الذكرى الثلاثون لرحيل الشاعر توفيق صايغ التي احتفت بها "الحياة" الخميس 4 كانون الثاني/ يناير 2001 اعادت الى الواجهة مأساة هذا الشاعر المنفي وقضية مجلة "حوار" والاتهامات التي كيلت لها. هنا قراءة اخرى في ظاهرة هذا الشاعر الرائد والفريد. قبل ان يفاجئ الموت توفيق صايغ مساء الاحد 3 كانون الثاني يناير 1971 في مصعد البناية التي يقطنها في بركلي في ولاية كاليفورنيا، كان بين آخر الكلمات التي دونها في مفكرته كما يشير عيسى بلاطة جملة اسيانة، تبدو كأنها تكثف حياته كلها، وهي "... فما هو المحصول العام... أليس اسى وضيق نفس واحساساً اشبه بالهلع؟" وبمواراته المثوى الاخير بين غريبين آخرين هما صيني عن يمينه وياباني عن يساره، كان مصير صايغ اشبه بالنبوءة التي تحقق نفسها، وكأن موته يقلد رؤياه، ويكمل في هذا الفلسطيني الذي اقتلعته الهاغاناه، من القدس في عام 1948 تجربة الغريب الكامل في ابعادها الوجودية والانسانية. شكّل الغريب، المقتلع، الطريد، المقصى، المقذوف، الضحية، المنفي عن العالم كله مدار تجربته الشعرية برمتها، وهو كان بدأها في ايلول سبتمبر 1954 حين اصدر ديوانه الاول "ثلاثون قصيدة". ولعل استهلاله الديوان بمقطع من قصيدة الشاعر الانكليزي طومبسون "طريدة السماء" يمثل مفتاحاً لفهم تجربته هنا ويمكننا ان نكثفها في كلمة واحدة بتجربة: المنفى. وفيها يواجه الشاعر الذي هجره ]الله البارئ[ والعالم كل مرارة الشقاء. وتتعمق هذه التجربة، وتكتسب ابعاداً كثيفة في "القصيدة ك" التي لم تكن سوى قصيدة عذاباته وحبه العاثر، والتي يتبادل فيها الشبق واللاهوت الوظائف، وكأن صايغ فيها اشبه ما يكون بأيوب في العهد القديم. وتوج صايغ هذه التجربة ب"معلقة توفيق صايغ" التي تشكل فيها قصيدته "بضعة اسئلة لأطرحها على الكركدن" ذروة تجربته الشعرية و"كمالها" الى درجة انه لم يكتب بعدها الا قصائد قليلة. ولعل كيفية اعلان صايغ عن "المعلقة" توضح تفكيره في الشعر الحديث ك"معلقة" مضادة ل"المعلقة" الكلاسيكية، اذ وضع فيها رأي نازك الملائكة "إن توفيق صايغ لم يكتب في حياته بيت شعر واحد" ورأي أمين نخلة الذي اشار الى ضرورة الفحص الطبي لمن يتذوق شعر صايغ، وتعليق انعام الجندي "قضى توفيق صايغ على الموسيقى" و"على الصور الفنية" وعلى الاحساس، والأفكار... أسلوب ضعيف مهلهل. إنه مغرم ايضاً بالألفاظ البذيئة". كان صايغ يعرف مسبقاً مدى الضدية في كتابته، وكان في هذه الضدية التي وضعته في مجرى الانفجارات الشعرية الاكثر جذرية في الخمسينات والستينات رائداً من رواد قصيدة النثر. وما سماه الجندي "الالفاظ البذيئة"، لم يكن الا شيئاً متعمداً عند صايغ الذي كان يحتذي دعوة إليوت الى ادخال لغة الحديث اليومية في الشعر. فترجمة صايغ لاليوت، وتسلل صورة "الأرض اليباب" الى عالمه الشعري ليستا مجهولتين اذ ترجم صايغ "رباعيات اربع" لإليوت التي تعتبر اهم اثر تُرجم له الى العربية مع "الارض اليباب" و"الرجال الجوف"، عبر تأثيرها في حركة الشعر العربي