العنف المبني على النوع الاجتماعي كيف نواجهه؟    سراة عبيدة تحتفل وتتغنى باليوم الوطني    الزهراني مستشاراً لجمعية الإعلام السياحي    أسبوع عمل من أربعة أيام    توطين الحلول الذكية للعمليات التعدينية    إطلاق جائزة المحتوى المحلي    السعودية تؤكد ضرورة الحفاظ على لبنان وتدعو جميع الأطراف لضبط النفس    الأمم المتحدة تشيد بالجهود الإنسانية للمملكة في تخفيف معاناة المتضررين في العالم    المملكة تعلن تقديم دعم مالي شهري لمعالجة الوضع الإنساني في غزة    «ناديا».. روبوت محترف في إنجاز المهام    آيفون ثلاثي الطي في الطريق قريباً    منتخب التايكوندو الشاب يخوض الصراع العالمي    الأخضر السعودي الشاب يتأهّل لنهائيات كأس آسيا 2025    في الجولة الثانية من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي في ضيافة الوصل.. والنصر يستقبل الريان    نفى أي نية لإلغاء البطولة.. الفيفا يعلن تفاصيل مونديال الأندية 2025    ضمن الجولة الخامسة من دوري يلو.. قمة تجمع الحزم والعدالة.. والجبلين يستقبل الزلفي    «الموارد»: اعتماد قواعد لائحتي المنشآت والبرامج الاجتماعية والمهنية لذوي الإعاقة    «تراضي»: إصدار 370 ألف وثيقة صلح.. وعقد أكثر من مليوني جلسة    «التعليم»: بدء استقبال طلبات نقل معلمي الظروف الخاصة.. غداً    توصيل الطلبات.. والمطلوب من مرور جدة    مركز إدارة الحي    الموارد البشرية تعتمد لائحتي المنشآت الاجتماعية لدعم الأشخاص ذوي الإعاقة    الأوركسترا السعودية تختتم روائعها في لندن وتستعد للانطلاق إلى طوكيو    أحمد عطية الأثري.. قاضي الكويت.. الشاعر والخطاط والرسام    الغنام يدشن معرض «وطن يسكن القلوب» بمكة    يكفيك أن يصفق لك أحدهم بيديه    رحلة غامرة عبر الزمن.. «لحظات العُلا» تطرح تذاكر مهرجان الممالك القديمة    استمتاع بالأجواء الثقافية    المملكة.. تحالف لنصرة فلسطين    علِّموا الأبناء قيَّم الاحترام والامتنان    الصداقة    تشغيل غرفة للعمليات جراحية بمركز العويضة للقدم السكرية ببريدة    تغريم 3 شركات طيران خالفت نظام المراقبة الصحية في منافذ الدخول    «الصحة» ل«عكاظ»: الاستقرار الوظيفي وحماية الحقوق يشملان موظفي البنود    اكتشاف خلايا خفية تساعد في التئام الجروح    الامتيازات التنافسية لمياه الشرب المستوردة    اللبننة مجدداً.. أو الفوضى الخلاقة!    الشباب يتغلّب على الرائد بهدفين في دوري روشن للمحترفين    جندلة    حزين يا صديقي أكثر من اللازم !    لجنة عاجلة لكشف ملابسات الازدحام في أحد مقرات «الشؤون الإسلامية» بالرياض    فبركة مقاطع الذكاء الاصطناعي !    برئاسة المملكة.. القاهرة تستضيف اجتماعات محافظي المصارف العربية    «نحلم ونحقق».. أيقونة وطن!    الأمير سعود بن نهار يطلع على رزنامة احتفال تعليم الطائف باليوم الوطني ال94    أطفال ينثرون الفن والشعر احتفاء بيوم الوطن أمام محافظ القطيف    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على بعض المناطق من يوم غدٍ الاثنين حتى يوم الجمعة المقبل    جلسة حوارية في «معرض الكتاب» عن الاستثمار في قطاع النشر    «معامل البحر الأحمر» تفتح باب التسجيل للموسيقى والصوت    محافظ الأحساء يشدد على سرعة إنجاز الخدمات للمستفيدين    أمير الشرقية يتسلم تقرير اليوم الوطني    فيصل بن مشعل يرعى احتفال جامعة القصيم باليوم الوطني    مركز الملك سلمان يدعم المرأة اليمنية    سمو نائب وزير الحرس الوطني يستقبل الكاتب والمستشار الاعلامي محمد ناصر الأسمري    ميقاتي: النزوح الحالي هو الأكبر في تاريخ لبنان    الزواج التقليدي أو عن حب.. أيهما يدوم ؟    يوم مجيد توحدت فيه القلوب    رابطة العالم الإسلامي ترحب بإعلان المملكة إطلاق «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كان مساعداً للحاج أمين الحسيني ومبعوثه الى ألمانيا . توفيق شاكر في الوثائق البريطانية هو اللبناني عثمان حداد
نشر في الحياة يوم 14 - 08 - 2003

في الحلقة الأولى من الوثائق البريطانية المتعلقة بالحاج امين الحسيني المنشورة في "الحياة" في 6 آب اغسطس 2003 كان لافتاً تركيز الوثائق على مساعد شخصي للحاج امين يدعى توفيق شاكر كلفه المفتي السفر الى ألمانيا عبر تركيا، التي كانت تقف على الحياد وقتها، لمفاوضة الألمان حول موقفهم من العرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية المشتعلة آنئذ، ولوحظ اهتمام شديد من السلطات البريطانية وفي فقرات عدة من الوثائق، لمعرفة حقيقة هوية وجنسية هذا الشخص، وما اذا كان فلسطينياً لمطالبة السلطات التركية باعتقاله، واتصالها ايضاً بالحكومة العراقية لمنع إعطائه جوازاً عراقياً.
