لخص نائب رئيس الجمهورية السوري، عبدالحليم خدام، "هموم سورية"، بقوله ان "سورية بلد له طموحات وطنية، وله أراض محتلة. وهناك القضية الفلسطينية وقضية العراق" الصحف في 21 ايلول/ سبتمبر. وربط خدام "الهموم" السورية و"الطموحات الوطنية" التي تبدو متصلة بالأولى أو هي الأولى عينها، بالسياسة الأميركية. فأخذ على هذه، او على "بعض" اصحابها تركهم تقدير "هموم الآخرين ومصالحهم"، وهؤلاء الآخرون هم السوريون و"العرب" من ورائهم، وقصرهم التقدير على "مصالح محددة معينة" هي المصالح الإسرائيلية. وعاد السياسي السوري مرتين الى العراق و"سيادته واستقلاله" و"تقرير الشعب العراقي مصيره"، في المؤتمر الصحافي السريع والمقتضب الذي عقده في 20 ايلول. والعراق الذي يحظى بالهمّ والاهتمام والطموح و"القضية" وجعل العراق قضية نظير "القضية الفلسطينية" لا ريب ينقل الى العراق "هالة" فلسطين المفترضة، ويتهددها بمصيرها أو يصور مصيره على مثال مصيرها هو عراق من غير سيادة ولا استقلال ولا تقرير مصير. وهو عراق منتهك الشرعية الدولية، ويتصدى "الأميركيون" ل"مشكلاته" من غير "التزام ميثاق الأممالمتحدة"، على ما يُخلص من كلام نائب الرئيس السوري. فقضية العراق، على هذا، تدخل في "الهموم" والطموحات" السورية من باب استعادة السيادة والاستقلال وتقرير المصير من منتهكيها وغاصبيها. ولا شك في ان سورية تؤيد استعادة "شعب العراق" كل ما خسره باحتلال "الأميركيين"، ولو على وجه "التقصير" في "تكريس" احتلال القوة الأميركية و"الاهتمام بأمنها وأمن جنودها" على قول وزير الخارجية السوري في مجلس الأمن الدولي، "الحياة" في 25 ايلول، إن لم يكن على وجوه اخرى. وكان خدام نفسه نوّه ب"كل ما تستطيع سورية ان تقدمه من اجل مساعدة الشعب العراقي" بناء على ما بين البلدين "الشقيقين" من "تاريخ طويل وأخوة وعلاقة قربى ... ومستقبل مشترك ومصالح كبيرة مشتركة ومتبادلة" في استقباله وفد وجهاء العشائر العراقية في 20/9 كذلك. ويُرجع السياسي السوري التاريخي "الأحداث المؤلمة" و"الأمور الكثيرة" التي يشكو العراق منها اليوم، الى غياب الدولة جراء الاحتلال، بديهة. فيقول: "عندما تغيب الدولة يغيب الأمن وتتحول البلاد الى غابة" من غير "قانون" ولا "مؤسسات". وهو "يألم" وهذا اشتقاق من "الأحداث المؤلمة" وليس إعراباً مباشراً أو ذاتياً عن الألم لما يصيب العراق وشعبه وقضيته، ويتوقع "أموراً" تنم "كثرتها" غير المقيدة، بهولها وفظاعتها. ولكنه لا ينكر - إنكاراً رفيقاً ونصوحاً - إلا الاغتيال وصادف استقبال وفد وجهاء العشائر اغتيال السيدة عقيلة الهاشمي. فيذكّر بأن الاغتيال "طبعاً" ليس "الطريق الصحيح" بإزاء "الظروف الصعبة التي يمر بها العراق". وأما ما خلا الاغتيال فينبغي ان يكون مباحاً، على قاعدة المسكوت عنه، أو ربما مستحباً. ولا يشغل الرجل نفسه بتفصيل الفروع. فالأصول وحدها شاغله. وعلى الأصول ينبغي ان يُحمل قول نائب الرئيس السوري. وفي مرآة الأصول هذه وضوئها تبدو سورية "بلداً" يأتلف من قطبين سياسيين: الأول خارجي خالص قوامه "قضايا" عربية متراكمة، والثاني داخلي خالص قوامه الأمن. ويدرج السياسي المجرب احتلال بعض الجولان السوري في القضايا العربية التي "تهم" سورية، شأن فلسطينوالعراق. ويطرح لبنان من "الهموم" هذه، ولو على سبيل دخوله تحت "الأراضي العربية المحتلة". وإدخاله تحت هذا الباب هو دأب المنظمات التي ترعاها السياسة السورية في لبنان، وجزء لا يتجزأ من الموقف السياسي السوري الرسمي في شأن الاستمرار على مرابطة قوات سورية لم تُخْلِ لا الجنوب، حيث لم