على حين تسعى السياسة السورية فيما سعت فيه على الدوام، أي أقلمة دائرة الشرق الأوسط ودمجها في دائرة واحدة، وربط قضاياها الواحدة بالأخرى، تلفي هذه السياسة صعوبة في تدبير أو إدارة هذه الأقلمة حين تبلغ ذروتها أو نضجها، على ما هي حالها منذ بعض الوقت. فصانعو السياسة السورية، وهم هم لم يتغيروا في ثلث القرن الأخير، أنزلوا أنفسهم في مركز القلب من قضايا المشرق العربي منذ حرب حزيران يونيو 1967. وجددوا هذه المنزلة في حرب 1973 ومن طريقها. وأرادوا من هذا "إدارة" القوى التي تسهم بسهم كبير وفاعل في المنازعات المنفجرة بجوارهم القريب. وكان لهم ما أرادوا، أو جزء راجح منه، في العمل الفلسطيني المسلح. وإذا أخفقوا في الأردن، كان لهم فوق ما قدروا ربما في ابتداء الأمر، في "الساحة اللبنانية"، بعد نقل العمل الفلسطيني السياسي والمسلح الى لبنان. فتولوا خلافة "المقاومة الإسلامية" على الكفاح المسلح الفلسطيني، وعلى القوات "المشتركة"، الفلسطينية - اللبنانية. واستولدوا الخلافة هذه نتائجها السياسية الى آخرها، وهي "النظام اللبناني" القائم، بعالته ورئاساته وأزمته العائمة والدائمة ووقوفه على شفير الانفجار ونزيفه الإنساني والاجتماعي المستمر. وجددوا دورهم الاقليمي من طريق حلفهم مع إيران الخمينية، ثم اندراجهم في التحالف الدولي الذي أخرج جيش صدام حسين من الكويت، ورضوخهم لعودة مصر الى الجامعة العربية. وأسعفهم موقعهم في لبنان، وتصدر "حزب الله" مولاهم الحركات الإسلامية السياسية في الدائرة العربية، في الجمع بين الشرعية الوطنية المعلنة وبين مدد نضالي وأمني مختلط. وتتيح كثرة روافد المدد هذا الاضطلاع بوساطات كثيرة، والتستير على مبادلات وصفقات في الظل، والتلويح بمخاطر تُطلب أثمان لقاء تعليقها أو تطويقها أو إخمادها. واتفقت الفصول الأخيرة من الأزمة العراقية المتمادية مع تفاقم الأزمة الفلسطينية، وانفجار الارهاب والحرب عليه، ومع اشتداد المشكلة السورية الداخلية، بوجهيها الاقتصادي الثقيل والسياسي الأضعف وطأة. وضيق انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوبلبنان، وانتهاج الفلسطينيين حرباً على الاحتلال الاسرائيلي قوية الشبه ب"حروب" المنظمات الإرهابية الصريحة، وتعويل جوار العراق على التخلص من تهديد صدام حسين، ضيقت العوامل المستجدة هذه سبل المناورة على صانعي السياسة السورية. فالأقلمة التي كانوا يسعون فيها، وبلغت ربما ذروة محصلتها الإيجابية، في حسابهم وميزانهم، في ربيع 1996 إبان "عناقيد الغضب" الاسرائيلية في لبنان، أدت الى تدويل قضايا المشرق. وآذن التدويل بمفاعيل ثقيلة ومباشرة تترتب على السياسات الوطنية والمحلية وتصيب القوى الدولية، وأولها القوة الأميركية. فالتوسل بالأزمة الفلسطينية المنفجرة، أو بالذيول العراقية لسقوط نظام صدام حسين، الاضطلاع بدور اقليمي على مثال الدور الذي يطمع فيه ساسة سورية وحسبوا طويلاً أنه بمتناولهم، غدا التوسل أمراً لا يقتصر أثره على حلفاء السياسة الأميركية، أو على حواشي هذه السياسة، بل يتعدى الحلفاء والحواشي البعيدة الى بؤرة هذه السياسة وقلبها. ومن وجه آخر، أصبح التكتم على الاستعمال الموارب لوسائل "الحرب"، وتالياً التنصل من الاستعمال هذا، عسيرين على السياسة السورية. فالتنديد السوري ب"خريطة الطريق" الرباعية يسوغ، أو سوغ الى اليوم تأييداً سياسياً ومعنوياً غير متحفظ للمنظمات الفلسطينية المتورطة في اعتراض "خريطة الطريق"، والحؤول بينها وبين خطوها الخطوات الأولى. ويرقى التنديد هذا، وسبل العبارة عنه، الى مرتبة الوصاية على الفلسطينيين، وعلى السلطة الوطنية. وعندما يعتلي منبرَ القمة العربية، على ما حصل فعلاً في إدارة جلسات دورة القمة ببيروت وفي كلمة رئيس الجمهورية السورية، ينزع التنديد والوصاية المترتبة عليه الى الوصاية على السياسة العربية برمتها، والقيام منها مقام الإرشاد والتوجيه. وإذا أضيف