جمعتني منذ سنوات، واحدة من ندوات صحيفة "الاهرام" القاهرية بأستاذ جامعي اردني مرموق هو الدكتور مصطفى حمارنة، وكنت يومها رئيساً لجلسة هو المتحدث الرئيسي فيها، وهمست في أذنه في فاصل الاستراحة بين مداخلتين، هل العائلة لديكم منقسمة بين مسلمين ومسيحيين كما الشهابيون في لبنان؟ فقال لي: لماذا تقول ذلك؟ قلت له: لأنه كانت معي زميلة أردنية مسيحية تدرس في لندن في مطلع التسعينات من بيت حمارنة الاردني، وأظن أنها تنتمي معكم الى العائلة نفسها. فقال: هذا صحيح ولكننا جميعاً من عائلة مسيحية واحدة، ويبدو أن اسم مصطفى هو الذي أعطاك انطباعاً بأنني مسلم، فأجبته بأن ذلك صحيح، فردّ: بل إنني سوف أزيدك دهشة لأن أحد اقاربي اسمه محمد رغم مسيحيته واختير له هذا الاسم تعبيراً عن الانتماء الى العروبة. ظلت هذه المناقشة السريعة عالقة في ذهني طوال السنوات الماضية تطفو على السطح بين الحين والآخر لكي تعيد التساؤل التقليدي عن العلاقة بين الاسلام والعروبة، إذ أن واقع الأمر يؤكد أنه ليس كل العرب مسلمين كما أنه ليس كل المسلمين عرباً، وذلك رغم اعترافنا بالتداخل الكامل بين نسيج العروبة وشخصية الاسلام، إذ كانت الحضارة العربية الاسلامية بوتقة تاه في زحامها ما هو عربي لكي يصبح واحداً من أبرز مكونات الثقافة الاسلامية منذ نشأتها حتى اليوم. ولقد نسينا في غمار ذلك كله أن قبائل عربية سكنت التخوم الفاصلة بين شمال الجزيرة العربية وجنوب الشام وظل بعضها على مسيحيته وعروبته في الوقت ذاته وبذلك اصبحت قوميتهم سابقة على ديانتهم، وبقي ولاؤهم للعروبة شديد الصلابة قوي التأثير رغم غياب البُعد الاسلامي في جانبه الروحي مع بقائه في جانبه الثقافي. ويحسن هنا ان نتناول العلاقة بين المسيحيين العرب وقضايا أمتهم من خلال عدد من المحاور أهمها: * المحور الأول: المسيحيون العرب والفكرة القومية. يرتبط المسيحيون العرب بالجذور الأولى للحركة القومية الحديثة، فقد كانت إسهاماتهم واضحة، سواء في داخل أقطارهم العربية أو في دول المهجر خصوصاً في أميركا اللاتينية، وذلك أمر له دلالته لأنه يعطي القومية العربية مذاقاً خاصاً يتجاوز التقسيمات التقليدية للعرب مهما تعددت معتقداتهم أو تباينت أصولهم. لذلك لم يكن غريباً أن اتبنى شخصياً في كتابي "تجديد الفكر القومي" تعريفاً واسعاً رحباً لتحديد شخصية العربي من خلال تعريف بسيط موجز، فهو في رأيي كل من كانت لغته الاولى العربية حتى لو كان يقطن منطقة نائية خارج حدود الوطن منتمياً إلى دولة في واحدة من أركان الدنيا الأربعة، وبذلك فإن اولئك الذين لا يتحدثون العربية كلغة أساسية حتى وهم داخل حدود العالم العربي لا يكونون بالضرورة عرباً بالمفهوم الذي طرحناه. فنحن نركز على المعيار الثقافي بالدرجة الأولى عند تحديد مفهوم العروبة أو تعريف الهوية القومية، لأن اللغة الأم هي معيار لا يمكن تجاوزه، وفي رأينا أن هذا التعريف جامع مانع يتسم بالعصرية ولا تشوبه عنصرية، كما أنه يجعل الدين رافداً من مكونات الثقافة وليس عاملاً مستقلاً عند تحديد الشخصية القومية. من هذا المنطلق، فإن المسيحيين العرب لعبوا دوراً ريادياً في تشكيل ملامح الفكرة القومية في القرنين الماضيين، فلقد انعقدت المؤتمرات العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر في عدد من العواصم الاميركية والاوروبية، فضلاً عن الكتابات المبكرة التي أشارت الى يقظة العرب ووحدة الأمة. وهنا يجب أن نعترف بوضوح أن مسيحيي الشام قد لعبوا في ذلك دوراً بارزاً لا يمكن إنكاره ولا ينبغي الاقلال منه خصوصاً إذا سلمنا أن الفكر القومي الحديث هو جهد شامي في إطار العروبة بالدرجة الأولى، لأن الشوام الذين كانوا يواجهون القهر العثماني لم يكن أمامهم إلا الاعتصام بعروبتهم في مواجهة الحاميات العثمانية التي تشترك معهم في الدين وتخاصمهم بالقومية. * المحور الثاني: