أظن ان رواية "آخر القرن" لأحمد رفيق عوض عن اتحاد الكتّاب الفلسطينيين في القدس، لم يُتح لها الانتشار في العالم العربي ليتعرَّف القراء إلى الروائي الفلسطيني أحمد رفيق عوض الذي يحمل الينا عناصر شكلية مُجدِّدة، ويضعنا أمام رؤية وتأملات مُغايرة لما اعتدنا عليه من النصوص التي تستوحي فلسطين وفضاءاتها ومعضلاتها. نَصٌّ موَّار، متعدّد الأساليب والأصوات، يطمح الى شمولية العرض والسرد والتحليل، ويواجه سؤال فلسطين بجسارةٍ ومكاشفة انطلاقاً من أزمة الحاضر، مُزاوجاً بين الوقائع والتخييل، بين الإيحاء والصراخ. إن رواية "آخر القرن" هي من النصوص النادرة التي تجعلك، بعد قراءتها، تقول هذه هي النغمة التي يمكن أن تقترب من مشاعر الإحباط والهزيمة واللاجدوى التي نُحسها ولا نجرؤُ على أن نُعبِّر عنها بمثل هذا الشكل الذي يلملم أقصى ما يمكن من التفاصيل والأفكار والاحتجاجات عبر لغةٍ وكتابة تنضحان بالفوضى والبوح والغضب العاجز. تتوزّع الرواية على تسعة فصول مُعنونة الشخص موضوع التقرير، قرية البَطمة، الإسرائيلي، الأموات ينسجون أكفانهم...، وتلجأ الى تعديد ضمائر السرد وأصوات المتكلمين" إلاَّ أن صوت محمود السلوادي، أحد المختصين في شؤون اللاجئين الفلسطينيين، يظل هو المهيمن. ولعل مردّ ذلك، كون عائلة السلوادي هي البنية الظاهرة التي تشكل، بشخوصها وحكاياتها، مستويات الحبكة والترابط داخل هذا النص الذي يمتد الى تاريخ فلسطين ومعضلاتها، والى الوجود الاسرائيلي في تجلياته المتباينة، المعقدة. وإذا كان محمود ينتمي الى الجيل الفلسطيني المفاوض، الساعي الى استكمال مقومات الدولة الوطنية، فإن حضور والده عبدالرحمن، بعزلته وشيخوخته ويأسه، يذكرنا بالجيل السابق الذي قاوم الصهيونية منذ الثلاثينات، وخبَر المنفى والعذاب. وهناك "ماجد" أخو محمود الذي يعمل في البناء في إحدى المستوطنات اليهودية، وله ابن هو أسامة، طالب في جامعة بير زيت، يصلي أمام الناس ويسكر سرّاً" وأخته رهام تزوجت من وسيم العائد من أميركا ومعه ثروة لا بأس بها، إلا انه حريص على أن يتوظف مع السلطة الوطنية. بعد فترة، يختلف محمود السلوادي مع زملائه المفاوضين الفلسطينيين ويقدم استقالته لأبي يزن ويلتحق بإحدى المؤسسات حيث يقع في حب نهى سليمان التي تجد فيه ضالتها لتمرير خططها المتصلة بنهب المنح الأوروبية الوافدة على المؤسسة وتحويلها... لكن محمود سرعان ما ينتبه فيضع حداً لعلاقتهما، غير ان نهى تستمر في سلوكها خارج المؤسسة، معتمدة على قوة الإغراء والجنس. وأُسامة الشاب الحائر، ابن ماجد، يرتبط بسميحة التي تكبُره ويعيشان علاقة سرية تنتهي به الى التأسلم مثل والده ماجد... هناك، إذاً، ثنائيات من الشخصيات والمواقف المتسمة، غالباً، بالتضاد: الأب عبدالرحمن السلوادي وزوجته رقية اللذان يُشخصان قصة الجذور الموشاة بتلوينات أسطورية عن لقائهما وزواجهما وصمودهما، ثم الابن الأكبر محمود الذي قضى فترات في السجن وتزوج زواجاً تقليدياً وارتبط بمغامرة مع نهى سليمان، وهناك ابنة أخيه رهام التي وجدت ضالتها في وسيم المنصرف عنها الى سفريات الشركة التي تديرها نهى سليمان، والأب ماجد الذي استطاع أخيراً ان يتوقف عن العمل