التفت إليّ الجندي الأميركي وسألني ببساطة: "هل تجيدين استعمال بندقية إم 16 في حال أصبت"؟ ظلام دامس في بغداد. الطرقات مهجورة. عدد قليل من الجنود الاميركيين يحرسون الحواجز الكثيرة المبعثرة في المدينة. علامات القلق واضحة على وجوههم. نحن في طريق العودة إلى "معسكر النصر" كامب فيكتوري: وهو الاسم الذي أطلق على قصر "الرضوانية" الرئاسي لصدام بعدما تم تحويله إلى قاعدة أميركية موقتة. ما إن دخلنا نطاق الدائرة الحمراء، التي باتت معروفة ب"درب القناصة"، حتى داس السائق في شدة على دواسة الوقود في السيارة البيضاء ذات الدفع الرباعي. فهذه الأميال الستة، مسافة الطريق المؤدية إلى بوابة القصر، شهدت أخيراً هجمات عدة ضد الجنود الأميركيين. بين الاشخاص السبعة في السيارة، أنا المرأة الوحيدة والأكثر توتراً. وقعت يدي على سترة واقية على المقعد بجانبي، فدفنت رأسي فيها وصليت لكي نعود سالمين. بدأت أغرق في الخوف من التعرض للقناصة أو لكمين من المقاتلين المزودين راجمات للقنابل اليدوية المختبئين بين الأشجار. جلس امامي ثلاثة جنود أميركيين كانوا يرافقوننا لمزيد من الحراسة. كل واحد منهم يحمل بندقية اخرجت من شباك السيارة استعداداً للتصدي لهجوم محتمل. فالتجول في سيارة تحمل علامات واضحة على أنها مخصصة فقط لاستعمال العسكريين الأميركيين في العراق، جعلنا هدفاً متحركاً. كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلاً، موعد بدء نظام منع التجول في بغداد. من حديث الجنود، فهمت أن هذا هو أخطر توقيت للظهور في شوارع المدينة. لم يمض على وجودي في بغداد سوى ساعات قليلة لأجد نفسي في وضع أكثر إثارة مما توقعت أو منّيت نفسي برؤيته. كنت أدرك أن السفر إلى بغداد ينطوي على بعض المخاطر، لكن مرافقة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد إلى "مسرح العمليات"، كما يسميها البنتاغون، كانت تجربة مهنية لا تُفوّت. لكنني أسأت تقدير حجم الخطر الذي تنطوي عليه هذه المهمة. تلك الليلة نجحنا في الوصول سالمين إلى معسكر النصر. فغمرني شعور بالارتياح عندما التحقت ببقية أعضاء البعثة الصحافية المرافقة لرامسفيلد، المؤلفة من احد عشر صحافياً أميركياً، إضافة إليّ أنا، الصحافية الأجنبية الوحيدة. أقمنا في واحد من أجنحة الضيافة ذات الأرضيات الرخامية المحيطة بقصر صدام السابق، المشرف على بركة مياه معروفة ب"ذراع دجلة". في عصر صدام، كانت بيوت الضيافة هذه، المبنية من حجارة رملية اللون، تُستخدم من جانب الحاشية القريبة من الزعيم السابق لحزب البعث العراقي. أما الآن فيشغلها المئات من الجنود الشباب، وهم في غالبيتهم أميركيون. امام احد هذه البيوت، التي باتت معروفة باسم "نزل الأستراليين"، علق في الساحة بلا حياء غسيل المقيمين من الجنود الأستراليين. عدد قليل من بيوت الضيافة هذه تعرّض للقصف على ما يبدو، وقد بدأت عمليات الترميم لبعضها. في الضفة الاخرى للبركة يقع قصر صدام الذي لم يتعرض للقصف خلال الحرب. عند مدخل للقصر، أوقف عدد من الدبابات، فيما كان الجنود بلباسهم الصحراوي يتنقلون باستمتاع من جهة إلى أخرى داخل المعكسر. تركني هذا المشهد العبثي كالمشدوهة. فمن كان ليتصور هذا الأمر قبل عام فقط؟ في اليوم التالي، عدنا إلى معسكر النصر قبل غياب الشمس بوقت قليل، وبعد قضاء ساعات طويلة في السفر بطائرات الهليكوبتر التي اقلتنا من بغداد إلى الموصل، مروراً بتكريت. تنبهت إلى أنه ينبغي أن أعود إلى مكاتب "الحياة/ إل بي سي" في فندق فلسطين وسط بغداد، لأسجل تقاريري الصحافية. لم يبق سوى ساعة على الموعد النهائي لتسليم التقارير الى الصحيفة وارسالها الى المحطة. فغادرت المعسكر على عجل من دون أن أبلغ أحداً بالأمر. تطوع علاء، وهو شاب أميركي من أصل عربي يعمل لحساب وزارة الدفاع الأميركية، لنقلي بسيارته. لم تظهر عليه علامات الخوف وظل محافظاً على هدوئه، وهو يسير بسرعة في المنطقة الحمراء، منطقة الخطر، وبيده مسدس. بدت علي علامات الاستغراب وهو يقود السيارة بخط متعرج فوق أحد الجسور. فأوضح لي قائلاً، وكأنه قرأ أفكاري: "أسير على هذا النحو لإرباك أي شخص يحاول إلقاء قنبلة يدوية على السيارة من تحت الجسر". لدى وصولنا إلى مدخل فندق فلسطين، أخضعت سيارتنا لتفتيش دقيق على الحاجز. بعض الشباب العراقيين كانوا يمدون يد العون باندفاع إلى الجنود الأميركيين