الفارق بين الإحياء والتجديد واضح في اللغة. فالإحياء هو إعادة الشأن إلى ما كان عليه. أما التجديد فيحمل دلالة مختلفة لأنه يعني الاختلاف والتطور إلى الأفضل وادخال عنصر الحداثة بحيث يصبح الفكر عصرياً والتطبيق واقعياً. من هنا فإننا عندما نتحدث عن الفكر العربي من الإحياء إلى التجديد فإننا نرصد أهمية النقلة النوعية وليس مجرد التغيير الكمي، لأن الإحياء قد يكون هو مجرد بعث التراث وايقاظ الأفكار ذاتها ولا يعني بالضرورة الخروج عن دائرة الجمود والاتجاه نحو التطور. وعندما يتعلق الامر بالفكر العربي فإننا أمام توجهات جديدة يحسن أن نتعرض لها في النقاط التالية: أولا: إن للفكر العربي معنى واسعاً لا يقف عند الحدود الضيقة للتراث العقلي والنقلي للحضارة العربية الإسلامية وحدها ولكنه يتجاوز ذلك إلى عمليات التأثير والتأثر المتبادلة بينها وبين الحضارات الأخرى والثقافات المختلفة. فالفكر العربي الذي نقصده هو ذلك الفكر المتفتح الذي يتواصل مع الغير ويدرك شخصية الآخر ويتفاعل مع العالم في كل العصور أما الفكر المغلق المتزمت فلا سبيل إلى تجديده ولا مبرر لإحيائه. ثانياً: إن للفكر العربي معنيين مختلفين، فقد يرى البعض أنه يحمل الإشارة الى تاريخ الأفكار المتربطة بالحركة القومية وأدبيات الوحدة العربية ومفردات الأسس النظرية التي تقوم عليها الشخصية القومية للمواطن العربي المعاصر، بينما يراه البعض الآخر أنه ذلك الذي يتصل بالتراث الثقافي والتراكم الحضاري في المنطقة العربية ماضيها وحاضرها بل وربما استشراف مستقبلها أيضاً، إننا ندرك أهمية هذا المفهوم الواسع عندما نتحدث عن الفكر العربي ونرى فيه روافد من السياسة والاقتصاد والادب والفن والعلم والتكنولوجيا وكل فروع المعرفة التي تنطلق من الفكر العربي السوي وتصب فيه عبر دورة انسانية تعرفها الحضارات وتدركها الثقافات. ونحن نظن على الجانب الآخر أن الإشارة الى الفكر القومي تحديداً أمر مختلف إذ يحتل ذلك النوع من الفكر مكانة ذات خصوصية متميزة رغم كل النكبات النكسات والكوارث التي مر بها العرب منذ بداية القرن الماضي. ثالثاً: إن الفكر العربي القومي الذي نميزه عن الفكر العربي عموماً ولد في أحضان الشام الكبير عندما انطلقت الفكرة القومية العربية من الرواد الأوائل في بلادهم أو في المهجر، بل لقد أسهم المسيحيون العرب بدور كبير في بلورة ذلك الفكر القومي وتأكيد وجوده، وتلك علامة صحية في تاريخنا إلا أننا لم نحسن استثمارها والبناء عليها ودخلنا بعد ذلك في سراديب ضيقة من الخصوصية القطرية والدهاليز المظلمة للتبعية مع غياب الرؤية وجزئية النظرة. رابعاً: ان الفكر العربي القومي في أكبر الدول العربية، وهي مصر لم يكن موضع رعاية كافية حتى نهايات النصف الاول من القرن العشرين بل نظر اليه كتاب التغريب المصريين ومفكروه نظرة دونية إذ تطلعت أبصارهم عبر البحر المتوسط الى دول جنوب أوروبا وحاولوا ربط الثقافة المصرية بثقافات اليونان والرومان على حساب التأثير العربي في مصر الإسلامية. ولعل كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين هو خير شاهد على ذلك، كما أن أسماء مثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم كانت تتحرك كلها في إطار الخصوصية المصرية ولا تعير اهتماماً يذكر للفضاء العربي الذي تحتل مصر قلبه رغم انهم كانوا يكتبون بالعربية وينهلون من تراثها الثري وبحورها الواسعة، ولم تتعرف مصر على هويتها العربية من منظور سياسي إلا بعد ثورة تموز يوليو 1952 ووصول قيادة عبد الناصر القومية الى الحكم. خامساً: لعبت قضية الحريات والمشاركة السياسية والديموقراطية الغربية دوراً فاعلاً في تعطيل مسيرة العمل العربي المشترك لعقود عدة مضت فالتخلف السياسي وغيبة الديموقراطية وضعف المشاركة السياسية وخنق الحريات أسهمت كلها في تحويل الفكرة القومية الى مظاهر سطحية لا ترتبط بطموحات الشارع العربي وغاياته حيث الانظمة تفعل ما تريد والشعوب تقول ما تشاء! بينما الاصل في الفكرة القومية ضرورة تعبيرها عن روح المواطن العادي بحيث تجسد مصالحه وتعبر عن آماله وتفتح ابواب المستقبل امامه. سادساً: ان الفكر القومي العربي واجه مأزقاً حقيقياً كاد يحكم عليه بالعزلة ويحيله الى اطار نظري جاف لا يلبي مطالب الجماهير ولا يستجيب لروح العصر، وقد اسهمتُ شخصياً في محاولة متواضعة للخروج من هذا المأزق بإصدار كتابي "تجديد الفكر القومي" منذ أكثر من عشر سنوات، حاولت