لم تكن أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر حدثا عاديا في تاريخ العلاقات الدولية، إذ أدت إلى تغيير وجه العالم ونمط التفاعلات بين مفرداته وشكل المنظمات الدولية. وأصبح معهودا الآن بين المحللين السياسيين الحديث عن عالمين مختلفين: عالم ما قبل وعالم ما بعد أحداث الحادى عشر من ايلول وهذا يؤكد مدى التأثير الذي أحدثته تلك الأحداث . بالطبع ليس لهذه الأهمية الخاصة التى حظيت بها تلك الأحداث علاقة جوهرية بتعداد الضحايا الذين خلفتهم تلك الأحداث . فأضعاف أضعاف هؤلاء الضحايا سقطوا جراء استخدام الولاياتالمتحدة نفسها للسلاح النووي للمرة الأولى والأخيرة حتى الآن في الحرب العالمية الثانية. ومات آلاف من العراقيين بسبب الحصار الجائر الذي فرضته الولاياتالمتحدة أيضا وحليفتها بريطانيا على العراق لمدة تزيد على العهي من الزمان بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 . لهي كانت أحداث الحادى عشر من ايلول سبتمبر هائلة التأثير بالنظر إلى أنها - استهدفت أقوى قوة في العالم، وهي القوة التى كانت متحفزة إلى فكر الإمبراطورية. وقدمت لها هذه الأحداث الفرصة لتحقيق حلم زعامة العالم بشكل منفرد، وهو الحلم الذي تأخر أكثر من خمسة عقود من الزمان، حين أرادت الولاياتالمتحدة باستخدامها للسلاح النووي في اليابان - وهي في غير حاجة إلىه، إذ كانت الحرب تضع أوزارها بالفعل، بنصر كاسح للحلفاء - أن تقود العالم وقتها ولكن صعود الاتحاد السوفياتي كقطب ثان في العلاقات الدولية اجل هذا الحلم، الذي أصبح بالتالي من الممكن تنفيذه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك ما كان يعرف بالمعسكر الشيوعي. اذاً فأحداث 11 سبتمبر أخرجت البعبع الأميركي من مكامنه لتحقيق حلمه بريادة وتزعم العالم. اذ أفرزت تحولات استراتيجية في السياسة الخارجية الأميركية ، إذ دعمت هذه الأحداث التوجه الأميركي الساعي إلى الهيمنة على العالم، وأدت إلى بعث التطرف اليميني للحزب الجمهوري الحاكم في الولاياتالمتحدة، تحت يعرف بحزب الإمبراطورية الأميركية المكون من اليمين المحافظ بفكره المتطرف تجاه الآخر. وكان النجاح الأميركي السريع في القضاء على حركة "طالبان" دافعا قويا لتنيشط فكرة الاعتماد على مبدأ الحرب الوقائية لضمان الأمن القومي الأميركي وعدم تكرار ما حدث في 11 سبتمبر، وأفرز سقوط "طالبان" تمركزاً أميركياً كثيفاً في منطقة آسيا الوسطى، هذه المنطقة شديدة الأهمية من العالم. ثم جاءت الحملة الأميركية المحمومة لشن حرب ضد العراق، باعتبارها استهلالاً لما أسمته الإدارة الأميركية المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب. وكان واضحاً أن هذه الحملة لا علاقة لها في واقع الأمر بمكافحة الإرهاب، إذ لم يثبت تورط العراق في أحداث 11 سبتمبر على رغم المساعي الأميركية المحمومة لخلق مثل هذه العلاقة. ومن ثم ، فقد كانت هناك شكوك قوية منذ البداية حول الأهداف الحقيقية لهذه الحملة . ومن هنا جاءت معارضة القوى الأساسية في الاتحاد الأوروبي لهذا السلوك الأميركي، الهادف إلى قلب موازين العلاقات الدولية في اتجاه القطب الواحد. وتأكدت هذه الشكوك يوماً بعد يوم وأصبحت الآن جلية بوهم حيازة العراق لأسلحة دمار شامل. وكان الحلم الأميركي بقيادة العالم تبدى في الخطاب الذي ألقاه جورج بوش الأب بمناسبة يوم الاتحاد عام 1991 حين تحدث إلى الشعب الأميركي والعالم مبشراً بقيام ما أسماه بالنظام العالمي الجديد الذي يقوم على التعاون والسلام والاستناد إلى العدالة وأحكام القانون الدولي والشرعية الدولية في ظل قيادة الولاياتالمتحدة للعالم بوصفها القوة العظمى الوحيدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ولتحقيق هذا النظام العالمي الجديد، حاولت واشنطن لعب دور الشرطي الدولي لتكريس نفوذها تحت ما سمي عهد الشرعية الدولية، إذ تدخلت واشنطن في اكثر من منطقة من العالم لتثبيت النفوذ الأميركي فيها. وعلى رغم الرواج الشديد الذي لاقته