ما هو البرنامج الذي تضعه القوى الغالبة في النظام العربي للمقاومة العراقية المقبلة؟ وهل يمكن لبغداد أن تخط مجالاً ثالثاً ينأى بها عن حدّي "الديكتاتورية" و"العمالة" المزعومة؟ يكاد الأمر يشبه الأعمال التي ينصح بها كتبةُ الحجب من يظنون انفسهم مرصودين او مصابين بالعين. فبعد مؤتمر الدول الثمان الإقليمي بالرياض، في 18 نيسان ابريل، ينبغي ان يتوقع المراقبون مجلساً وزارياً تعقده دول الجامعة العربية، ثم اجتماعاً وزارياً آخر تعقده دول المؤتمر الإسلامي، وربما قمة عربية استثنائية، في البحرين هذه المرة، وهي آلت إليها رئاسة دورة الجامعة العربية. ويتوقع ان تصدر المؤتمرات والاجتماعات والقمم، إذا انعقدت، بيانات تشجب "الاتهامات الصادرة اخيراً تجاه سورية" - على قول بيان وزراء الخارجية "الحياة" في 20 نيسان - على نحو ما شجب مثيلها، قبل حرب العراق، التهديدات تجاه "العراق" اي صدام حسين وعشيرته ورهطه. ولعل تطور الأمور من "اتهامات"، الى "تهديدات" هو في صلب الدعوات، إذا املاها الاضطرار، الى انعقاد المحافل المزمع. ولا تشك السياسة السورية في ان ما يسميه البيان الديبلوماسي "اتهامات" هو، في حقيقة الأمر، تهديدات صريحة. وترتبت عليها "مرونة" بهلوانية متعاظمة، و"الحض" الوزاري "على التزام القوات المحتلة الانسحاب من العراق والسماح للعراقيين بمزاولة حقهم في تقرير المصير" جزء من الرد الإقليمي على الاحتلال، ووجه من الصياغة السورية لهذا الرد. وتبني المؤتمر الإقليمي الثاني - والأول عقد في خضم السيرورة العراقية في كانون الثاني/ يناير من العام الجاري - الصياغة السورية يشبه دعوة المؤتمر الأول العراق الى التزام القرارات الدولية، وتحفظَ وزراء الخارجية عن استعمال القوة. ويومها نص المؤتمر على التحفظ بينما الراجح عندهم، ما عدا الوزير السوري، الدعوة اليائسة الى التزام قرارات نزع السلاح. وحين وقعت الواقعة مالت كل دولة الى شطر او جزء من الموقف انتخبته واقتصرت عليه. وتحاول السياسة السورية، اليوم، تجديد الجمع بين جزءين مختلفين من المشكلات الإقليمية. فتوحي بدمج الحض على الانسحاب ويفهم "الحض" على انه اقل من "الدعوة" ويسبقها بمرحلة او اثنين في "عدم الموافقة على الاتهامات" "وعدم الموافقة" اقل بمراحل من الرفض والشجب والإدانة الموجهة الى السياسة السورية الإقليمية. والأمران متباينان ومختلفان، ولا يربط بينهما إلا المزاعم السورية في سياسة عراقية. وهذا لا يصدقه إلا بعض اللبنانيين العروبيين او "الأتراك القبارصة" على مثال رؤوف دنكطاش، في لبنان. فالسياسة السورية تزعم تمثيل "المقاومة" العربية، وربما الإسلامية، بوجه الهيمنة الأجنبية. وهي ماشت القهر والقمع العروبيين، وضلعت فيهما، بذريعة "المقاومة". ويقضي زعم التمثيل برفض الاحتلال وهو تقنياً وقانونياً احتلال، وقصر عمل التحالف العسكري على دلالته التقنية والقانونية، واطراح مترتباته السياسية والاجتماعية، اي تدمير مباني الاستبداد وأجهزته، والتمهيد لمباشرة حق تقرير المصير. فالاقتصار على الدلالة التقنية والقانونية لنظام صدام حسين، والسياسة السورية تمسكت بالاقتصار هذا، يؤدي