المسيحيون العرب والتنظيمات القومية: اذا كنا نسلم بدايةً بأن التنظيمات السياسية العربية كانت ولا تزال أكثر قوة في الشام والعراق عنها في مصر والجزيرة العربية والمغرب العربي فإننا بذلك نتقدم نحو اعتراف أكبر يعطي للمسيحيين الشوام دوراً مؤثراً في التنظيمات القومية خصوصاً تلك التي شهدها النصف الثاني من القرن الماضي. "فالقوميون العرب" و"الوحدويون الاشتراكيون" ومعظم التنظيمات ذات الطابع القومي- عربية أو فلسطينية - عرفت في مجملها اسهامات عربية مسيحية واضحة، فقد شارك المسيحيون العرب في تأسيس عدد من تلك التنظيمات والاستمرار بها والحفاظ على قوة دفعها، فإذا ما انتقلنا الى أكبر الاحزاب القومية في المشرق العربي وأكثرها نجاحاً على المستوى السياسي، حيث نشير صراحة الى "حزب البعث العربي الاشتراكي" الذي نجح في السيطرة على الحكم في قطرين عربيين كبيرين لفترات طويلة منذ نهايات العقد السادس من القرن العشرين. وهنا اعترف - كمصري تابع حركة البعث سياسياً ولم يقترب منها تنظيمياً - بأن ذلك الحزب حقق حضوراً قومياً على الساحة العربية بسيطرته تاريخياً على القوات المسلحة في سورية والعراق فضلاً عن دخوله في منافسة امتزج فيها الحب بالكراهية مع التجربة الناصرية، خصوصاً منذ قيام دولة الوحدة بين مصر وسورية تحت مسمى "الجمهورية العربية المتحدة" وصولاً الى نكسة حزيران يونيو 1967 ومروراً بمأساة الانفصال في ايلول سبتمبر 1961. فحزب البعث العربي الاشتراكي، برموزه المرتبطة بفكرة تأسيسه وتنظيم مسيرته الأولى يشير هو الآخر الى دور بارز لعبه مسيحي شامي هو ميشيل عفلق، فيلسوف الحزب الذي انتهت حياته منذ سنوات لاجئاً في بغداد كجزء من الصراع بين جناحي الحزب في العراق وسورية. ويذكر هنا أنه في الوقت الذي كانت بدايات تلك التنظيمات القومية في المشرق العربي ذات أبعاد وأعماق عروبية خالصة فإن السياسة المصرية على الجانب الآخر كانت تنظر الى العروبة باحترام من بعيد، ولكنها لا تتجاوز الانتماء الثقافي معها الى الارتباط السياسي بها، فلقد كانت المؤثرات الاسلامية أقوى من الانتماء العربي ومتداخلة معه خصوصاً في العصر الملكي حيث لم تبرز العروبة السياسية على الساحة المصرية إلا بعد ثورة تموز يوليو 1952. * المحور الثالث: الاقباط والعروبة: يمثل الاقباط اكبر طائفة مسيحية في العالم العربي، إذ يفوق عددهم مجموع أعداد الطوائف المسيحية الاخرى في المشرق العربي كله، ولكن الانطباع العربي السائد هو أن الاقباط شأن مصري بالدرجة الاولى وليسوا كياناً عربياً فاعلاً. وهذا في ظني انطباع يجافي الحقيقة ويفتقر الى الأسانيد التاريخية الصحيحة، فالأقباط أخوال العرب منذ أن تزوج نبي الاسلام - صلى الله عليه وسلم - مارية القبطية القادمة من الصعيد الأدنى والمهداة إليه من حاكم مصر في ذلك الوقت، بل إن ادبيات الحضارة الاسلامية تشير الى دعوة صريحة لرعاية عربية نحو الاقباط بلغت ذروتها مع الحديث النبوي الشريف الذي يقول "استوصوا بأقباط مصر"، وتواصل ذلك مع انبهار عرب الجزيرة بالحضارة المصرية القديمة عند الفتح الاسلامي، ولعل رسالة الفاتح عمرو بن العاص الشهيرة الى الخليفة عمر بن الخطاب تعكس شيئاً من ذلك. ولقد صدرت مشاعر القلق تجاه عروبة الاقباط من منطلق مصريتهم المؤكدة وهويتهم الواضحة قبل الفتح العربي الذي جاء بالاسلام الحنيف، حيث ظلت مصر بعد ذلك لقرابة قرنين قبل أن يصبح الاسلام هو دين الاغلبية وتتبعه العربية لتصبح اللغة الأولى في مصر خصوصاً عندما تحولت الصلوات في الكنائس الى اللغة العربية، فكان ذلك إيذاناً بسيادة اللغة العربية بين المصريين - مسلمين واقباطاً - وتأكيداً للعروبة الشاملة لشعب الكنانة بغض النظر عن العامل الديني، ورغم تلك الرواسب التاريخية التي تركت حساسيات ما زالت آثارها باقية إلا أن معظم الاقباط اتخذوا مواقف مشهودة تؤكد عروبتهم