ان اقول فيه إن الفكر القومي لا يعبر عن قوالب جامدة أو أفكار محنطة او شعارات صماء، ولكنه تعبير عن المصلحة العربية المشتركة، لذلك فهو لا ينكر الخصوصية القطرية كما يحترم الاقليات العرقية والدينية ويركز على الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ولا يظل حكراً على الجوانب السياسية وحدها. فالشعوب لا تعيش بالشعارات والامم لا تقتات بالخطب الرنانة ولكنها تحتاج الى من يدير بكفاءة مصالحها لا من يخاب في انفعال عواطفها. كذلك اشرت في كتابي سالف الذكر بوضوح الى أهمية استيعاب الفكر القومي المتجدد للتطورات كافة التي استجدت على الساحتين الدولية والاقليمية، فالتطور سُنة الحياة والتغيير جزء من فلسفة الوجود. سابعاً: إنني أقرر هنا اننا امام موقف مختلف أفرزته الاحداث الدامية - خصوصاً في العامين الاخيرين - فوق الارض الفلسطينية وفي العراق بعد احتلاله. ولعلي أجازف بأننا امام حالة من سقوط الحياء القومي وغياب الروح العربية إذ تعودت النظم وربما الشعوب ايضاً على حال الإحباط الدائم والفشل المستمر والقهر المتواصل رغم نزيف الدم الذي تدفعه المقاومة الفلسطينية الباسلة ضد الاحتلال والارواح التي تزهق في ارض الرافدين عبر المواجهة بين الوجود الاجنبي والشعب العراقي الذي خرج من قبضة الديكتاتور ليدخل تحت سطوة الاحتلال. ثامناً: إن المقارنة بين الفكر القومي العربي الذي عشنا نتحدث عنه ونسعى الآن الى تجديده يختلف بالضرورة عن الفكر المقابل لدى قوميات أخرى مثل تلك التي استعادت وجودها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق والانظمة الشيوعية في دول ما كان يسمى بالكتلة الشرقية عندما كان غطاء الايديولوجية الماركسية يخفي تحته القوميات الحبيسة والمشاعر المكتومة والروح الخامدة، فالفكرة القومية في تلك الدول اعيد ميلادها على انقاض الكيانات الكبيرة اما القومية العربية فهي تسعى في اتجاه عكسي لأنها تتجه الى وحدة الكيان وجمع الشتات وتوحيد الأمة. تاسعاً: إن الهوة بين القومية والقطرية تتسع في عالمنا العربي فلكل دولة عربية اتصالاتها الاجنبية واجندتها الخارجية يندفع بعضها في ويحجم بعضها عن اتجاه آخر، فالتنسيق العربي غائب في مجمله فضلاً عن التكامل رغم أهميته، ونحن نظن أن حل تلك الإشكالية ميسور، اذا سلمنا باحترام الخصوصية والتعددية والتنوع بما لا يمس الثوابت ولا ينال من المبادئ ولا يفرط في الحقوق ولا يتخلى عن الانتماء العربي حتى وإن حاولت بعض الدول الموازنة بين ذلك الانتماء وبين التزاماتها الدولية. عاشراً: إن الأصل في الفكر القومي انه لا يقع ضحية بين توجهات رأسمالية او افكار اشتراكية، فالقومية تعبير عن هوية الامة وليس عن طبيعة النظم الحاكمة ولعل المواجهة التي شهدها الوطن العربي بين ما كان يسمى بالأنظمة التقليدية الرجعية والانظمة الثورية التقدمية على امتداد الخمسينات والستينات من القرن الماضي هي تعبير عن روح عبثية خلطت بين الشعوب والنظم وبين الافكار والقيم وبين القومية والايديولوجية، ولقد انتهى ذلك العصر الذي جرى فيه تصنيف العرب لأسباب عابرة وظروف طارئة وضغوط اجنبية وأصبحنا امام عالم عربي يعاني اكثر من غيره وتعيش أمته محنتها القاسية نتيجة لخطايا عدد من النظم والغزو الفكري الذي اخترق بعض الشعوب. هذه ملاحظات عشر أردنا بها أن نخرج من أسر الماضي لنرى المستقبل بحيث لا نتصور أن الفكر القومي جامد متعثر معزول بل هو على غير ذلك إذ يمكن أن يكون ايجابياً وفاعلاً ومؤثراً يستوعب ما جرى ويتهيأ لما هو قادم وينفض الغبار عن ضبابية الرؤية ويرى الامور بحجمها الطبيعي ويتعامل مع المستقبل الذي يطرح مفردات جديدة فيها ما هو مقبل نسبياً وما هو مرفوض مطلقاً بداً من العولمة وصولاً الى صراع الحضارات لأن كم المشكلات التي تحيط بأمتنا والعقبات التي تعترض طريقنا تفرض علينا بالضرورة أن نسعى لتجديد تراثنا الفكري وإحياء الصالح من تاريخنا القومي وبعث الروح العربية العصرية التي تؤمن بأهمية التوازن بين القومية والقطرية، بين العروبة والالتزام الدولي، بين الماضي والحاضر.. امة ترى نفسها في مرآة المستقبل ولا تواصل مغازلة الذات في مرآة الماضي حيث تستغرق في ترديد أشعار ديوان الحماسة بلا جدوى وتتباكى على ماضيها من دون هدف، إنها أمور لا بد من الأخذ بها والوعي بأهميتها لأننا أمام تحدٍ كبير هو أن نكون أو لا نكون. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.