كان واضحاً من سياق الوثائق سعي بريطانيا الى منع هذا المبعوث الخاص للحاج امين من الوصول الى ألمانيا. وفي 11 كانون الثاني يناير 1941 بعث السفير البريطاني في بغداد الى وزارة الخارجية يبلغها ان شاكر غادر العراق الى تركيا مع تفاصيل جواز سفره، لكن الحكومة التركية بعد ان أنكرت وجوده، عادت وفق رسالة للسفير البريطاني في انقرة في 18 آذار مارس 1941 تفيد بأن شاكر غادر تركيا، وكان معنى ذلك ان شاكر أفلت من الملاحقات البريطانية وتمكن من الوصول الى ألمانيا لتأدية المهمة المكلف بها، والملاحظ بحسب الوثائق ان السلطات البريطانية على رغم ملاحقاتها له لم تتمكن ابداً من معرفة اسمه الحقيقي.
وتكشف "الحياة" في ما يلي ان توفيق شاكر او توفيق علي آل شاكر بحسب الاسم الوارد في الجواز الذي منحته له حكومة رشيد عالي الكيلاني في العراق، هو شخصية لبنانية من طرابلس. اسمه الحقيقي عثمان كمال حداد وكان اديباً وكاتباً ومعروفاً بحماسته العربية ونشاطه الوطني، وكان زار القدس عام 1936 والتقى الحاج امين وأصبح المساعد الشخصي له ورجل المهمات الخاصة للمفتي لشدة ثقته به. وقد أصدر عثمان حداد عام 1950 كتاباً نشرته المكتبة العصرية في صيدا في طبعة محدودة في عنوان "حركة رشيد عالي الكيلاني 1941" حصل الزميل سمير شاهين على نسخة نادرة منه. وفيها يروي حداد بأسلوب شيق علاقته بالحاج امين ومرافقته له في بلدة الذوق في لبنان وبعدها في العراق، وكذلك تفاصيل المغامرة المشار إليها في الوثائق وكيفية إفلاته من الأجهزة البريطانية ووصوله الى ألمانيا وقيامه بمفاوضات شاقة مع الحكومة الألمانية ثم الحكومة الإيطالية للحصول على تأييد استقلال الدول العربية بما فيها دولة فلسطين عربية فقط، والنتائج التي توصل إليها مع الحكومتين حول المطالب العربية والتي لم تكن واضحة كلياً، وأن يكون ثمن ذلك حياد الدول العربية في الحرب العالمية الناشبة آنذاك، كما يكشف انه كان مبعوثاً للحاج ولرشيد عالي الكيلاني ايضاً...
يذكر ان عثمان كمال حداد فرّ من العراق عقب سقوط حركة رشيد عالي الكيلاني متجهاً الى ايران، وهناك استطاع الانكليز القبض عليه فأرسل الى السجن في روديسيا زمبابوي حالياً، وقد اطلق سراحه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فعاد الى مسقط رأسه طرابلس، ونشط في الهيئة العربية العليا التي يترأسها الحاج أمين الحسيني، وفي الستينات عمل ما بين السعودية ولبنان، وتوفي في بيروت عقب وصوله بالطائرة من السعودية.
جئت في آذار مارس سنة 1936 الى فلسطين زائراً، وتعرفت الى سماحة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى. وبعد مدة قليلة طلب إلي أن أكون سكرتيراً خاصاً لسماحته وذلك قبيل إضراب 19 نيسان ابريل سنة 1936 الذي دام ستة أشهر. ثم خرجت مع سماحته في 13 تشرين الأول اكتوبر سنة 1937. وقد سافر سماحته بحراً الى لبنان بزورق صغير وخرجت براً عن طريق الناقورة. ثم التقينا من جديد في قرية الذوق قرب جونيه في لبنان. وقد بقيت مع سماحته حتى نشوب الحرب العالمية الثانية في أيلول سبتمبر سنة 1939.