الحديث، ومفهوم هذه الحركة عن نفسها، في وصفها تبحث عن بعض جوانبها، عن "حال حضارية" في الشعر. وقدّم صايغ لهذه الترجمة بدراسة مرهفة، ركّز فيها على القضايا الفلسفية الكيانية في العالم الإليوتي. وعمل على طريقة المحققين بأن توقف عند كل بيت من ابيات الرباعية، وعلق عليها مفسراً ومؤولاً رموزها الكلية الرؤيوية الكثيفة. وكانت ثقافة الصايغ الأنكلو-سكسونية عميقة. ولعل تشرب صايغ شعر إليوت الذي لعب اكبر اثر في تكوين القصيدة الرؤيوية - التموزية او الانبعاثية القومية والحضارية في حركة مجلة "الشعر" هو ما يفسر انه قدم مجموعة جبرا ابراهيم جبرا "عرق وقصص اخرى" بدراسة نقدية طويلة حملت عنوان "عبر الارض البوار"، واعتبرها جبرا "أبرع دراسة ظهرت في جيلنا الأدبي" اي جيل الحركة الطليعية الحداثية المتبلورة حول مجلات "شعر" و"أدب" و"حوار" والاخيرة كان صايغ رئيساً لتحريرها. ومن هنا ادرج صايغ كثيراً من المفردات "العامية القحة" في النسيج اللغوي الشعري الذي قام على صور مبتكرة مفاجئة. لكن صايغ كان فوق ذلك، وهو ما يجب ان نعرفه بعد ثلاثين عاماً على وفاته، واحداً من الرواد الكبار في التجربة المسيحية للشعر العربي الحديث. وكان العهد القديم عموماً والانجيل خصوصاً من اهم ينابيعه الشعرية. ولعل الصورة الاسطورية الكلية الكبرى التي اختبرها صايغ وستبقى مرتبطة به كانت صورة "الكركدن". في قصيدته "بضعة اسئلة لأطرحها على الكركدن" 1963 والتي شكلت جزءاً من مجموعته "معلقة توفيق صايغ" التي نشرها صايغ في العام 1963. كانت قصيدة "الكركدن" ذروة انتاج صايغ الى درجة انه لم يكتب بعدها الا عدداً محدوداً من القصائد نشرها بين "شعر" و"حوار". في قصيدة "الكركدن" يرسم/ يخلق الشاعر اسطورته الشخصية الفريدة، مازجاً ما بين اسطورة الكركدن الغربية واسطورة المسيح الشرقية، اذ يغدو الكركدن الذي هو حيوان جميل ذو قرن واحد تحسده وجوش الغابة هنا مسيحاً يسعى نحو عذرائه العفيفة، وسط المطاردة وأفخاخ الصيادين. وما ان يعثر على "مريمه" حتى يرتمي في حضنها، فيمسك به الصيادون ويقتلونه. يحول صايغ هنا الرمز "المريمي" "العذراوي"، الذي يجعله الصيادون "طعماً" أو "فخاً" له. ويبدو كمن يدافع عن "عذرائه" إزاء سهام الصيادين والمطاردين: رأيت/ السهام المصوبة والخوذ/ وكانت تتساقط قدماً امامك/ من تلقاء ذاتها/ ونظرت الى الحبيبة المخاتلة/ الى المخلصة القاتلة... طعنة ارادتك/ فأحجمت/ فكنت الطعين/ ولم تقاتل ولم تنتفض/ بقبلة سلمتك وبدمعة/ ولم تسفك دم صياد/ امام رحمها/ وأمام رحمها الحريز/ سفكت دماك. يشير هذا المقطع في إطار الرؤيا العامة للقصيدة، الى مدى تحويل صايغ للتجربة المسيحية - الوجودية الى تجربة كيانية شخصية. فوحوش او صيادو الغابة ليسوا الا "الانسان الجمهور" بلغة غابرييل مارسيل تجاه "الشخص" الذي يختلف مفهومه عن "الفرد". الشخص مقولة نوعية فريدة في حين ان الفرد مقولة كمية معممة. وقد عبّر صايغ عن هذه التجربة بلغة شعرية تلقائية، تعددت المواقف