تكن مرابطة، ولا البقاع حيث لم يعلن عن انسحاب، على خلاف زعم ريتشارد أرميتاج في "الحياة"، 22 ايلول. وهو جزء من الإقامة على وصاية سياسية وأمنية وعسكرية متشددة. والحق ان إدخال لبنان او إخراجه من إحصاء القضايا أو الهموم لا يقدم ولا يؤخر في تعريف المسؤول السوري السياسة، وتناوله إياها. فالاحتلالات، و"العلاقات" الخارجية التي تنجم عنها، أو العداوات التي تستتبعها وتترتب عليها، وحدها جديرة بتصدر السياسة "الكبيرة"، او الأصول السياسية التي تتصاغر بإزائها الفروع وتتضاءل. وإلى هذا الضرب من السياسة تصرف "القيادة" السورية همها وجهدها. ويفيد هذا الضرب في تعريف العدو اولاً. فترسو السياسة على معانيها كلها. فهي خارجية، اي يقع مجالها ومضمارها خارج سيادة الدولة الوطنية وولايتها وتكليفها. وهي قومية، فتتعدى دائرة الدولة والولاية والتكليف الى دوائر الجوار والقرابة، فلا تميز دائرة من دائرة، وتنسب الى دائرتها الوطنية الاضطلاع بمهمات ووظائف لا يقيدها تكليف مصدره دوائر الجوار أو "شعوبه" والأرجح ان السيد خدام يظن في العراقوفلسطين ما قاله رئيسه السابق في لبنان: "شعب واحد في دولتين"، وهو يريد في ثلاث او أربع أو خمس... "دول". وهي، ثالثاً، سالبة او عدائية، عداوة العدو مصدر مادتها وقطب استوائها. وهي، رابعاً، مراجِعة، اي ان غايتها إعادة النظر في الكيانات والحدود السياسية المرسومة والمستقرة، ومراجعتها على نحو يؤدي الى الملاءمة بين الكيان القومي المفترض والكيان السياسي. وهي، خامساً، ثورية لا تقر بما تبلور في الزمن "القطري" من معايير وعلاقات وروابط ومصالح، وتدعو الى جبِّه وإلغائه، وتقدم إلغاءه على القوانين الوضعية التي رعته وتعهدت بلورته. واضطلاع "البلد" ولا يقول الحزبي البعثي البارز الدولة بأعباء سياسة من هذا النوع، أو بهمومها وطموحاتها على ما يقول، يفترض دولة. وهذه الدولة يقتصر مضمونها الداخلي على الأمن. وليست القوانين والمؤسسات إلا الوجه اللائق والملطف للأمن. ويرغب رجل "الدولة" السوري في أن يترتب الأمن على "الأخوة وعلاقة القربى" داخل البلد الواحد، على نحو ما ترتب هاتان الأخوة وعلاقة القربى الرابطةَ القومية بين البلد والآخر. ويرغب في ان يكون الأمن ثمرة "الوحدة الوطنية" و"الاتفاق". فالسياسة الداخلية او الوجه الداخلي للسياسة والدولة كلها وفاق ووحدة وأخوة وقرابة وسكينة، على خلاف السياسة الخارجية. فهذه كلها مضادة وعداوة وانقسام ومقاومة. ولعل كون الوجه الواحد على ما هو عليه، اخوةً أو عداوة، هو شرط كون الوجه الآخر على ما هو عليه كذلك. فلا يقدر على انتهاج سياسة خارجية من الشاكلة التي يصفها السياسي السوري إلا من يساوي الدولة بالأمن في الداخل، ويحمل الدولة على الأمن. ومن يجعل الدولة صنو الأمن في الداخل - وليس صنو العدل او التنمية او استجابة حاجات المواطنين وحقوقهم، او الخروج من تعاملهم السالب مع دواعي العصر، او هذه كلها معاً - إنما ينهج هذا النهج في سبيل سياسة خارجية غير مقيدة بخلافات الداخل، سياسة خارجية تسعى في خوض حروب التوحيد القومي "البسماركية" وهي تقول بسماركية ولكنها تعطي طرف حلمها وشهوتها غير بسمارك. وعلى هاتين الدعامتين تنهض "سورية"، على قول نائب رئيس دولتها، حقيقة وفعلاً. وليس في الأمر جديد منذ استتباب "الدولة" لل"قيادة" التي تسوسها على النحو الذي تسوسها عليه. وتعول القيادة على هذه السياسة في سبيل دوام الاستتباب والاستقرار. وهو الدوام يفترض الدعامتين: السياسة والخلاف والمنازعة في الخارج والوحدة الأمن والصمت في الداخل. * كاتب لبناني.