وفي تشرين الأول سنة 1939 أرسل الجنرال ويغان المسيو كولومباني مدير الأمن العام الفرنسي في سورية ولبنان يطلب من سماحته التوقيع على منشور يذيعه على الصحافة العربية بتأييد الدول الديموقراطية في كفاحها ضد النازية الغاشمة، فوعد سماحته المسيو كولومباني بتقديم رسالة خاصة. وجمع اخوانه للتشاور في هذا الشأن، وكانت الفكرة الغالبة انه لا يجوز تأييد الدولتين الديموقراطيتين بالنسبة الى البلاد العربية، وعلى الأخص بريطانيا العظمى بالنسبة الى فلسطين، فقد حاربت أهلها العرب طوال ثلاثة أعوام 1936 - 1939، فنسفت قراهم، واعتقلت زعماءهم، وأعدمت الكثيرين من المجاهدين، ونكلت بآخرين وأودعتهم السجون. فمن العار على العرب ان يؤيدوا زوراً وبهتاناً من دون قيد ولا شرط، دولة كانت ولا تزال سبب بلاياهم. وأخذ سماحته يماطل الحكومة الفرنسية الى أن اضطر أخيراً الى تقديم رسالة الى الجنرال ويغان يشكره فيها على حسن معاملة السلطات له وما لقيه منها من حسن الضيافة والوفادة. وبالطبع فإن الفرنسيين لم يرق لهم ذلك وعدّوه غير كاف وأخذوا يضيقون على سماحته بتحريض من البريطانيين. واستقر رأي سماحته على ترك قرية الذوق بأقرب فرصة ممكنة والسفر الى العراق. وفي إحدى الليالي 13 تشرين الأول سنة 1939 بعد أن درس طريق السفر من جميع وجوهه، ترك الذوق، وما هي إلا عشية وضحاها حتى وصل الى بغداد وكان فيها موضع التجلية والاحترام.
وبعد شهر تقريباً تمكنت من الإفلات من رقابة الأمن العام الفرنسي بجواز سفر عراقي باسم خالد الصابونجي من الموصل، والتحقت متنكراً بسماحته بعد أن كدت أقع بيد موظف الأمن العام في أبو الشامات، ولكنني استطعت الخلاص ووصلت الى بغداد وكان ذلك في السابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر سنة 1939.
ملاحظة: هناك بعض الحقائق ضربنا صفحاً عن نشرها مراعاة للمصلحة العامة.
في بغداد
جمع سماحته أصدقاءه والعاملين معه، وأخذ يدرس الحال في بغداد، فاستقر رأيه على وجوب عدم التدخل في سياسة العراق الداخلية، كما يقضي أدب الضيافة والكياسة تجاه اخوانه في بغداد. لا سيما وقد أصبح موضع احترام جميع رجال الأحزاب ومودتهم. وكان سماحته يستطلع آراء الجميع ويدونها عله يصل بعد الاستقصاء الى رأي سديد يقف عنده ويدعو اليه. وقد توصل سماحته بعد الدراسة العميقة الى النتائج الآتية:
1 - هناك طبقة من ساسة العراق تجري في سياستها مع بريطانيا العظمى في الباع والذراع من دون قيد ولا شرط، فإن تعارضت مصلحة العراق والبلاد العربية مع مصلحة بريطانيا، فإنهم يضغطون على المصلحة الأولى لتطابق الثانية بأي شكل ومن دون أدنى تردد أو مساومة. وفي طليعة هذه الطبقة السادة نوري السعيد وصالح جبر وشاكر الوادي. ثم تأتي بعدهم طبقة أكثر تحفظاً ولكنها تمالي بريطانيا بالاندفاع نفسه اعتقاداً منها أن مصلحة العراق تقضي بذلك، وتتألف من السيدين توفيق السويدي وجميل المدفعي.
2 - وهناك أيضاً طبقة من السادة الوطنيين لا ينظرون إلا الى مصلحة العراق ومصلحة البلاد العربية. وهي تتألف من أخلص رجال البلاد العربية وتريد أن تحرر العراق والبلاد العربية من يد الاستعمار وأن تغتنم كل فرصة ممكنة للوصول الى هذا الهدف. وفي طليعة هذه الطبقة السيد رشيد عالي الكيلاني، وناجي باشا السويدي والسيد ناجي شوكت ويونس السبعاوي ومحمود الشيخ علي وموسى الشاه بندر.
ومن مشكلات العراق آنذاك المعاهدة مع بريطانيا التي كبلته بقيود استعمارية سياسية وعسكرية واقتصادية، فضلاً عن احتلال فرنسا لسورية ولبنان ورزوح أكثر البلاد العربية تحت نير الحلفاء البغيض.
