ما زال المصريون يتذكرون المقولة التي انتشرت في النصف الاول من القرن التاسع عشر، وتفيد: "إن الايطالي مقاول كالمصري، ومزارع كالمصري، وفلاح كالمصري، ويعيش عيشة المصري في كل وجه". وعلى رغم مرور السنوات واختفاء الحديث لفترة طويلة عن نشاط، او حتى حضور الجاليات الاجنبية في مصر، إلا ان المقولة عادت لتتردد مجدداً، إذ صارت تنطبق على ذلك الجيل الجديد من الايطاليين الذي يعيش في مصر. جيل تداخلت في عروقه ثقافات عدة، لتنسج ثوباً جديداً، لا يحمل توتر الهجرة الاول الذي أفعم قلوب آبائه او اجداده، ولا تلك الحيرة التي ملأت عقله وهو يبحث عن سبل للتكيف والتوافق مع المجتمع الجديد. لا يتعامل ابناء الجيل الجديد من الايطاليين المقيمين في القاهرة وبقية المحافظات مع مصر على انها وطن ثان، فايطاليا ليست سوى صورة بعيدة يلمحونها في بعض التحف والتذكارات التي تملأ منازلهم وتفوح نكهتها من اطباقهم. ريتا سامي 21 عاماً، ابنة لأم ايطالية وأب يحمل الجنسيتين الايطالية والمصرية. في ملامحها صبغة اوروبية، لكنها تتحدث العربية دائماً، ولا تتحدث الايطالية الا مع والدتها التي لا تجيد العربية. انها تعتز بلغتها العربية التي تعتبرها لغتها الاولى في التعبير عن خواطرها كتابة، وتضحك وهي تؤكد انها ما زالت لا تجيد قواعد الكتابة الايطالية، وفي كل مرة تزور فيها ايطاليا تحضر معها كتب تعليم الاطفال القواعد النحوية، حتى لا ترتكب "مصائب" عندما تدفعها الحاجة إلى الكتابة بالايطالية. ريتا تعشق "الفول المقلي" الذي لا تستطيع معدة بعض المصريين احتماله، وهي قارئة نهمة ليوسف ادريس وبهاء طاهر. غرفتها مملوءة بأحدث شرائط المطربين المصريين الذين قد تجد وسطهم بالصدفة اسطوانة لمطرب ايطالي، على جدار غرفتها تعلق لوحة قماشية مطرزة تطريزاً ايطالياً، وعلى الجدار المقابل تعلق آية من القرآن الكريم "انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولاً". هي فتاة حرص والدها على ان يقحمها في المجتمع المصري منذ صغرها. رفض ان يلحقها باحدى المدارس الايطالية. صدمتها الاولى مع الواقع المصري كانت في كلية الآثار حيث درست التاريخ الفرعوني. فقد ادركت معنى ان ينظر اليها البعض على انها مجرد اجنبية لا يمكن ان تفهم مصر ولا اهلها. التحقت ريتا بالجامعة في وقت تزايدت فيه قوة التيار الديني فيها، وكانت كثيرات يأتين اليها لينصحنها بارتداء الحجاب. وهي على رغم كونها مسلمة ممارسة، الا انها لا تقبل ذلك التشدد الذي يتعامل به بعض الناس، ولا اصرارهم على انهم وحدهم على صواب. معظم اصدقاء سوزان من أنصاف الاجانب ولكنهم من جنسيات اخرى في مصر وليس لها سوى صديقة واحدة ايطالية الأم، تعرفها منذ صغرها، والسبب ليس نوعاً من الغرور كما اكدت، ولكنه مجرد نوع من اختصار الوقت، لانها لا تستطيع التعامل مع افراد ينظرون اليها على انها كائن من الفضاء الخارجي، إنها تكره التعامل مع المصريين الذين يذهلون عندما يعلمون بأصلها الايطالي مثلما تمقت التعامل مع الايطاليين الذين يسخرون من اصلها المصري، وتؤكد: "أنا مجرد مصرية تحمل الجنسية الايطالية، وشعري الاشقر لا يعني عكس ذلك، إن ملامحي هي آخر ما قررت ايطاليا ان تمنحه لي". جينا مجدي فتاة ثالثة ايطالية الاصل تعمل مترجمة في أحد مكاتب الترجمة الخاصة. هي لا تنكر تأثرها بايطاليا لكنها لا تنكر عشقها لمصر الذي يدفعها