انتهت فاعليات "مهرجان الأدب الدولي" في برلين وكانت شاركت فيه كوكبة من أدباء العالم، في مقدمها الروائي المجري ايمري كيرتيش والألمانيان غونتر غراس ومارتين فالزر والأميركي جوناثان فرانزن والإيطالي أليسندرو باريكو والبرازيلي باولو لينس والصومالي نور الدين فرح والمغربي محمد بنيس. شهد المهرجان قراءات عدة اكتظت فيها القاعات بالجمهور الذي بلغ عدده هذا العام نحو 50 ألف شخص، أي ثلاثة أضعاف العام السابق. ينطبق هذا خصوصاً على قراءات الأدباء "النجوم" من الألمان الذين ترجم لهم أكثر من عمل إلى الألمانية، إضافة إلى حاملي نوبل. إلا أن إقامة مثل هذا المهرجان الدولي الحافل في عصر التقشف والادخار ونجاحه في استقطاب هذا العدد من الكتاب المرموقين وعشرات الآلاف من محبي الأدب، يعتبر في ذاته "معجزة صغيرة"، كما قال مدير المهرجان أولريش شرايبر. والطريف أن شرايبر في الأصل مهندس معماري، وكان يحلم بإقامة مثل هذا الملتقى سنوياً في العاصمة الألمانية، وهو ما نجح فيه نجاحاً جعل الكاتب المكسيكي ألبرتو روي سانشيز يقول إن المهرجان "هدية لنا نحن المؤلفين". وهو الرأي الذي أكدته الكاتبة الجزائرية الأصل ليلى مروان عندما قالت في المؤتمر الصحافي: "في برلين يتقابل المرء مع العالم كله. في أي مكان آخر أستطيع أن أتبادل الحديث مع زملاء لي من الصومال أو من كوريا؟". أما الكاتب الأميركي إليوت واينبرغر فأطلق على مدير المهرجان "كوفي أنان الأدباء". المشاركة العربية الحضور العربي في مهرجان برلين للأدب توزع بين الشعر والقصة، إضافة إلى أدب الأطفال. في الشعر شارك المغربي محمد بنيس في ليلة شعرية ضمت الشاعر الأميركي رايموند فيدرمان والشاعرة الارلندية نوالا ني دومنيل، والشاعر الكوري الجنوبي كو أون، والشاعر الروسي الكبير غينادي أيغي. أما الشاعر العراقي سعدي يوسف فلم يحضر ولم يعتذر حتى عن عدم الحضور، لذا ظل الجميع يترقب وصوله ليحيي الأمسية مع بنيس. وفي اليوم التالي كان من المفروض أن يشارك سعدي يوسف في ندوة فكرية بعنوان "عالم إسلامي جديد" وكادت الندوة أن تُلغى بعد أن اعتذر أيضاً الكاتب التونسي الأصل عبدالوهاب المؤدب، ولذلك اقتصر النقاش على الروائي الجزائري الفرنسي اللغة بوعلام صنصال والكاتب الفرنسي لوران غاسبار والصحافي الألماني راينهارد هيسه. وكان مقرراً أن يقرأ المؤدب أيضاً من قصيدة طويلة له بعنوان "صدى باول تسيلان"، كتبها إثر زيارته محرقة أوشفيتس في أيار مايو حيث لقي أقارب الشاعر الألماني اليهودي الكبير حتفهم. إلا أن القراءة ألغيت أيضاً لسفر الشاعر المفاجئ. وفي القصة قرأ العراقي جبار ياسين حسين من "الملك الهائم" التي يتناول فيها سيرة الشاعر إمرئ القيس. أما في أدب الأطفال فأحيت المصرية نتيلة راشد أمسيات قرأت فيها من قصصها المستوحاة من "ألف ليلة وليلة". وكانت الرواية الجزائرية ممثلة بكاتبين يكتبان بالفرنسية: ليلى مروان التي تحيا بين باريس وزيورخ، وبوعلام صنصال الذي يعيش بالقرب من الجزائر العاصمة. بنيس: اللغة العربية تحتضر وفي حديث أدلى به الشاعر المغربي محمد بنيس للإذاعة الألمانية دويتشه فيله قال إنه يجري منذ سنوات طويلة حواراً خصباً مع الثقافة العالمية عموماً والشعر الألماني خصوصاً. وذكر أن لقاءه الأول مع الشعر الألماني كان مع "الديوان الشرقي للشاعر الغربي" لغوته الذي نقله إلى العربية عبدالرحمن بدوي، ثم مع "كتاب الساعات" لريلكه والقصائد الأولى لهولدرلين. ويضيف بنيس: "جذبني الشعراء الذين ينتمون