وكان رشيد بك الكيلاني وناجي بك شوكت من الرجال الذين يجزمون بلزوم الاستفادة من الحرب العالمية الثانية كفرصة وحيدة مع حرج حال الحلفاء تجاه المحور، لتخليص أكثر ما يمكن من حقوق الأمة العربية. وكانوا لا يشكون مطلقاً بأنه اذا انتهت الحرب فستضاعف العقبات كثيراً في سبيل استعادة الحقوق المهضومة على رغم ادعاء الحلفاء أنهم يحاربون في سبيل الديموقراطية ضد النازية الغاشمة. فإن هذه الديموقراطية لا تتعدى حدود دول الحلفاء أنفسهم، إذ ان الدول العربية في نظر هذه الدول خارج نطاق البحث. في الثالث من أيلول سبتمبر سنة 1939، أعلن الحلفاء الحرب على ألمانيا بعد إنذارهم لها بالانسحاب من بولونيا، فعمد نوري باشا الى قطع العلاقات الديبلوماسية مع ألمانيا في الحال ومن دون إعطاء مهلة لساسة العراق للتشاور في الأمر والتفكير في عواقبه، وعلاوة على ذلك فإنه سلّم لحكومة الهند جميع الرعايا الألمان الموجودين في العراق مع انه كان من الممكن أن يلجأ الى طريقة أفضل من هذه فيدعوهم لمغادرة البلاد كما تفعل الأمم المستقلة في مثل هذه الظروف، ولا لوم عليه في ذلك ولا تثريب. ولكنه زيادة في إظهار الإخلاص لسياسته، أبى إلا أن يقدم للحكومة البريطانية أقصى ما يمكن من البراهين على إخلاصه والتمسك بإرضائها إرضاءً تاماً مطلقاً، فسلّم الرعايا الألمان الموجودين في العراق الى جلاديهم مع انه كان بإمكانه أن يتركهم يعودون الى ديارهم أو أن يعتقلوا في العراق نفسه. ولقد تسرع نوري باشا بقطع العلاقات الديبلوماسية مع ألمانيا ليقطع الطريق على كل معارض في هذا السبيل وليضع البلاد أمام الأمر الواقع، لئلا تحصل مشادة أو أخذ ورد في هذه القضية. وقد حزّ هذا العمل في نفوس الوطنيين من العرب في سائر البلاد العربية، ذلك أنهم كانوا ينتظرون من العراق ألا يسرع لتقبيل اليد التي ما فتئت تنهال بالضرب على رؤوسهم وتسومهم في العراق وفلسطين ومصر وسائر أنحاء الجزيرة أنواع الظلم وألوان الاستعمار.
ها نحن الآن في منتصف عام 1940 وقد احتلت ألمانيا بولونيا وهولندا وبلجيكا والنروج وانتصرت على فرنسا ووصلت قوات المحور الى الحدود المصرية ولم يبد على سياسة العراق أدنى تغيير. نعم ان الحرب في أولها ولكن الأمة العربية لا تزال نائمة نوم أهل الكهف، كأن كل ما يحصل في العالم لا يعنيها. ومن الغريب أن نوري باشا السعيد نفسه أخذ يتردد في سياسته، فقد سافر في هذه الأثناء الى مصر لدرس الحال على حدود ليبيا، فرجع وأسرّ للكثيرين ان الحال هناك خطرة جداً وان المارشال غراسباني يحشد جيشاً لا يقل عن 250 ألفاً، بينما ليس لدى خصمه الجنرال ويفيل أكثر من ثلاثين ألفاً. ولقد تجاوز الباشا هذا الحد، فكان يقول لإخوانه: "أوليس بين العرب أناس يذهبون الى المحور ويفاوضونه؟". وبالفعل فقد فاوض الباشا أحد الفلسطينيين المعروفين م. ع. للسفر الى أوروبا والاتصال بساسة المحور ووقع على الرجل الاختيار، ولكن ظروفاً شخصية طارئة أخّرته عن السفر... وكان الوطنيون يعرفون ذلك ولكنهم كانوا لا يثقون بنيات نوري باشا ويخشون انه لا يريد بذلك إلا اكتشاف أمر الذين اتصلوا مع المحور فظلوا بعيدين من الدخول معه في خطة ما بهذا الصدد. ثم سافر توفيق باشا السويدي الى مصر ليجتمع مع المستر إيدن وزير الخارجية البريطانية وقد اجتمع به وباحثه بلزوم إعادة النظر في حقوق البلاد العربية وتحسين الوضع فيها، وكان جواب المستر إيدن سلبياً للغاية...
لقد ذكرت ان سماحة الحاج أمين الحسيني كان مصرّاً عند مجيئه الى العراق على عدم التدخل في سياسة العراق الداخلية وقد أصر على وضعه هذا. غير أن اخوانه من العراقيين ما لبثوا أن دعوه الى مشاركتهم في الأبحاث السياسية في الحقلين الداخلي والخارجي ورجوه أن يحل ما بينهم من الاختلافات التي نشبت بين حزبي نوري باشا السعيد والسيد توفيق السويدي، فتمكن سماحته من حل هذه الخلافات التي أدت في وقت من الأوقات الى توقيف بعض رجال حزب السويدي بإشارة من نوري باشا السعيد...
