت الحكم الفرنسي، الى العراق، فبهت الرجل وأسقط في يده، وكان عربياً شهماً كريماً، فلم يلبث، بعد تردد وحيرة، ان سهّل لنا سبل السفر وأطلق سراحنا مشكوراً، وقد عرض نفسه للخطر، واسمه السرجان صالح، في سبيل القضية التي نعمل لأجلها... ومن غرائب المصادفات في هذه الرحلة ان صاحب السيارة التي حملتنا من دمشق حتى الصحراء كان شهماً كريماً، وقد وضع نفسه وسيارته الخاصة في خدمة القضية، منذ نشوب ثورة فلسطين الى منتهاها، من دون أجر، هو البطل المرحوم السيد محمود الطبال، من مدينة دير الزور". بعد ذلك، يصل المفتي الى بغداد ويشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني، ويقوم الجيشان البريطاني والاردني بمهاجمة الثورة لاعتقال الكيلاني والمفتي وبقية الوطنيين، فتمكن معظمهم من الافلات في اتجاه ايران، وضمنهم المفتي، في حين اعدم الانكليز ضباط المربع الذهبي العراقي الذين قادوا الثورة. وفي ايران يتعرض المفتي لتضييق شديد، حين تتقدم القوات الروسية من الشمال والجيش البريطاني من الجنوب لاحتلال طهران التي يقيم فيها المفتي ومعظم الوطنيين العراقيينوالفلسطينيين. وفي المذكرات تفاصيل حول إفلاته، بعدما طوق الانكليز منزله في طهران ووصفوه في برلمانهم في لندن بعدو بريطانيا الرقم واحد، وبشروا نواب البرلمان بأنه اصبح في قبضة يدهم، ولكنه كان قد لجأ الى احدى السفارات لبضعة ايام، ثم غادرها متنكراً ومنفرداً، في سيارة ركاب عادية ليجتاز مخافر القوات الروسية المتعاقبة سالماً، على رغم انهم شكوا في أمره وأخّروه في احد المخافر لاستكمال التحقيق، ووصل بعد ذلك الى تركيا فبلغاريا وايطاليا ثم المانيا. والملف البريطاني المنشور يؤرخ لسنة واحدة، وقد يكشف النقاب عن بقية ملفات المفتي، بحيث تشكل مع مذكراته الشخصية ارضية لسيرة عن حياة مجاهد كبير منذ ثورة البراق عام 1929 حتى ثورة 1936-1939، وانتقاله الى لبنانوالعراقوايرانوتركيا واوروبا في سبيل قضية شعبه ووطنه، وبقي بعيداً عن بلدته القدس الشريف 30 سنة كاملة، وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية انتقل سراً الى سويسرا ثم فرنسا حيث اعتقل في مرحلة جديدة من حياته المليئة بالمغامرات، وتعرض لمحاولة اغتيال من قبل اليهود، ولمحاولة تقديمه لمحاكمة نورمبرغ كمجرم حرب، مما اضطره الى مغادرة فرنسا، سراً ومتنكراً ايضاً الى مصر، حيث كانت تنتظره اهوال قرار تقسيم عام 1947 ثم ملابسات نكبة فلسطين عام 1948 وما تبع ذلك من انحسار عربي للقضية الفلسطينية، فانتقل من القاهرة للاقامة في لبنان مواصلاً جهاده رئيساً للهيئة العربية العليا لفلسطين ورئيساً دائماً لمؤتمر العالم الاسلامي، حتى تأسيس منظمة التحرير ونشوب حرب 1967، التي احتل فيها اليهود مدينة القدس الشريف ومحاولة حرق المسجد الأقصى، ما ادمى قلب المفتي. وزادته ألماً اصطدامات الفلسطينيين والاردنيين سنة 1970، وكان له دور كبير في محاولة التهدئة، الى ان وقعت الكارثة وانتقل الفدائيون الى لبنان. وعندما حصلت عملية الكوماندوس الاسرائيلي في شارع فردان - بيروت وقتل القادة الثلاثة يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان تألم لما وصلت اليه حال الضعف العربي. ويبدو ان هذه الاحداث كلها أثرت في معنوياته وفي صحته، فانتقل الى رحمة الله في الرابع من نيسان ابريل 1974، وشيع في جنازة رسمية وشعبية لبنانية حتى مثوى الشهداء في شاتيلا.