الى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ريلكه وهولدرلين وغوتفريد بن، ولهم مكانة كبرى في نفسي لأن شعرهم يخلق معرفة من خلال الشعر". وكانت علاقة الشاعر المغربي مع الشعر الألماني متقاطعة مع الفلسفة الألمانية هيغل وهيدغر ونيتشه وعلم اللسانيات هومبولت. "ما يهمني في الشعر الألماني هو الربط بين الشعر واللغة، وربط الحاضر بالماضي، فالتجربة الألمانية تطرح دوماً في الشعر والفلسفة سؤال التاريخ. الشعر الألماني له وعي نظري بموقع اللغة في الشعر، لا من حيث هي لغة جمالية، ولكن من حيث أن اللغة مرتبطة بالوجود". هذا البعد النظري - يقول بنيس - لم يكن مطروحاً بهذه القوة كما في اللغة الألمانية، وهو ما يجذبه كشاعر مغربي "يعيش احتضار اللغة العربية في وطنه". صباح الأحد 21/9 بلغ المهرجان ذروته جماهيرياً عندما قرأ الأديب المجري إيمري كيرتيش الحاصل على جائزة نوبل العام الماضي عن روايته الجديدة "تصفية" التي صدرت ترجمتها في الأسواق الألمانية، وتتناول - كما في روايته الشهيرة "كائن بلا مصير" - موضوع المحرقة النازية الهولوكوست. ثم اختتم الأديب الألماني غونتر غراس نوبل 1999 مساء الاثنين فاعليات المهرجان بأمسية شعرية موسيقية حملت عنوان: "بوق الصبي السحري، أو الحقيقة الأخرى"، عزفت فيها الموسيقى ابنته هيلينا 29 عاماً. القصائد التي تلاها غراس في هذه الأمسية مأخوذة من أشعار آخيم فون أرنيم الشعبية، إضافة إلى مقاطع شعرية من رواية غراس "سمكة موسى". وبمناسبة المهرجان صدرت أنطولوجيا شعرية بعنوان "ذاكرة الكلمات"، وضمت 99 قصيدة من معظم لغات العالم اختارها 33 أديباً من ضيوف المهرجان. وطُبعت الأشعار بلغتين، باللغة الأصلية واللغة الألمانية. وكتب الشاعر الألماني الكبير هانز ماغنوس إينتسنسبرغر تصديراً ساخراً للأنطولوجيا قال فيه إن من التصورات الشائعة أن القصائد "صعبة"، لكن الحقيقة تؤكد أن الأشعار "أيسر فهماً من برامج الأحزاب وشروط التعاقد بين الشركات وإرشادات الاستخدام وعقود الإيجار". ويضيف إينتسنسبرغر أن الشعر - عموماً - "يذبل سريعاً كباقة بنفسج"، لكن هناك استثناءات استطاعت أن تعمر آلاف السنين. والغريب أن الشعر هو "الوسيط الجماهيري الوحيد الذي يتفوق فيه عدد منتجيه على عدد مستهلكيه". وأثبت الشعر أنه يتعارض مع القوانين السائدة في السوق: "فقيمة الشعر في بورصة الثقافة تقترب من الصفر"، لهذا أعلنت دور النشر الكبرى وقنوات التلفزيون وبوضوح لا يدع مجالاً للشك أن "الشعر غير مرغوب فيه"، لأنه غير مجد من وجهة النظر الاقتصادية. إلا أن إينتسنسبرغر يختتم تصديره متفائلاً: "ومع ذلك فقد أثبت هذا الجنس الأدبي أنه عنيد. كما توصل علماء الإثنولوجيا بعد أبحاث طويلة إلى نتيجة مفادها عدم وجود مجتمع - في أي زمان أو مكان - لم يعرف الشعر. لذا يبدو خطر انقراض الشعر خطراً بعيداً وغير مبرر". ومن الشعراء الذين وردت قصائد لهم في الأنطولوجيا برتولد بريشت وغارثيا لوركا وكفافيس وبابلو نيرودا وأوكتافيو باث وبرويس باسترناك وريلكه وغيورغ تراكل. واختار الشاعر المغربي محمد بنيس لأنطولوجيا برلين ثلاث قصائد: الأولى لأبي العلاء المعري الذي يقول في مطلعها "لا تبدأوني بالعداوة منكم/ فمسيحكم عندي نظير محمد"، ثم قصيدة للشاعر الإسباني أنطونيو غامونيدا، وقصيدة له بعنوان "كلمات"، استمدت منها الأنطولوجيا عنوانها: "كلمات ينحتها/ نفس/ من/ غير شحوب/... والصمت هنالك منشغل/... يقرب مني أمواتاً/ عبروا/ من ذاكرة الكلمات".