لقد جاء سماحته العراق وهو يرى ان الحرب وضعت حداً للأعمال الثورية في فلسطين بعد قتال دام ثلاث سنوات وثورة دامية كان يديرها بمهارة من معتقله بقرية الذوق في لبنان، استعملت في أثنائها السلطة البريطانية أنواع الشدة والعنف ضد المجاهدين العرب، فنسفت القرى وحكمت بالإعدام والسجن المؤبد على مئات من المجاهدين، وعمدت الى تعذيب الكثيرين منهم، وكان من المنتظر وقد ركن العرب الفلسطينيون الى الهدوء والسكينة، أن يكون هنالك هدنة من طرف الانكليز أنفسهم فيوقفون أعمال الانتقام من جانبهم ضد العرب ويتقدمون بشروط ملائمة لحل القضية الفلسطينية على ضوء الحوادث الدولية الجديدة.
ولكن البريطانيين استمروا على سياستهم في الضرب على أيدي المجاهدين وتابعوا أحكام السجن والإعدام بلا شفقة ولا هوادة، فلم ير سماحته بداً من مراجعة الحكومات العربية عموماً وحكومة العراق خصوصاً.
وفي إحدى ليالي كانون الثاني يناير سنة 1940 جاءني خادم سماحته حول منتصف الليل وكنت نائماً، فطلب مني أن أقابل سماحته، فوجدته يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً وعلامات الاضطراب بادية عليه وبيده برقية من يافا من دار أبو لبن، يرجون فيها من سماحته بذل مجهود جبار لتغيير حكم الإعدام على السيد خليل أبو لبن ولو بالسجن المؤبد. وكان سماحته في النهار قد بذل مجهوداً كبيراً بهذا الخصوص من دون جدوى. ومع ذلك فقد قرّ القرار على القيام بمجهود آخر لدى نوري باشا السعيد والسيد رستم حيدر، في اليوم الثاني، وهكذا كان. واتفق سماحته مع نوري باشا على الاجتماع عند أحد الأصدقاء بمناسبة وليمة يقيمها، وانتظر سماحته نوري باشا حتى اذا حضر تحدث اليه ملياً وطالبه بالاحتجاج على هذه الحال في فلسطين فسكت الباشا ثم قال: "سيحضر الآن رستم حيدر فإذا جاء نستطلع رأيه في الأمر". ولما حضر السيد رستم بادره نوري باشا بقوله: "إن سماحة المفتي يطلب مني الاحتجاج لدى الحكومة البريطانية على الأحكام الصادرة في فلسطين مجدداً ضد المجاهدين العرب، فماذا ترى يا رستم؟". فابتسم رستم وقال: "إذا فعلت يا باشا فستكون في نظر الانكليز الحاج أمين الثاني". فبهت سماحته وامتقع لونه، وسكت نوري باشا ولم ينبس ببنت شفة وتنفس الصعداء ولسان حاله يقول: "أيفتى ورستم في بغداد؟".
وحاول سماحته أن يحمل بعض الحاضرين على تغيير موقف الرجلين، ولكن من دون جدوى أيضاً. وكان الجميع يعتقدون ان لا نوري باشا ولا السيد رستم حيدر يقدمان على اتخاذ مثل هذا الموقف تجاه الانكليز. احتجاج؟ أعوذ بالله. فإن هذا ربما يزعج السفير البريطاني، فالأحسن عدم إثارة هذا الموضوع.
منذ تلك الليلة حصل انقلاب قوي في نفس سماحته وتيقن ان الأمة العربية مهددة بالهلاك اذا انفرد أمثال هذين الرجلين، نوري ورستم في إدارة سياستها. وأخذت أواصر المودة تتوثق بينه وبين السيد رشيد عالي الكيلاني. ومن الجدير ذكره انه نفذ الحكم بالإعدام على السيد خليل أبو لبن وعلى كثير من المجاهدين الميامين رحمهم الله أجمعين.
والغريب ان سماحته كان يرى مع رشيد بك وجماعته ضرورة الاتصال بالمحور، ووقع اختياره هو أيضاً على الشخص نفسه الذي أراد نوري باشا إرساله لمفاوضة المحور. ولكن الشخص المذكور أخذ يماطل أشهراً عدة، فصرف النظر عنه. وكان سماحته يطلب مني السفر باسم رشيد بك ولكنني حاولت التربص لئلا يكون هناك تزاحم بيني وبين الشخص المذكور، وعندما لم يبق أدنى أمل في سفره، وألح على سماحته بالسفر ولم أجد سبيلاً للاعتذار، صدعت بأمره الكريم.
الاستعداد للسفر...
أخذت استعد للسفر في أوائل شهر تموز يوليو 1940. وكان من الضروري أن أكتم سفري بقدر الإمكان، عن دوائر الاستخبارات البريطانية وعن السلطات الفرنسية في سورية. فطلبت من رشيد بك جوازاً عراقياً باسم مستعار. فمُنحت هذا الجواز باسم توفيق علي آل شاكر...
وقد أرسل رشيد بك الى أخيه سفير العراق في أنقرة السيد كامل بك الكيلاني برقية شيفرة يوصيه فيها بلزوم الاهتمام بأمر وتسهيل مهمتي، ووعدني بأن ينتدب ناجي بك شوكت للسفر الى أنقرة ليكون على اتصال بي وأنا في برلين.