في المستوطنات بعد أن توظف ابنه في أحد البنوك وأخذ يعيش قصة حب ملتبس مع سميحة المسيحية التي لا يستطيع الزواج منها... لكن هذه الشخوص لا تعيش منعزلة، بل هي تتحرك وسط مجتمع يتكون من عينات مُتباينة تنتمي الى أوساط مختلفة من داخل فلسطين أو من خارجها، على نحو ما يذكرنا الكاتب به في هذه اللقطة: "... وفي هذه الكافيتريا تستطيع ان تسمع لهجات فلسطينية عدة ولغات عالمية مختلفة. وقد فطن صاحب الكافيتريا للجو المطلوب، فجعل للمقهى طابقاً علوياً وباعد بين الموائد ووضع اضاءات خافتة جداً، وموسيقى عادةً ما تكون عالية" وبهذا خلق جوّاً مناسباً للهمس واللمس وما بينهما... وقد غالى بعض أصحاب الكافيتريات في ذلك الى درجة أن لفتت أنظار إِمام الجامع الكبير في المدينة الذي خصص خطبة يوم الجمعة الفائت لهذا الموضوع..." ص 176. الى جانب هذه الشخوص وحكاياتها التي تكوّن ما يُشبه اللحمة في بناء النص، هناك السداة المكونة من أحداث القضية وتاريخها وامتداداتها الراهنة. وهذا العنصر المتخلل لقصص الشخصيات يتخذ تجليات فنية متباينة ومتنوعة نخص بالذكر منها: أ - انعكاس المرايا: من خلال الصورة التي يرسمها التقرير الاسرائيلي عن محمود السلوادي المفاوض والتي تكاد تصبح صورةً للفلسطيني بصفةٍ عامة" ثم صورة الاسرائيلي عند الفلسطينيين كما يرسمها محمود في التقرير الذي يقدمه الى القيادة عن لقاءاته ومفاوضاته مع العدو... نقرأ مثلاً: "... ويفاجئك أن يتبنى الاسرائيلي قضيتك... ويفاجئك انه يريد منك أن تؤمن بوجوده وحقه في الحياة في اللحظة التي يقوم هو فيها بذبحك أو تجويعك أو انكار وجودك" ويفاجئك انه يريد دخول مناطقك الروحية "لينظفها" من أي مشاعر كرهٍ أو حقد أو رفض له". من خلال تقنية انعكاس المرايا، ينقل الينا الكاتب ملامح ولقطات ذكية تنمُّ عن معايشةٍ للآخر، وعن قدرةٍ على رصد الفروق والسلوكات سواء عند الفلسطينيين أو عند الاسرائيليين. وأظن أن تقديم قصة عائلة السلوادي من خلال القناة الأولى للتلفزيون الاسرائيلي مع استعمال تقنية "القطع" هي حيلة تخييلية جيدة في مجال توسيع انعكاس المرايا. ص116 وما بعدها. ب - تلبيس البعد الأسطوري للتاريخ: هذا ما نجده بصفة بارزة في فصل "قرية البطمة" الذي تحكي فيه السيدة رقية قصة شجرة البطمة التي دخلتها الحاجة خضرة ولم تخرج منها، وكذلك التقاء رقية بعبدالرحمن عندما جاء لاجئاً الى سلواد، وقصة ترحال العشيرة عبر أرجاء فلسطين قبل العودة الى سلواد... فصل يتميز بلغة شعرية وأجواء أسطورية تسبغ على فضاء الرواية حلّة جميلة، أخاذة. ج - ربط حاضر الرواية بمشكلات الحاضر الفلسطيني: تبدأ الرواية وتنتهي بالمعضلات السياسية والاجتماعية التي يعيشها الفلسطينيون خاصةً بعد مفاوضات أوسلو 1993. من هنا أهمية الرواية التي تستوحي وتستنطق فترة حرجة تشمل محاولة الانتقال من مرحلة الثورة المسلحة الى بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها... هكذا نجد ان المفاوضات النهائية وفي شأن اللاجئين، تعثرت ولم تصل الى شيء ملموس، والانتفاضة مستمرة، والعنف الاسرائيلي شرس متنامٍ، والفلسطينيون يعيشون - عبر مجهر الروائي - مشكلاته العاطفية والجنسية واليومية