كانت سيدة الأعمال الألمانية، التي اغتسلت لتوها من غبار أرقام اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين في دبي، تجلس على كرسيّها ولا تفعل. تغترب الى فضاءات غامضة تأخذها اليها موسيقى وكلمات "اعطني الناي وغنّ". لا تفهم الكلمات لكنها تسأل جارتها عن أوزان وأرباع قطعة نجيب حنكش التي خلّدها إعداد الأخوان الرحباني. ترانيم جبران لها وقع آخر في الفضاء الذي لوّنته اضاءة زرقاء خافتة تذكّر بقمر فضّي يتسحّب من ساحة الضيعة، بوجل. "وأنين الناي يبقى..." ينشد الكورال أمام فرسان العولمة. ماذا قدّم مروان وغدي الرحباني أمام 184 جنسية جاءت من غرب الكوكب وغرابة الأفكار المسبقة عن الصحراء والبدو والقطيع والناي والعربي؟ ماذا عرض صاحب ملوك الطوائف والمتنبي... في دبي الاسبوع الماضي. "نحنا على العتيق، بعدنا على العتيق..." افتتح الكورس البرنامج الذي حمل اسم "لحظات شرقية" بأغنية "مسا الخير" تأليف وتوزيع مروان وغدي. يقول المطلع: "لو كل العالم تغيّر كلمة مسا الخير ما بتتغيّر". الخير والسلام، وحدها الموسيقى القادرة على التمسك بهما في زمن الحرب والقحط والجوع. زمن ال"آي أم أف"، ودبي يعلق في شوارعها علم اسرائيل. "الرحبانيان" غير معنيين بالمشهد السياسي الذي أطّر عملهما: "اردنا ان نغتنم فرصة وجود هذا الكم الكبير من الجنسيات الغربية لنعرض امامها نماذج عن فن راق منتقى من تراث المنطقة التي نفخر بالانتماء اليها". الى أي مدى نجحا في ذلك؟ ربما تكون حالة النشوة التي ظهرت على الحضور أصدق اجابة عن السؤال: "سو، ديد يو لايك ليبانيز ناو"؟ تسأل لبنانية صديقتها الآتية من جنوبي افريقيا، وتضحكان. في احدى مشاهد العرض، فتيات يرقصن بالسيوف. يحملنها ويلوحن بها. السيف عند العرب عزة وتقليد وبهجة أيضاً. حوافه المسنونة تمرّ عليها أنامل الانوثة الرشيقة ولا تسيل دماء الارهاب. لقطة موفقة وذكيّة، تحسب لمروان. الموشحات الاندلسية نثرت في المكان أجواء من حنين فائق الوهج. "على شط بحر الهوى" كانت المفاجأة التي جعلت العرب من بين الحضور يميلون بحركة البحارة على سطح السفينة، فيما بعض الفتيات لوحن بالمناديل كمن يودعن عشاقهن الذاهبين الى المجهول. اختيار سيد درويش الحلوه دي وسالمة يا سلامة تسجيل آخر موفق اثار انتباه الحاضرين. "يا معلمة ويا معلمة... الشيشة جات والزعل فات" أغنية منصور الرحباني من "ابو الطيب المتنبي" اشعلت الحضور على وقع هزّ الخصور الرشيقة للصبايا الراقصات. الفولكلور العراقي كان موجوداً أيضاً: دزّاني، ومشهد بدوي أدى فيه الراقصون الدبكة على الايقاع الحيّ لضربات المهابيج و"دقوا المهابيج، يا أم التوب الأزرق". من الاغاني المعروفة: "نحن والقمر جيران" و"شو باقيلك بعد اليوم" مروان وغدي و"البنت الشلبية" و"سهرتنا ع دراج الورد". أما المشهد اللبناني فجاء ليمثّل الثقل اللافت في العرض حيث اداء الراقصين تجاوز الاعتيادي الفولكلوري وشاهدنا دبكة مبتكرة كما اعداد جديد ل"يا مايلة على الغصون" و"حيّوا الزوار"، اضافة الى "على مهلك قدامك عيد" وأغنية منصور الرحباني "لما كنا بالسهل" التي لحنها أسامة. مشهد خليجي معبّر و"خمس الحواس" من التراث الأردني ربما، ثم "جينا على دبي" أغنية الختام التي أداها الكورال بحماسة كبيرة واستعرضت الفرقة، المزدانة بأزياء تراثية وضعها غابي أبي راشد، صنوفاً من تحيات الشعوب. "نفكر جدياً بعد النجاح الذي حققه العرض أن نجول به في مختلف دول العالم"، يفصح الرحباني. يكشف أيضاً: بعد "ملوك الطوائف" يعكف منصور الرحباني الآن على كتابة عمل جديد مضمونه تنويع لرواية شكسبير "روميو وجولييت". العمل يحمل الكثير من الرسائل والاسقاطات السياسية وسيكون جاهزاً للعرض بحلول شتاء العام المقبل، اي بعد شهور من اليوم. حينذاك، ربما سيتعرف الغرب على "روميو وجولييت" بنكهة جديدة لم يعهدها من قبل مع شكسبير. نكهة الرحابنة: "ذاي آر غريت ذا رهباني فاميلي"، تقول السيدة الألمانية بحماسة تشعل خديها الثلجيين.