سافرت في آخر تموز الى انقرة من طريق حلب، وزرت كامل بك الكيلاني وأخبرته بمهمتي وتذاكرت معه في جميع الشؤون، فكان رأي كامل بك التريث وعدم التهور، فوافقته على ذلك وطلبت منه تسهيل اجتماعي مع سفير ألمانيا في تركيا "فون بابن".
ثم سافرت الى اسطمبول وانتظرت فيها رجوع "فون بابن" من ألمانيا. فلما رجع في منتصف شهر آب أغسطس، تمكنت من مقابلته وأبرزت له كتاباً من سماحة المفتي الأكبر يؤكد له فيه ما جاء في كتابه الأول الذي أرسل مع السيد ناجي شوكت من قبل. وخلاصة هذا الكتاب أن سماحته بالاتفاق مع بعض رجال السياسة في البلاد العربية، أوفدني الى برلين وروما للمباشرة بمفاوضة المحور على أسس معينة.
ولم تمض مدة قصيرة حتى جاء جواب برلين بالموافقة على سفري. فسافرت الى برلين من طريق بودابست وهناك أخذت تذكرة مرور من المجر الى برلين تحت اسم "ماكس موللر".
وبعد استراحتي في برلين، ذهبت الى وزارة الخارجية في ويلهلم شتراسه، وقابلت الهر فريتس غروبا سفير ألمانيا السابق في بغداد، والهر ملشز مدير القسم الشرقي في وزارة الخارجية، وقد أعربا عن ارتياحهما لتحسن العلاقات ونسيان الماضي، فأكدت لهما ان العراق أخذ على غرة في انقطاع العلاقات وان ذلك لا يطابق حقيقة العواطف الطيبة التي يكنها العرب في العراق وسائر البلاد العراقية نحو المانيا. ثم زرت السكرتير الأول الهر فرايهرفون وايزيكر، فطلب مني قبل الالتقاء بوزير الخارجية، ابتداء المحادثات مع الهر "غروبا" فسألني هذا عن مطاليب اخواني، فبسطتها له. وأبدى الهر "غروبا" اهتماماً كبيراً ودعاني مرات عدة لزيارته في داره، وهو متزوج من سيدة ألمانية من القدس. فكانت تطلب مني أن أهتم برجوع زوجها الى بغداد مؤكدة لي أنه سيكون عوناً للعرب في قضاياهم السياسية. وأطلعني الهر "غروبا" على بعض رسائل وردت للخارجية من فون هانتيج، سفير ألمانيا سابقاً في الأفغان والموجود في ذلك الوقت في سورية ولبنان. والتقارير كانت ضدنا على وجه الإجمال وضد سماحة المفتي ورشيد بك وشكري بك القوتلي. وكان "فون هانتيج" من القائلين بعدم الفائدة من الاتفاق مع العرب، وانهم لا يمكنهم ان يعملوا شيئاً ولو أرادوا ذلك. وفهمت انه بفضل سياسة الاتصال بمختلف الأحزاب في البلاد العربية واعطاء الوعود لهم جميعاً حتى يعتقد كل حزب بأنه هو المعني به. وكان الهر غروبا يكره الفون هانتيج كرهاً شديداً، فرأيت من المناسب أن أكتب الى كامل بك الكيلاني في أنقرة لأبسط له موقف فون هانتيج، فكتبت اليه رسالة ورجوته الاتصال بفون بابن ليضع حداً لهذه الحال وكتبت رسالة أخرى الى المرحوم الأمير شكيب أرسلان جعلت مصدرها من بغداد. فجاءني الرد بأنه سأل الألمان، فأجابوا بأن هذه إشاعات لا أصل لها. غير انني لم أتمكن من اخباره عن مصدر معلوماتي خوفاً على الهر "غروبا". وقد دبّجت مع الهر "غروبا" مطاليبنا وعدّلت بعضها على ضوء ارشاداته. وهذا هو التصريح الرسمي الذي طلبته من المحور بخصوص السياسة التي يجب أن تتبع إزاء البلاد العربية:
ان المانيا وإيطاليا تعلنان رسمياً سياستهما النهائية بخصوص البلاد العربية وتتعهدان احترام هذه السياسة وتأييدها وفقاً لما يأتي:
1 - ان المانيا وإيطاليا تعترفان بالاستقلال التام للبلاد العربية المستقلة الآن، وبالاستقلال التام للبلاد العربية التي هي تحت الانتداب الفرنسي سورية ولبنان وبالاستقلال التام للبلاد العربية التي هي تحت الانتداب الانكليزي فلسطين وشرق الأردن أو التي هي مستعمرات أو محميات بريطانية كالكويت، وعمان، ومسقط، وحضرموت. أما عدن وهي الجزء الجنوبي من اليمن فإنها ستعود الى أحضان المملكة اليمنية المستقلة. وبالاختصار، فإن ألمانيا وإيطاليا تعترفان بالاستقلال التام لجميع البلاد العربية المعروفة أنها عربية بأكثرية سكانها.