منها، اذ ان هذه اللغة تلقائية، ومحررة من نمط الصورة البلاغية والانزياحية في آن واحد، الى الصورة الشعرية التي وصفت يوماً بأنها صورة "الحياة". ويقصد بالحياة هنا التاريخ الشخصي للشاعر وقد كوّن اسطورته. فليس "الكركدن تبعاً لذلك الا اسطورة الأنا الشعرية الثاوية في أعماق الشاعر. ولم يكن بحث صايغ عن تاريخ اسطوري شعري شخصي لأناه الشعرية بعيداً عما لحظه في "رباعيات" إليوت من تاريخ شخصي. بل ان صايغ ابدى اهتماماً فريداً بالأدب الشخصي، وهو ما يتضح من خلال اهتمامه الكبير بجيران. والأدب الشخصي هنا هو كل ما يتعلق بالرسائل والمذكرات والخواطر واليوميات. بل حرص صايغ على ان يدوّن خواطره ويومياته في سياق هذا الفهم للأدب الشخصي. ان صورة "الكركدن" الاسطورية الشهيرة، تتكرر لديه في صورة "كوريولانس" الذي تنفيه الجموع او الانسان - الجمهور، وهي ايضاً صورة النبي دانيال الذي يرميه الفارسي الجائر في "جب الأسود". ففي ديوان "ثلاثون قصيدة" يجتاف صايغ صورة النبي دانيال ويسقط ذاته عليها فيكتب: وقلت: "أمامك بعد/ جب الأسود". قضية "حوار" كان صايغ رئيساً لتحرير مجلة "حوار" التي تساعدها "المنظمة العالمية لحرية الثقافة". وقد مثلت المنظمة نوعاً متميزاً من المنظمات الليبرالية العالمية وضمت في عضويتها عدداً من اكبر وأهم المثقفين اليساريين المعادين للشيوعية السوفياتية. ومن هنا كانت المنظمة خاضعة لاستقطابات الحرب الباردة التي لا تعرف الرحمة. وبدأت "القضية" بمقال كتبه لويس عوض في العام 1966 طالب فيه وزير الثقافة المصري عبدالقادر حاتم "بمنع دخول مجلة "أنكاونتر" ومجلة "حوار" وأية مطبوعات تصدر عن هذه - المنظمة العالمية لحرية الثقافة - الى العالم العربي". وكانت هذه المجلات من أرفع المجلات الثقافية الليبرالية، وكان على رأس تحرير "أنكاونتر" الشاعر الانكليزي الكبير ستيفن سبندر الذي كان صديقاً للمحيط الحداثي الليبرالي المتمحور شعرياً حول مجلة "شعر". واستند عوض في اتهامه الى مقال نشرته "نيويورك تايمز" وأشارت فيه الى ان "الوكالة المركزية للاستخبارات أعانت جماعات... او منظمات من المثقفين معادية للشيوعية، ولكنها ليبرالية، اي حرة النزعة، ومنها المنظمة العالمية لحرية الثقافة وبعض ما يصدر عنها من صحب ومجلات". وهكذا بدأت الحملة وأخذت شكل مطالبة للصايغ بأن يستقيل من المجلة، لأن الاستمرار فيها يعني انه "عميل" للاستخبارات الاميركية. وتحت وطأة هذه الحملة اضطر يوسف ادريس الى رفض جائزة مجلة "الحوار"، لكنه كما تقول انباء منسوبة الى اصدقاء صايغ اخذها سراً وقد يكون السبب بسيطاً وهو ان ادريس الذي يثق ببراءة صايغ وأخلاقيته تخوّف من الطغيان الذي لا تمكن مقاومته. غير انه بقي متشبثاً باحترامه للمجلة، وكان مستعداً منذ ذلك الوقت الى ان يقال عنه ذلك. لكن الدعائية المصرية استطاعت ان تتحرك من خلال اسم لويس عوض الذي ليس له الا علاقة ضعيفة مع النظام الناصري، في حين يُفترض ان له علاقة ثقافية اكبر مع "حوار" لكنه اختار ضمن