الى ذلك دور النفوذ السوري والنفوذ الإيراني و"حزب الله" في تقديم المنظمات الفلسطينية أو تأخيرها، وفي إضعافها في المخيمات اللبنانية والسورية أو في تيسير أمورها، اجتمع من هذه العوامل ما يصح حمله على التدخل المباشر في الشؤون الفلسطينية، وفي العلاقات الفلسطينية العربية، والفلسطينية الدولية، الى علاقات الفلسطينيين بالقوة المحتلة. وضَعُف الزعم ان الدور "القومي" لا يتعدى المنبر الإعلامي والسياسي. وما يصح في فلسطين يصح على نحو أوضح في لبنان. فلبنان مسرح ما كانت تسميه الحركات الاستقلالية السوفياتية، الدعاوة المسلحة. وعندما تقول وسائل التحريض والدعاوة آلات "الإعلام" المحلية أن سورية "ترد في الوقت والمكان المناسبين"، فمعنى القول ان الأجهزة تعد العدة لحادثة على الحدود اللبنانية والإسرائيلية تنأى المنظمات المعروفة بنفسها عنها. ويتولى المراسلون الصحافيون والإخباريون نسبتها الى أصحابها، والإشادة بمهارة الرد "الملغز"، على قول صحيفة "ليبرالية" في مقتل طفل لبناني في انفجار صاروخ "كاتيوشا" ببلدة حدودية لبنانية غداة غارة سلاح الجو الإسرائيلي على عين الصاحب ومثله مقتل الجندي الاسرائيلي قبلها بقليل، وقبلها بنحو الشهر في القصف على مستوطنة اسرائيلية قريبة من حدود لبنان رداً على انتهاك الطائرات الحربية الاسرائيلية اليومي الأجواء اللبنانية وعلى اغتيال ناشط في "حزب الله" كان يعمل سائقاً في السفارة الإيرانية ببيروت. وعندما يذهب وزير الخارجية السوري الى أن الخلاف مع السياسة الأميركية، بعد إسقاط التحالف نظام صدام حسين واحتلال العراق، يدور على إحجام السياسة السورية عن "حماية الاحتلال الأميركي"، ورفضها التمكين له، شأنها مع الاحتلال الاسرائيلي، فهو أي وزير الخارجية يطلب للبلد الذي يتولى ديبلوماسيته وعلاقاته مع الدول الأخرى الحصانة التي يطالب بها ل"مقاومة المحتل" في أرجاء العالم. وتصوغ السياسة الخارجية والداخلية السورية هذه الحجة على شاكلة واحدة، كان لبنان مختبرها منذ أواخر الستينات، تذهب الى أن الدولة المتهمة ليست "حرس حدود" يأتمر بأوامر الدولة المعتدية، وعدوانها هو "تصدير مشاكلها ومآزقها الداخلية" حرباً على الدول والشعوب المسالمة وهذا هو الشطر الثاني من الحجة الثابتة والواحدة. فينبغي، على هذا، ألا ترتب العمليات العسكرية المواربة رداً على الدولة أو الدول التي تتخذ منها العمليات مأوى أو ممراً، ولو ظهر جلياً أن العمليات هذه إنما تأتمر بأوامر دولة أخرى، وتصدر عن إرادتها وأجهزتها. وتغفل الحجة المحكمة المنطق عن أن الدولة الحصينة، أو التي يحصنها القانون الدولي من العدوان على أراضيها ومن "حق الملاحقة" ملاحقة صاحب العمل المسلح على أراضيها، على ما أقر المفاوض السوري في شيبيرد ستاون ووثائق المفاوضة المنشورة، إنما هي الدولة السيدة على أراضيها ومواطنيها. فإذا تعذر على الدولة قيامها بتبعات السيادة عدت قاصرة. ووسع الدولة أو الدول المتضررة تولي الدفاع عن نفسها بنفسها. وتذرعت السياسات اليابانية العسكرية والألمانية النازية، في ثلاثينات القرن المنصرم، بالقانون الدولي هذا الى اثارة الاضطرابات في الدول التي أرادت زعزعتها واحتلالها، ثم تذرعت بخسارة الدول سيادتها الى احتلالها. والإقرار السوري بهذا القانون هو السبب في سكون الجبهة السورية - الإسرائيلية. وهو السبب في اضطراب خط الهدنة اللبناني - الاسرائيلي، ودوام اضطرابه على رغم "الخط الأزرق" وامتناع السياسة السورية من تسوية صفة مزارع شبعا مع الدولة اللبنانية وحسم الصفة هذه. وينجم مأزق الأقلمة الراهن عن نجاح الأقلمة في طورها السابق، عشية 11 أيلول سبتمبر وشن الحرب على الإرهاب وانعطاف الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بعد نحو عام على اندلاعها، نحو العمليات الانتحارية والاقتصار عليها وهذا ما صفق له "حزب الله" وساسة سورية. فنموذج "اتفاق نيسان ابريل" الذي