2 - ان ألمانيا وإيطاليا تعلنان بصورة قاطعة لا مواربة فيها أن ليست لهما أية مطامع استعمارية في مصر والسودان وتعترفان أيضاً باستقلال مصر والسودان التام وذلك وفقاً للمادة الأولى من هذا التصريح. ومن جهة أخرى فإن دولتي المحور تعلنان بأن التحفظات التي وضعتها انكلترا على هذين البلدين، تعتبر لاغية من أساسه.
3 - ان المانيا وإيطاليا تتعهدان عدم اللجوء الى أي أسلوب من الأساليب ضد استقلال البلاد العربية التام. كأسلوب الانتداب الذي اخترعته جمعية الأمم بصورة احتيالية بالاتفاق مع الديموقراطيات لإخفاء شهواتها الاستعمارية.
4 - ان المانيا وإيطاليا تعترفان للبلاد العربية بحق تأسيس وحدتها القومية بحسب رغائبها وبالطريقة التي تراها موافقة، ولن تعمدا الى وضع العراقيل في سبيل إنشاء هذه الوحدة.
5 - ان ألمانيا وإيطاليا وهما غير معترفتين بمشروعية الوطن القومي الصهيوني في فلسطين، تعترفان للبلاد العربية بحق إيجاد حل عادل لهذه القضية بحسب مصلحة العرب القومية.
6 - ان ألمانيا وإيطاليا لا تطلبان سوى ان تريا الأمة العربية متمتعة بالازدهار والإقبال، وأن تتبوأ مكانها التاريخي والطبيعي تحت الشمس، وهذا لمصلحة الانسانية جمعاء وفي سبيل تعاون اقتصادي على أساس تبادل المنافع، وأن ألمانيا وإيطاليا تطلبان من البلاد العربية أن تحترم الحال الراهنة "ستاتوكو" في فلسطين أو سواها في ما يتعلق بأملاك الكنائس والارساليات المسيحية، وحرية تمتع المسيحيين على اختلاف مذاهبهم بإقامة طقوسهم الدينية ورعاية المنشآت الخيرية المستشفيات ودور الأيتام ومأوى العميان وحرية الاعتقاد في المسائل الدينية.
مطالب المحور من العراق والبلاد العربية
1 - لقد طلب الألمان إعادة العلاقات الديبلوماسية بين العراق وألمانيا مع تعويض الرعايا الألمان بصورة عادلة. ثم قالوا ان مسألة التعويض في الحقيقة هي معنوية فقط وانها ليست بحدّ ذاتها مسألة بالغة الأهمية.
2 - أن يكون للمحور موقع ممتاز في العراق في المسائل الاقتصادية على شرط احترام مصلحة العراق. والغرض من هذا الموقع الممتاز هو استثمار الموارد الطبيعية كالنفط مثلاً، لأن المانيا وإيطاليا تريدان تحويل الامتياز الموجود الآن باسم I.P.C. شركة النفط العراقي، لحسابهما في شروط الصلح المقبلة.
3 - يحتفظ العراق بحياده التام في الحرب الحاضرة ويتخذ الأهبة والتدابير اللازمة للمحافظة على هذا الحياد وحضّ البلاد العربية الأخرى على اتخاذ مثل هذا الموقف.
4 - لما كان إرجاع العلاقات الديبلوماسية من شأنه أن يغيظ بريطانيا، فمن الضروري أن يتخذ الجيش العراقي التدابير اللازمة للمحافظة على آبار النفط والأنابيب والمطارات لصدّ أي اعتداء ممكن قد يقوم به الانكليز.
5 - إشعال ثورة في فلسطين.
6 - أن يكون للمحور امتياز في المستقبل للغتين الألمانية والإيطالية في العراق على غيرهما من اللغات الأجنبية...
وفي تاريخ 26 أيلول دعتني الخارجية الألمانية وأفهمتني أن روما وجدت الكتاب الذي بموجبه فوضت سفيرها في بغداد السنيور غبرياللي بإعطاء كتاب الاعتراف باستقلال البلاد العربية وان وزارة الخارجية الإيطالية في روما كانت قد فوضت السفير الإيطالي في بغداد بإعطاء هذا التصريح، ولكن السفير لم يعرّفها بأنه فعل ذلك. وعلى كل حال فالمشكلة انتهت والكتاب وجد... وأخذت الأخبار تأتي من روما وبها اعتراضات على مطالبنا، ومن هذه الأخبار ما يأتي:
1 - إن إيطاليا تخشى روسيا ودعاياتها في المستقبل ضدها في البلاد العربية.
2 - إن إيطاليا تريد عقد اتفاق عسكري مع العراق،م فإذا تم ذلك تعمل على رفع مستوى الجيش العراقي.