الى الإقرار بشرعية صاحب النظام ونظامه. وهذا ما أقرت به الطبقة الحاكمة السورية من غير تحفظ، ولا تزال تقر به. وأما المترتبات السياسية والاجتماعية فالإقرار بها، على ما تفعل معظم دول المؤتمر الإقليمي، لا يحمل على تسويغ الاحتلال، ولا على إرسائه على شرعية مسبقة. وإنما يحمل على مطالبته بتحقيق شروط حق تقرير المصير بأقل تكلفة وأسرع وقت. وهذا يخالف المطالبة بالانسحاب اليوم. فمهما كان الرأي في الحملة العسكرية التي قضت على "صاحب" العراق وأجهزة استبداده، واحتلت الأراضي العراقية وينيط احتلالها بها حفظ الأمن والاستقرار، على ما ينوه البيان في بنده الأول، فالقوة العسكرية وحدها يسعها الاضطلاع بوحدة الشعب العراقي الوطنية والسياسية، وبوحدة الأراضي الإقليمية العراقية، والقيام بهما. فلولا القوات الأميركية والبريطانية المحتلة لما حالت قوة اخرى وبالأحرى القوات السورية بين القوات التركية وبين دخول كردستان العراق، وربما الاستيلاء عليها وضمها. ولما حالت قوة اخرى بين القوات الإيرانية وبين دخول جنوبالعراق، و"ادارته" ادارة "أخوية". ولما فصلت قوة بين الجماعات العراقية، وردعتها عن اقتتالها الداخلي، اولاً" وعن قتالها بعضها بعضاً، ثانياً" وعن الالتجاء الى تحكيم خارجي لا يلبث ان يتحول الى احتلال "شرعي" مدمر، ثالثاً" ولما حجز بين القوات الأردنية وبين التدخل "الهاشمي" حاجز، رابعاً. والتهليل للتظاهرات العراقية التي تطالب بجلاء قوات التحالف، والاحتفال بالدم العراقي الذي يسفك في بعض هذه التظاهرات، والتعويل عليه لحمل الرئيس الأميركي على التقطيب عوض الابتسام على ما ذهبت إليه محللة استراتيجية من مدرسة باب التبانة الطرابلسية، وهي صنو مدرسة الفاكهاني البيروتية نسباً فلسطينياً، ومخيلة سياسية، وإبداعاً تاريخياً، هذه كلها دعوة صريحة الى اللبننة، وإلى الحروب المتناسلة برعاية اخوية "مشكورة"، على قول "اتفاق الطائف" الذي دعا إلى مثله زعيم الحزب اللهيين في لبنان. والمواقف الإقليمية الملتبسة من هذه المسألة، ومن المسائل المتصلة بها - على شاكلة المواقف التي سبقت الحملة العسكرية وأسهمت في التمهيد لها - قد تطمئن بعض السياسات المضطربة والقلقة الى توهم شرعيتها، على رغم خوفها وارتعادها. فحين يذهب وزير الخارجية السوري الى ان التحذير الأميركي هو "تعبير" عن مصاعب الاحتلال الداخلية - على مثال تعليلي رتيب يفترض ان سورية وحدها لا تعاني مصاعب داخلية - فهو يحسب ان السياسة السورية و"المقاومة" العراقية المفترضة هما واحد، ويصدران عن معين قومي مشترك. وهو الزعم الذي بنى عليه ساسة سورية سياستهم اللبنانية، وسعوا في بناء سياستهم الفلسطينية عليه، وتوسلوا بعبدالله اوجلان وبمنظمة "أسالا" الأرمنية في سبيل معالجة علاقتهم المتأزمة بتركيا وزيادتها تأزيماً الى ان حسمت تركيا المسألة بالتهديد بالقوة على مثاله. وعلى رغم اصابة السياسة المضطربة والقلقة هذه العقدَ العربي كله، اي جامعته المفترضة ونظامه، بالشلل والانفراط العمليين، تمضي السياسة السورية على نزعاتها ونزواتها. وحجتها على فاعليتها وجدواها انسحاب القوات الإسرائيلية من