القومية العربية بعد أن برزت مواقفهم الوطنية المصرية. ولعل نموذج السياسي المصري القبطي مكرم عبيد باشا الملقب بالمجاهد الكبير - والذي كان سكرتير عام حزب الغالبية "الوفد" في مصر - ذات دلالة في تحديد رؤية الاقباط لمسألة العروبة، فهو الذي قام برحلة شهيرة في ثلاثينات القرن الماضي زار فيها حيفاً، وصيدا، وبيروت، ودمشق وغيرها من مدن الشام حيث ألقى اثناءها خطباً رائعة - وهو كان متحدثاً رفيع الشأن - حول عروبة الاقباط، بل وتجاوز ذلك الى دعوة مبكرة لقيام جامعة الدول العربية قبل بداية التفكير فيها بسنوات عدة. ولماذا نذهب بعيداً... إن نموذج شنودة الثالث، بابا الاسكندرية والكرازة المرقسية والزعيم الروحي لأقباط مصر، يمثل هو الاخر من موقعه الديني المتميز علامة فارقة في رؤية الاقباط لهويتهم العربية فهو يبدو أكثر تشدداً من المؤسسات الدينية الاخرى كافة، تجاه سياسات اسرائيل وممارساتها في القدس الشريف، وهو الذي اتخذ موقفاً مانعاً للاقباط من زيارة القدس وممارسة شعائرهم الدينية في كنيسة القيامة، وكرر دائماً عبارته الشهيرة "لن يدخل الاقباط القدس إلا مع اشقائهم المسلمين في وقت واحد". ولقد أزال هذا البابا المستنير المعروف بقوة الشخصية وحكمة الموقف، آخر حاجز للحساسية المصطنعة بين الكنيسة القبطية والقومية العربية حتى استحق البابا شنودة عن جدارة لقب يطلقه عليه الكثيرون وهو "بطريرك العرب". بل إن الزعيم الفلسطيني السيد ياسر عرفات ينتهز كل مناسبة متاحة لزيارة "المقر البابوي" في القاهرة تقديراً منه لموقف البابا ودور الاقباط في النزاع العربي الاسرائيلي ودعمهم للحق الفلسطيني في كل الظروف. إنني أريد أن أقول إن المسيحيين العرب، بكل طوائفهم وفي مختلف أقطارهم كانوا رصيداً ايجابياً في بناء الحضارة العربية الاسلامية أولاً وفي دعم ورسوخ الفكرة القومية ثانياً، ويجب أن نفكر دائماً من منطلق يسعى الى وضعهم في قلب العروبة، لا أن يكونوا على أطرافها عناصر هامشية، لأن عطاءهم التاريخي يقول بغير ذلك، كما أن جهدهم القومي المتواصل لا يمكن إنكاره. ولعلي اضيف هنا فضلاً آخر للمسيحية العربية: فالموارنة - على سبيل المثال - لهم فضل كتابات مبكرة جعلت من التراث العربي مادة للاهتمام ومبرراً للتواصل بين تلك الاقليات المسيحية في جانب وحضارتهم العربية الاسلامية في جانب آخر. بل إن مخطوطات الأديرة في الشام ومصر وربما في غيرها من أقطار المشرق العربي مثلت هي الأخرى قنطرة للعبور الفكري بين الحضارة العربية وغيرها من الثقافات المعاصرة. وهل ننسى ما قام به مسيحيو الشام من نهضة ثقافية في مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى ما يقرب من منتصف القرن العشرين، سواء في ميادين الصحافة أو المسرح او السينما، أليست هذه دلالات على الإسهام العربي المشترك الذي تجاوز الحدود القطرية لأنه تجاوز قبلها الحدود الدينية، إن ذلك الأمر في ظني يمثل شهادة للمسيحيين العرب في إطار قوميتهم تضعهم في الموقع الصحيح تجاه العروبة التي ينتمون اليها ويعملون من أجلها. إن اسماء مثل مكرم عبيد وميشيل عفلق ونجيب الريحاني وجورج حبش ونايف حواتمة وجورجي زيدان، بالاضافة الى عائلات مسيحية مرموقة، مثل اليازجي ومعلوف والبستاني وتقلا، فضلاً عن عشرات الاسماء اللامعة في سماء التاريخ العربي، بدءاً من جبران خليل جبران، مروراً بميخائيل نعيمة وسلامة موسى وخليل مطران ولويس عوض وغيرهم من الرموز تمثل قوافل من المسيحيين العرب على مختلف طوائفهم ممن شاركوا بايجابية في الحياة السياسية والثقافية للأمة العربية وانصهروا فيها وناضلوا من أجلها حتى أصبحنا أمام حقيقة يجب أن نعترف بها وأن نعيد حساباتنا العصرية على أساسها وهي أن الاقليات ليست بالضرورة أبداً نقمة، ولكنها يجب أن تكون دائماً نعمة. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.