3 - ان الموارنة يطلبون حماية دولة مسيحية، وانه حضر من لبنان شخصيتان مسيحيتان الى أنقرة وقابلا فون بابن بهذا الخصوص، وان قداسة البابا مهتم بمستقبل فلسطين وان مسألة فلسطين تهمه أكثر من الحبشة لأنها مهد الديانة المسيحية، ولأن البحر المتوسط يجب أن يكون مركزاً مهماً للدعاية الكاثوليكية. وقد أظهر الألمان امتعاضاً من هذه السياسة ومن تدخل قداسته في الأمور السياسية. ولكنهم اعترفوا بأن إيطاليا الامبراطورية مؤيدة لرأي الفاتيكان في هذا الصدد، وهو نشر الدعاية الدينية.
4 - أما سورية فمن الصعب حمل الفرنسيين الآن على تركها، وانه لو أراد المحور ذلك لما استطاع بسبب ما يغلب على الفرنسيين في المستعمرات والامبراطورية الفرنسية من تردد. فهم في حال لا يعرفون معها ماذا سيكون مصيرهم النهائي بحسب معاهدة الصلح. فهل سيضطرون الى إلحاق مستعمراتهم بالجنرال ديغول، أم انهم بتضحيتهم بشيء من المستعمرات يمكنهم أن ينقذوا قسماً كبيراً من فرنسا نفسها.
وصلت الى تركيا وتوجهت الى أنقرة، وعلمت هناك أن فون بابن لم يعط ناجي بك شوكت التصريح الرسمي المكتوب الذي صدر عن وزير الخارجية الألمانية، على رغم وعد برلين لي بتحقيق هذه الرغبة ورأيت أن أرسل من أنقرة رسالة الى وزارة الخارجية الألمانية طالباً إنجاز ما سبق لها أن وعدتني به.
لما وصلت الى اسطمبول ذهبت الى القنصلية الفرنسية وطلبت التأشير على جواز سفري العراقي "للمرور فقط" من طريق حلب الى الموصل، ولكن القنصلية طلبت ان أعطيها الجواز لترسله الى بيروت فيؤشر عليه الأمن العام الفرنسي ويرجعه، وهذه العملية تستغرق خمسة عشر يوماً. وعليه تابعت سفري الى أنقرة وفيها نزلت في فندق Belle vue وقدّمت جواز السفر الى صاحب الفندق بحسب العادة لإجراء معاملة دخولي البلاد، في دائرة الأمن العام التركي. وفي اليوم الثاني فاجأني المدير بأن الجواز ضاع وانه لم يجده، وعبثاً حاولت التفتيش عنه. فذهبت الى السفارة العراقية وأخبرتها بالأمر، وعلى رغم تهديدات كامل بك الكيلاني لمدير الفندق لم يتراجع عن الادعاء بأن الجواز ضاع منه. والمفهوم ان سلطة ما، والأرجح انها دائرة الاستخبارات البريطانية، هي التي تمكنت من أخذ الجواز. فقر القرار على أخذ جواز سفر جديد من السفارة العراقية نفسها، ولما تعذر أخذ التأشيرة من الفرنسيين من دون إرسال الجواز الى بيروت ذهبت الى وزارة الخارجية التركية برفقة كامل بك الكيلاني وتمكنت من الحصول على مأذونية المرور عبر الولايات الشرقية من طريق ديار بكر - ماردين - جزيرة ابن عمرو الى الموصل. فسافرت الى ديار بكر بالقطار ومنها بسيارة كبيرة الى ماردين، وفي ماردين فهمت انه لا يوجد طريق سيارات الى جزيرة ابن عمرو وانه يجب أن آخذ دليلاً معي وأسافر على ظهر الخيل مدة سبعة أيام. فتوكلت على الله وذهبت الى دائرة البوليس لأخذ وثيقة طريق، فأبدى مدير البوليس لطفاً زائداً، غير أنه أفهمني أنه بقدر ما يحب العراق والعراقيين يكره سورية والسوريين، وظن انه بذلك يتحبب إلي، واقتصرت على القول إن السوريين لا يكرهون الأتراك ولكن هذه الحال نشأت عن سياسة الاتحاديين الذين قاتلهم الغازي مصطفى كمال نفسه.
وهكذا سافرت بين القرى الكردية في تلك المنطقة فكنت أقضي النهار راكباً على بغل ومعي الدليل وفي الليل أحل ضيفاً على مختار القرية التي أنزل فيها. وقد انتحلت لنفسي مهنة الطب، وكنت في أكثر الأحيان أجد في كل دار فراشاً يستلقي عليه مريض بالملاريا، فأعطيه كمية من الكينا والاتبرين فيتنشط في الصباح، فيهتم القوم بأمري ويبالغون في اعتنائهم بي. وكان الدليل الكردي يحسن العربية والتركية، فكان كلما دخل بيتاً ابتدأ ينوه بمهارتي وبراعتي في معالجة المرضى، وكثرة الذين نالوا الشفاء على يدي.
وهكذا وصلت الى جزيرة ابن عمرو ومنها ركبت زورقاً مصنوعاً من الحطب مربوطاً الى جلود منفوخة، اسمه كلك. واستغرقت رحلتنا هذه إحدى وعشرين ساعة وصلنا في نهايتها الى الحدود العراقية ومنها اتجهنا الى بغداد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.