بين معترضٍ على اهتزاز القيم والسلوكات، وبين من يسعى الى الاغتناء والافادة من مؤسسات السلطة الوطنية ومن المنح الأوروبية المخصصة للتسيير والتجهيز... د - استحضار السياق المميز للقرن العشرين: هذا العنصر هو بمثابة لبنة تبرز التأثيرات السلبية التي تزيد من محاصرة قضية فلسطين وسط عالم شهد مجموعة من "الانهيارات" و"القيامات" يعددها الكاتب من خلال ثبتٍ يرصد بإيجاز أهم التحولات العالمية، بما في ذلك انهيار مفهوم الزمان والمكان والجاذبية والمادة، وقيام "الاتصالات الرقمية والمرئية وتوقف الخيال عن اللحاق بالآلة"... على هذا النحو، يأتي بناء "آخر القرن" نسيجاً متشابكاً تتخلله أجناس تعبيرية متباينة مثل الريبورتاج الصحافي والتلفزيوني، والتحليل المقالي، وتيار الوعي، والسرد البانورامي الملحمي... والواقع أن ما انتهجه أحمد رفيق عوض يلتقي ويتقاطع مع محاولات حداثية أخرى تعتمد على المبادئ التشكيلية نفسها من تعددٍ في الأصوات واللغات، وتجاورٍ للخطابات، وتفتيت للسرد والحكايات، ولجوءٍ الى أجناسٍ متخللة تتضافر وتنضفر في نصٍّ روائي يتطلع الى الشمولية والملحمية، على غرار ما نجد عند دوس باسوس وفي رواية "الإنسان بدون مزايا" لروبير ميزيل وفي نصوص أخرى... إلا أن التحقق النصي يختلف من روائي لآخر، بطبيعة الحال. ولا شك في أن الأستاذ عوض أنجز في هذا المجال، نصّاً عربياً يستحق الالتفات والقراءة المتأنية. في تأويل النص إن بناء "آخر القرن" القائم على تعدد الأصوات والخطابات والشخوص، وعلى تشظي الحبكة والأزمنة، يُصعب مهمة التأويل لأن النص يغدو بمثابة برج بابل حاملاً للدلالات المتضادة وللحقائق الملغمة التي ينسف بعضها بعضاً" وما تقوله الفكرة المعبَّر عنها مباشرة ومن خلال مفهومات ايديولوجية أو سياسية، سرعان ما نجد حكاية أو مسار شخصية يضعها موضع تساؤل وتشكيك... لذلك فإن مبدأ التأويل الذي اقترحه يأخذ في الاعتبار هذا "التنازع" بين الدلالات والتأويلات المتجذر في عناصر بناء النص وتكوينه. ومن ثم انطلق من وجود عنصرين متضادين، متوازيين يلقيان بظلالهما على الكتابة والمعنى إن لم يكونا يوجهانهما: 1 - حرص الرواية على الالتصاق بالآني والظرفي وبخاصة ما يتصل بالتحولات السريعة التي "تفسد" الثورة في سيرورتها نحو بناء الدولة خلال المرحلة الانتقالية الصعبة: "... والمرحلة الانتقالية تغيير في العادات وتعديل في السلوك، وتبديل في المفاهيم، وتحوير في الجغرافيا، ولعب بالتاريخ، وإعادة حساب وترتيب فيزياء..." ص 257. هذه التحولات السريعة المزلزلة لصورة الثورة ونقائها، يصعب أن نجد لها سبباً واحداً يفسرها" ومن ثم فإن الرواية تعرض علينا عينات مختلفة من المشاهد والحوارات والوقائع المفاوضات، سلوك موظفي السلطة في الإدارة، التهافت على المال، العلائق العاطفية...