المتوترين. كل حاجز أمرّ به يجعل أعصابي متوترة قليلاً. أما العراقيون الذين شاهدتهم يترجلون من سياراتهم ويصعدون إليها ثانية فبدوا منزعجين، لكن غير قلقين، من هذا الإجراء الذي أصبح في ظل الاحتلال روتيناً مملاً بالنسبة اليهم. داخل الفندق الذي اشتهر خلال الحرب كمقر لوسائل الإعلام العالمية في العراق، عبرت في قاعة المؤتمرات المهجورة، فلم اجد اي أثر للمنصة التي كان وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف يقف وراءها يومياً، ليبلغ العالم كيف ان العراق سيصبح "مقبرة للغزاة الأميركيين". وبين تصوير مقطع حي وتحرير اللقاء التلفزيوني الذي أجريته قبل قليل مع رامسفيلد، حاولت الاتصال عبثاً بعلاء كونه وسيلتي الوحيدة للعودة إلى معسكر النصر. لكنه لم يعد يرد على هاتفه النقال. عند الساعة العاشرة والنصف، ومع اقتراب موعد بدء منع التجول، بدأت استسلم تدريجاً لفكرة قضاء الليلة في هذا الفندق والعودة الى معسكر النصر، عند الفجر. اهتم بالأمر عباس، مدير مكتب المحطة في بغداد، وهو عراقي لطيف ومضياف، فسلمني مفاتيح الغرفة الرقم 1528 الكائنة في الطابق الذي تعرض للقصف الأميركي أثناء الحرب، مبدياً قلقه على حاجتي إلى النوم ولو قليلاً. في الخامسة والنصف صباحاً كنت في بهو الفندق بعد أن تمكنت من النوم لمدة تقل عن ساعتين. كان قد عرض علي أحد المصورين في فريقنا التلفزيوني أن يوصلني بسيارته إلى مدخل القصر. بدت بغداد هادئة مستكينة هذا الصباح، والهواء منعشاً. تقدمنا من الحاجز على الطريق المؤدي إلى معسكر النصر، ولم أسمع بعد أي شيء من علاء. كنت آمل أن يكون تسلّم رسائلي الصوتية كي يحضر للقائي عند الحاجز من اجل تسهيل دخولي الى المعسكر. لكن ما ان اقتربنا من الحاجز حتى طلب منا أحد الجنود الأميركيين أن نقف إلى يسار الطريق. كان علينا أن ننتظر عشرين دقيقة اضافية حتى ينتهي موعد حظر التجول الليلي. فبدأت أشعر بالقلق، اذ ان موعد مغادرة رامسفيلد والوفد المرافق له معسكر النصر كان السادسة والنصف صباحاً. وفيما كنت أحاول الاتصال بعلاء مرة أخرى، طلب مني جندي كان ماراً بقربي أن أغلق هاتفي النقال حالاً. فهمت لاحقاً أن موجات الهاتف الذي يعمل بالأقمار الاصطناعية كفيلة بتفجير قنبلة موقوتة. فجأة تحول قلقي إلى ضعف، بعد فقدان أي اتصال مع العالم الخارجي. ما إن انتهى نظام منع التجول بدأت السيارات والشاحنات التحرك ببطء نحو الحاجز، ومع هذه الحركة بدا التوتر يملأ الجو. حاولت أن أشرح وضعي لأي جندي مستعد أن يسمع، لكن أحداً منهم لم يكن على استعداد للسماح لي بالدخول إلى المعسكر. تجاهلوا حتى الرسالة الصادرة عن البنتاغون التي أبرزتها كإثبات لهويتي. اغرورقت عيناي بالدموع وأنا جالسة داخل السيارة عاجزة كلياً عن فعل أي شيء. نظرت إلى العراقيين الذين يجرى تفتيشهم تحت السلاح، وتساءلت كيف يمكن ان يكون شعورهم وهم يخضعون لهذا التفتيش يومياً، من جانب قوات اجنبية، في وطنهم. للمرة الأولى، شعرت ماذا يعني العيش في ظل الاحتلال. فجأة اقترب مني حارس أمن طويل القامة يتدلى من وسطه مسدس. شعرت بالارتياح لوهلة قصيرة، إلى أن سمعت نبرة صوته التهديدية التي تناسب ذلك البرود الواضح في عينيه الزرقاوين. تحاملت على نفسي وأنا أرد على أسئلته الدقيقة، ثم طلب مني أن أصعد إلى سيارته العسكرية قائلاً: "سأنقلك إلى المعسكر، لكن اعلمي أنك إذا تسببت في أي مشكلة سيتم اعتقالك". أصبت بحال من الفزع وفكرت في الخروج من سيارة "الهامفي" العسكرية، لكن عندما استدرت لأبحث يائسة عن مصورنا التلفزيوني أدركت أنه لا بديل أمامي سوى قبول هذا العرض. شعرت بالإهانة والأكثر من ذلك، بخوف شديد. عندما وصلت، أخيراً، الى المعسكر شعرت بأنني أخضع للمراقبة في كل حركة تصدر عني. إذ اعتُبِرَتْ رحلتي إلى خارج المعسكر أمراً مشكوكاً فيه. وكلف حارس مسلح مراقبتي عن قرب، في حين تم تفتيش حقيبتي اليدوية تفتيشاً دقيقاً. متلهفة، دخلت الجناح الذي اقمنا فيه في احد بيوت الضيافة، لكنني لم اجد احداً من اعضاء الوفد المرافق لوزير الدفاع الاميركي.ابلِغت انهم غادروا المعسكر، قبل حوالى نصف الساعة. أخيراً شعرت براحة كبيرة عندما تمكنت من الالتحاق بهم في مطار بغداد الدولي. وتم إبلاغي أن سيارة علاء تعرضت لإطلاق النار في الليلة الماضية، وهو عائد الى معسكر النصر، في "درب القناصة".