الألف كلم المربعة اللبنانية، بعد اثنين وعشرين عاماً من الاحتلال المتمادي في الغباء والعبث. وهي حجة خفيفة في ميزان غير ميزان الأهواء الجماهيرية العربية والمسلمة، الجامحة والمتبلبلة. وتمضي السياسات العربية، تحت وطأة المزاودة السورية، على انقسامها على نفسها، وإعلانها غير ما تضمر، وإضمارها غير ما تعلن. فما تقسر السياسة السورية السياسات العربية الأخرى عليه، وهذه غالبة عدداً ومصالح، هو إباحة أمنها واستقرارها لعبث "رجل قوي" مزعوم ينيط بنفسه قيادة "المقاومات" العربية، على رغم اصحابها المحليين والوطنيين، من غير ضمان عربي واحد وجامع. فكان على دول مجلس التعاون الخليجي، وأولها الكويت والإمارات، الموت فداء صدام حسين، واستبداده بالعراق والعراقيين، وتخريبه العلاقات الإقليمية ليس وحده، بينما ما يسمى "النظام العربي" عاجز عن حماية اجزائه الضعيفة من مطامع الأجزاء "القوية" والعادية. وعوض الحماية يضطلع "النظام" هذا بإضعاف من لا يملك حماية من غيره، على ما هي حال لبنان والفلسطينيين، والعراق إذا لم يُحَل بين النظام العربي، على حاله اليوم، وبين تولي امره. واختبرت السياسات هذه، وتقوم منها السياسة السورية مقام "المفتاح" على قول دوفيلبان الفرنسي الذي ضيع فرصة موقف شجاع غير متملق، في لبنان طوال ثلث قرن. ويصح فيها وصفها بنقيض ما يسميه السياسيون الأميركيون "بناء الأمة". فمؤداها، على ما يشهد احتضار الدولة والوطن اللبنانيين، هو "تصديع الأمة"، او تحطيمها، على مثال صنيع "عشيرة" صدام حسين في العراق، و"عشائر" اخرى في الجوار العربي القريب والبعيد. ولا مناص من التصديع هذا، او التحطيم، حين تناط السلطة كلها بطغمة عصبية تتسلط على الجماعات والموارد بالقوة، وترسي تسلطها على الحرب الأهلية والأمنية الفعلية، وعلى حرب اسطورية على الخارج. فيُستأصل العمل السياسي والاجتماعي المستقل، وتُسكت الصحافة ومنابر الرأي والمناقشة، وتُحال الهيئات المنتخبة والتمثيلية الى دوائر دعاوة وإنفاذ، ويجند القضاء في جهاز الأمن والتخويف، وتستتبع الهيئات الأهلية او تعزل، وتستعدى الجماعات على الجماعات وتحجَّر على عدائها، وتتحول الدولة اجهزة إعالة تشتري الولاء، وتعبئ على اعداء الداخل، وتقيد الأنشطة الاقتصادية بقيود الإعالة وتُخمد. فهذا هو برنامج "المقاومة" العراقية الذي تعد له القوى الغالبة في "النظام العربي" وعليه. وهو البرنامج الذي يرضي الجماعات العربية والأصولية. فالقوى الغالبة والجماعات تقدم الديكتاتورية، وهي تكتبها إذا كتبتها بين مزدوجات تحفظاً، على "العمالة"، وهذه تكتبها مطلقة من التحفظ. وفي هذا الميزان المختل ينعى على احمد الجلبي نقطة احتيال - إذا ثبتت - في بحر فساد عميم يعفى صدام حسين وأمثاله وأولادهم وأولاد عمومتهم وعشائرهم من الحساب عنه، على رغم انه عطل البنية الاقتصادية والإنتاجية لأمم ومجتمعات كاملة. وهذا، اي التعطيل، ما لم يرم به الجلبي وأمثاله. فالعدو هو ما يُخرج المجتمعات من ركودها، ويحل اوثاقها، ويحملها على موازنة قبضة القيادات "الأبدية" بقوى اجتماعية وسياسية تدخل في وحدة الدولة طوعاً. * كاتب لبناني.