يصبو صانعو السياسة السورية اليه، والى النسج على منواله، تعهد ضبط حرب اسرائيل و"حزب الله" ونابت عنه الدولة اللبنانية في إطار تولت الولاياتالمتحدة رعايته. وأقرت السياسة السورية يومها، بدور أميركي مزدوج: على الجهة الإسرائيلية تقليل الخسائر المدنية في سبيل تقييد الرد العسكري الاسرائيلي، وعلى الجهة اللبنانية تقييد "حزب الله" في سبيل حماية الدولة اللبنانية من التصدع تحت وطأة الرد الإسرائيلي. فإذا أُنكر على التحالف الاضطلاع بمثل هذا الدور، وتنزع السياسة السورية شأن الايرانية الى هذا الانكار، لم يبق من يتولاه. فالوساطة بين "نظام" صدام حسين، وفلول مقاتليه، وبين قوات الاحتلال، غير واردة، وهي ممتنعة ولا يتصور حصولها. والتصدي السوري أو الإيراني لتمثيل من يقومون بالأعمال العسكرية أو أعمال الاغتيال، على ما يسميها مسعود البارزاني، يثبت تهمة مساندة الإرهاب على النظامين والحكمين، ليس في نظر التحالف والأمم المتحدة وبعض أوروبا وحسب بل في نظر جمهور الدول والناس. فالوساطة أو الرعاية على جهتي الجبهة، على المثال اللبناني، مستحيلة. ولا تسوغها تسمية أعمال الاغتيال "مقاومة". وهذا ما لا يذهب ساسة إيران اليه، الى اليوم. فإشراك الدول المجاورة للعراق في حل مشكلاته، على ما لا تنفك سورية وإيران تطلبان بصوت واحد، يفترض إطاراً اقليمياً متجانساً بعض التجانس في رعاية قوة أو قوى ودول بارزة ومتصدرة. ومشاركة تركيا في هذا الاطار كان شرطها إقرار تركيا بمراعاة تجانس الإطار هذا، وقبولها تقييد مصالحها وأولاها الحؤول بين أكراد العراق وبين الانفصال به - وليس السعي الى الاستيلاء على حصة سياسية أو مادية تفترض أن تركيا دولة منفردة الأمر، وتتولى قيادة اقليمية أو قومية لم يعهد أحد بها اليها، ولا يخولها إياها لا طاقاتها ولا تماسك سياساتها في الماضي القريب أو البعيد. ولا يقتصر هذا على رأي الولاياتالمتحدة في سياسة ساسة سورية وسياسة ساسة إيران. فمشروع قرار السفير السوري في مجلس الأمن بإدانة قصف عين الصالح، قبل الكشف عن البيانات الاستخباراتية الأميركية عن أوجه استعمال الموقع الصحف في 11 تشرين الأول / اكتوبر، اشترط معظم الأعضاء غير الدائمين تضمينَه إدانة لعملية حيفا الانتحارية. وإقامة التكافؤ بين الواقعتين، أو الترابط بينهما، هي ثمرة الأقلمة الراهنة، وانقلابها من طور كان يتيح الوساطة السورية، الى طور يؤدي الى توريط الحكم السوري وإثبات التهمة عليه. والحق ان صانعي سياسة سورية سعوا في الأمر بظلفهم. فهم لم ينفكوا ينسبون الى أنفسهم الرأي الفصل، إن لم يكن القول الفصل، في "القضية" الفلسطينية و"القضية" اللبنانية و"القضية" العراقية والقضية الكردية والقضية الأرمنية، حتى حملوها على قضاياهم الداخلية وناطوا دوامهم بها وبمصيرها. وفي هذه المسائل ساندوا، بذريعة الحق في المقاومة، الاجنحة الغالية والأضعف سياسة، والساعية في تقويض نفسها ومجتعاتها ثأراً وانتقاماً ويأساً. فمهدت هذه الأجنحة، من أنحاء شتى، الطريق الى الحركات الإرهابية الصريحة. وكانت مثالها الذي احتذت عليه. وإلقاء التبعة عن هذه الأجنحة على عاتق "التصهين" و"اليهودية المسيحية" و"العولمة الكاسرة" و"الأزمات الداخلية" - الى الطبع الشاروني وانتخابات الولاياتالمتحدة الرئاسية - لا ينفي أن بفلسطين، الى "حماس" و"الجهاد" وأحمد جبريل، كان ثمة محمود عباس. وقال ساسة سورية فيه قول "حماس" و"الجهاد". وفي العراق قامت معارضة لصدام حسين. واختار الساسة إياهم التجارة مع صدام حسين، واستقبلوا، بالوكالة، علي حسين المجيد. وفي لبنان قدموا إلياس الهراوي وإميل لحود على رينيه معوض وبطرس حرب ونسيب لحود. وآووا عبدالله أوجلان... وهم يفعلون هذا فيما أزمة شرعية الحكم تقوده الى التشرذم والتكتل والسطو المباشر على مرافق المجتمع وعوائده. وهذا توقيت "خطأ" في لغتهم يكشف عن أخطاء توقيت طالت فوق ثلث القرن. * كاتب لبناني.