في البدء كانت الهزيمة. في البدء جمعتني هي بالعملاق في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك بعد سنتين تقريباً من وقوعها المزلزل في 5 حزيران يونيو 1967. أنا واحد من الكثرة المثقفة هنا التي أصابها مسّ من جنون ما فطفشت تبحث عن خلاص ما. وهو واحد من كثرة مثقفة هناك مسّتها هزة كيان لا يعرف أحد أعماقها فطفشت هي ايضاً باتجاه معاكس لا تلوي على شيء مما كانت عليه في الجامعة أو في المدينة أو في المجتمع الأميركي المحيط. استعاد العملاق وقتها عروبته وعربيته وفلسطينيته وعالم ثالثيته. ولكنه لم يكن رجل استعادة فقط، اذ سار قدماً ليغنيها كلها ايما إغناء باعطائه العالم ذلك الوصف الرائع والهادئ والمرهف والأخاذ لتجربته الكيانية مع الهزيمة ومع عودة الوعي اللاحقة عليها. كانت هي البداية الثابتة في كفاحه وكتاباته ودراساته واسهاماته التي كسرت النموذج الاكاديمي التقليدي المنعزل وأدخلته في رحاب ومتاهات الالتزام بقضايا العصر الكبرى، قضايا الانسان والشعوب والقهر والتخلف والاستعمار وفلسطين. قضايا حقوق الانسان والتحرر والديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية في كل مكان. وكان في ذلك كله موضوعياً من دون ان يكون لامبالياً، ملتزماً من دون ان يكون مزوّراً، علمياً من دون ان يكون محايداً، صادقاً من دون ان يكون محابياً. قال الحقيقة في وجه القوة الغاشمة والسلطات المستبدة كلها. من هنا مصداقيته وتأثيره معاً كعالم وباحث وناقد وكاستاذ جامعة. لم نخسره وحدنا. خسره العالم بأجمعه لأنه ما آن لهذا الفارس العملاق ان يترجّل.