، ولكن السارد الأساسي محمود السلوادي يعترف في موضعين من النص بأن الصراخ هو المطلوب وليس السرد: "قال: أريد أن أنجو من القص! قال: أُريد أن أصرخ بأقصى ما أستطيع من صوت. قال: لماذا تريدون حكايةً أصلاً؟" ص 127 وكذلك في ص 208. على رغم ذلك، أعتبر النمذجة التي انتهى اليها الروائي للنخبة السياسية الفلسطينية في هذه المرحلة الانتقالية، مفتاحاً لقراءة التحولات الطافية على السطح" وهذه النمذجة تقسم الفاعلين الى ثلاثة أنماط: الكلمنجي، المتحدث الذّرب، والمناضل الذي يحمل تاريخاً من الكفاح، والأكاديمي المتقمص لدور الخبير. إلا أننا نستطيع أن نضيف شخصية نهى سليمان التي تحتل موقعاً متفرداً وتصبح رمزاً، ربما، للنفوذ الأجنبي المتسلل عبر الشركات المتعددة الجنسية والخبراء والدارسين الأجانب... 2 - الزاوية الثانية المتممة للتأويل هي عنصر التباعد الذي يلجأ اليه الكاتب ليضع مسافةً بينه وبين الحاضر الراهن، ولينبهنا الى أن الظرفي الآني لا يكفي لفهم ما يجري في فلسطين وفي تجربة بناء السلطة الوطنية. هكذا يمكن أن نقرأ الارتداد الى التاريخ والسرد الأسطوري، والتذكير بما يحدث من انهيارات وقيامات في أنحاء العالم وبالاختراعات العلمية والتكنولوجية المغيرة للعلائق والجغرافيا ومفهوم الدولة... على هذا المستوى الأعمق والأشمل، يطرح الروائي سؤالاً أساسياً: "قل لي، إذاً، كيف يزداد الوعي ثم يقل العمل؟"، ثم نجده يربط بين هذا التساؤل وبين الهزيمة في مفهومها الواسع الذي يشمل العرب وغيرهم من الأمم: "قال قائل: ما الهزيمة؟ فقيل له إن الهزيمة هي أن تُنزَع من بين يديك المبادرة والرغبة في التجريب والدافع للمواجهة، والعزيمة للنهوض، والإرادة في المقاومة، والشعور بالأهمية" ص 247. من ثم يأتي الفصل الأخير "المصائر المحتملة" لينبئنا، بصيغة الاحتمال، عن المصائر التي آلت اليها شخوص الرواية، وهي كلها مصائر تدهورٍ وهزيمة، مع نافذة انقاذ للذين يعتصمون بأفق الدين. هكذا نجد القائد أبو يزن يعود الى العزلة، ومحمود السلوادي يستسلم لنهى سليمان ويستقيل من النضال، وماجد وابنه أسامة يتأسلمان وينقطعان للعبادة والصلاة... كل العناصر والعلائق داخل النص تفضي الى انسداد الآفاق والى متاهات الهزيمة داخل التاريخ وحسب منطقه. وعلى رغم ان الروائي تابع تقصي التجليات والأسباب واستحضر شخوصاً وحكايات غير تامة في الفصل السابع وكأنه يهدم ما سرده من قبل، فإن المآل يبقى هو أفق الهزيمة، وهذا ما يدفعه الى التعلق بأذيال النبوءة والعبادة: "... أُحارب تكنولوجيا الهزيمة بعزيمة النبوءة" إن لم يكن ذلك كذلك سأنتحر" ص 256. بعبادرة ثانية، أمام الانشطار والتمزق والهزيمة وخيانة التاريخ، لا يظل هناك من أُفق سوى الانتحار أو التشبث بالبعد الميتافيزيقي للتعالي على الهزيمة. كأنما فلسطين الملموسة جداً في عدالة قضيتها وضرورة إنصاف التاريخ لها، تتحول الى حلم متوارٍ تطمسه آليات العدو وغطرسته، وتُشوهه ممارسات المنتفعين العابرين من نضالية الثورة الى خيمة السلطة، المستعيضين عن الفعل بالكلام والتصريحات التلفزيونية... فعلاً، الهزيمة - حتى ولو كانت موقتة - هي أشد من القتل! وأظن أننا لو تأملنا رواية "آخر القرن" خارج الفضاء الذي تستوحيه، لوجدنا انها تضعنا أيضاً في عمق الهزيمة التي تعيشها بقية المجتمعات العربية مع اختلاف في التفاصيل. ألا تُحاصرنا عناصر الأسئلة نفسها: التبعية للآخر، اللاديموقراطية، الفساد والرشوة وتمجيد المال، إِفراز الكلامنجية وتلاشي الفعل العقلاني المشيّد، غياب مقاومة التدهور وفقدان المبادرة؟