ركوب الديماغوجيا ان يكون رأس الحربة ضد "حوار"، متجاهلاً الحقيقة التي يعرفها جيداً وهي ان صايغ بريء تماماً من هذا الاتهام الذي حوّله الى "قنبلة". لا ريب ان عدداً من ابرز مثقفي المرحلة انخرطوا في الدفاع عن "حوار" وعن صايغ. وكن بينهم جورج كينان وروبرت اوبنهايمر وآرثر شليزنغر وبيرغر وغيرهم. اما صايغ الذي كانت الحدود بين براءته الشخصية وبراءته الشعرية ضيقة للغاية، فأجاب: "لو انني احسست بأن هناك اي صدق في التهمة الموجهة بأن مجلتي مرتبطة بأي طريقة بالوكالة المركزية للاستخبارات لكنت حسمت الموقف حتى قبل ان يتصرف المصريون". وقال صايغ: "إن اي قارئ ذكي، والمصريون اذكياء، يستطيع ان يرى من محتويات المجلة ان ربطها بأي جهاز من اجهزة الاستخبارات الاجنبية امر غير ممكن". غير ان السُعار وصل الى حد اتهام صايغ ب"العمالة". وكان الصايغ بالتأكيد ليبرالياً تاماً مؤمناً بأهداف المنظمة، بغض النظر عن خدمة هذه الاهداف موضوعياً او نهائياً للولايات المتحدة. الا انه لم يكن قط على اية علاقة بتلك الاجهزة، او على اية معرفة بنوع العلاقة "المكتومة" او غير المباشرة ما بين تلك الاجهزة والمنظمة. وهو لم يكن في هذه المجلة الا لأنه ليبرالي حداثي يؤمن بحرية الابداع والتفكير وخيال الانسان الطليق، وليس لأي اعتبار آخر. فضلاً عن ان اتهامات "نيويورك تايمز" لم تكن ثابتة. ولا ريب ان "نيويورك تايمز" صححت بعض ما ذكرته، وكانت قالت اساساً ان الاعانات غير مباشرة. لكن الدوائر الاعلامية القومية واليسارية واليمينية العربية على حد سواء لم تفسر ذلك الا بأن صايغ "عميل" للاستخبارات الاميركية. وبذلك لم تعد المشكلة تستهدف "حوار" بمقدار ما اخذت تستهدف صايغ وفريق المجلة الذي لا يوجد اي لبس في استقلالهم، بل وفي وطنيتهم ايضاً ومنهم رياض الريس الذي كان سكرتيراً لتحرير "حوار" وبدلاً من ان تقرأ التهمة في ضوء ما تنشره المجلة، الأمر الذي ينفيها حتماً، فإنها قرئت في ضوء حملة اوردتها "نيويورك تايمز". وكانت "حوار" هنا هي القضية الثانية الكبرى بعد قضية "شعر". وقد تكون هناك اعانات غير مباشرة بين وكالة الاستخبارات الاميركية والمنظمة العالمية لحرية الثقافة، وربما تكون هذه الاعانات فعلية. الا انه من كان يضع سياسة المجلة هو صايغ. وعلى رغم اننا نحن الذين تربينا في حضن الحركة الحديثة ووعودها ورهاناتها وقدرتها على نفي ذاتها في إطار حرية الابداع، لم نبذل جهداً كافياً في إعادة قراءة تلك القضية في شكل مهني او حرفي. فإن صايغ الذي رأى على كل مشارف حياته "جب الأسود" بانتظاره، كان اشبه ب"دريفوس" الحركة الثقافية الشعرية العربية الحديثة. وإذا كانت الحياة تقلد الفن وفق تعبير اوسكار وايلد فإن محنة صايغ كانت تقلد محنة "الكركدن" في قصيدته الغريبة وتستعيدها حياتياً في تجربة الغريب الكامل، المسكون ابداً بالمصير الفاجع، وكان صايغ يواجهه في كل لحظة من لحظات تجربته، حياة وابداعاً... وختاماً لا بد من القول: تعالوا نعيد قراءة توفيق صايغ.