فكرة النظام العالمي الجديد والشرعية الدولية، إلا أن الرئيس جورج بوش الأب أنهى حكمه من دون أن يبين أن ثمة اتجاهاً حقيقياً لوضع هذه المبادئ التي أعلن عنها موضع التطبيق الفعلي. وفي الوقت الذي كانت تريد فيه الولاياتالمتحدة أن تقبض على موازين القوى منفردة، كانت أو ظلت هناك قوى أخرى مهمة على الصعيد الدولي. وفي ظل تردد إدارة كلينتون ومراوحتها بين الالتزام بالشرعية الدولية وتحقيق حلم السيطرة، تجمدت الأمور موقتا عن مستقبل غامض للعلاقات الدولية. ومع مجيء بوش الابن إلى البيت الأبيض بدا أن الاتجاه العام للسياسة الخارجية الأميركية في عهده سيميل إلى تكريس بسط الهيمنة الأميركية على العالم، من خلال دبلوماسية القوة السافرة التي لا تتخفى في أي قفاز حريري. وكانت الحرب التى قادتها الولاياتالمتحدة ضد العراق بمثابة التكريس الرسمي لحلم الإمبراطورية الأميركية، إذ قادت الولاياتالمتحدة تلك الحرب من دون أي اعتبار لعامل الشرعية الدولية وبرغم معارضة الجميع، ما عدا عدد ضئيل من الدول تحالف معها. وليست الحرب الأميركية على العراق البداية، إذن، اذ أعلنت واشنطن صراحة عن هدفها بإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، تحت شعار مقرطة النظم السياسية ، ولكن الهدف الخفي هو بسط النفوذ الأميركي في تلك المنطقة . ويمكن القول إن النظام الدولي ربما يسير خلال المرحلة المقبلة نحو المزيد من الصراع. ومن النتائج المحتملة لهذا الصراع أن تقوم الولاياتالمتحدة وفي إطار رغبتها المحمومة لأن تكون القطب الواحد بتغيير نظام الأممالمتحدة نفسه حتى لا يكون هناك من يعارض منحها الشرعية باستخدام حق "الفيتو". ومعنى كل ذلك أن النظام الدولي ربما يبدو الآن على أعتاب مرحلة جديدة من الفوضى في العلاقات القائمة بين وحداته ، وليس من المستبعد أن تولد هذه الفوضى حرباً باردة جديدة ربما تكون أشد قسوة من الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. في هذا السياق ربما يمكن القول إن تفجير مقر الأممالمتحدة في العراق يؤكد في أحد جوانبه نوعاً من عدم الرضا على المنظمة الدولية التى تريد واشنطن تسخيرها لكسب الشرعية لمخططاتها للهيمنة على مقدرات العالم . ولكن السؤال الذي يظل مطروحاً في ضوء خبرة ما يحدث في العراق الآن مفاده: هل تستطيع الولاياتالمتحدة فعلاً فرض مخططاتها التي بدأت من العراق؟ إن المقاومة الشرسة التى تواجهها القوات الأميركية في العراق هناك ، وتدهور حال الدولة العراقية يشكك في مدى نجاح المشروع الأميركي في العراق وبالتالي سيؤثر على مخطط الولاياتالمتحدة المطروح للشرق الأوسط. ولقد أدركت واشنطن بخبرتها في العراق أنه ليس من السهل علىها تنفيذ تصورات صقور الإدارة الحاكمة بإعادة فك وتركيب الشرق الاوسط وفقا للتصور الأميركي. وفي تقديري أن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة ستحدد إلى مدى كبير هل تستمر واشنطن في سياساتها الحالية المندفعة نحو الإمبراطورية أم لا. في هذا السياق يمكن القول إن إعادة انتخاب بوش الابن، ترجح على حد بعيد استمرار هذا النمط الحالي من السياسة الأميركية، لان إعادة انتخاب بوش ستمنح سياسات الإدارة الحالية صك الشرعية على سياساتها الحالية، وبعبارة أخرى، ستكون تلك الانتخابات بمثابة استفتاء على النمط الراهن من السياسة الخارجية الأميركية. ومن المؤكد أن إعادة انتخاب بوش الابنعلى هذا النحو، بمعنى استمرار نمط النزوع نحو الهيمنة الدولية، ستؤدي إلى إحداث الفوضى الدولية التى سبق أن أشرنا إليها سلفاً. والأخطر، هو ما يمكن أن تنطوي علىه تلك الفوضى من تفجير الصراع بين الحضارات على نحم ما قال به هنتنغتون، فالولاياتالمتحدة وتحت حكم الإدارة الحالية يبدو أنها تقسم العالم إلى قسمين مختلفين ، العالم المتحضر والعالم المتخلف الآخر الذي يجب تغييره بالقوة، من دون اعتبار لقيمة الخصوصيات الثقافية والحضارية. * عضو مجلس الشعب المصري سابقاً، أستاذة علوم سياسية في الجامعة الاميركية في القاهرة.