للبقاء فيها مهما ساءت الظروف. إن ما تفتقده في مصر وتجده في ايطاليا، ليست الحرية الشخصية كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه على حد قولها، إحساسها بأنها ليست مواطناً من الدرجة الثانية، يعاني من اجل الحصول على حقه في ان يعامل باحترام، تقول: "إن احترام المرأة ليس محصوراً في لوائح او قوانين عدة. لا يكفي ان تعلن ان الدستور يكفل للمرأة حقوقها كاملة كي تعلن باطمئنان انها قد نالتها، احترام المرأة سلوك يشارك فيه المجتمع كله، هذا السلوك لا اجده للاسف في مصر، وأفتقده كثيراً عندما اعود من ايطاليا، إلى حد يجعل اول اسبوع لي في مصر بعد عودتي من ايطاليا غير محتمل احياناً". يندر ان تجد من لم يفكر في الهجرة من مصر في ظروف معينة من اليأس، وربما كانت هذه الفكرة اكثر إلحاحاً على من يحملون جنسية اخرى تفتح لهم ابواباً جديدة في بلاد مختلفة، لكن الغريب ان الهجرة من مصر فكرة قد لا تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الشباب ذوي الاصول الايطالية في مصر. يقول جورج مجدي، الذي يعمل مهندساً معمارىاً في احدى الشركات الهندسية الكبرى: "إن حياتي كلها في مصر، لم اعرف لنفسي وطناً آخر. مررت بأوقات يئست فيها من قدرتي على تحقيق ما اريد، وفي تلك اللحظات الرهيبة فكرت في ان اتجه إلى ايطاليا كي اطرق ابواباً جديدة، شعرت للمرة الاولى بالامتنان لأنني احمل جنسية اخرى. ثم ادركت ببساطة انني لم امكث في ايطاليا وقتاً كافياً كي ارى السلبيات، بينما غرقت في مصر حتى النخاع، حتى صرت ارى كل عيب فيها ولو كان بالغ الصغر، إن ايطاليا بالنسبة إليّ تشبه القمر الذي ترى الثقوب تملأ وجهه لو اقتربت منه". تاريخ الجالية الايطالية في مصر بالغ القدم إذ بدأ تدفق الايطاليين على مصر مع الربع الاخير من القرن التاسع عشر. كان الايطاليون الوافدون ينحدرون من مختلف الطبقات الاجتماعية في ايطاليا. معلمون وصحافيون واطباء ومهندسون ومحامون وعمال، جاؤوا ليشكلوا جالية كبيرة بلغ عددها ما يقارب ال20 في المئة من مجموع الاجانب في مصر قبل الحرب العالمية الثانية، وصار هناك نوع من التفاعل العميق بين الشعبين ظهر واضحاً في ذلك العدد الملحوظ من المفردات الايطالية في العامية المصرية عند اهل المدن الساحلية عموماً والاسكندرية خصوصاً. وتؤكد الاحصاءات الرسمية ان عدد افراد الجالية الايطالية في مصر وصل إلى 18 ألف شخص عام 1882 مع بداية الاحتلال الانكليزي، تركز 70 في المئة منهم في الاسكندرية، ثم تزايد العدد عام 1907 ليبلغ 35 الفاً، ووصل إلى 55 ألفاً قبل الحرب العالمية الثانية، ثم بدأ يتناقص مع قيام الثورة عام 1952. الجالية اليونانية كانت الجالية اليونانية هي اكبر الجاليات في مصر في عهد الملك فؤاد الاول، لكنها لم تعد كذلك اليوم، وشبابها الذي اختلطت دماؤه بدماء مصرية صار اليوم لا يجيد حتى التحدث باليونانية. ياسمين ممدوح معيدة في احدى الكليات المصرية، تضحك وهي تؤكد ان والدتها كانت آخر من تعلم اللغة اليونانية في اهلها من جدتها التي انتقلت للاقامة في مصر منذ زمن طويل، ولم تبذل الجدة مجهوداً لتعلم احفادها اللغة اليونانية، معتبرة اياها لغة التفاهم السرية بينها وبين ابنتها، ثم وجدت انه من الافضل ان تتفاهم مع احفادها بالفرنسية التي يجيدونها بحكم دراستهم في المدارس المصرية بدلاً من تحمل عناء تعليمهم لغة جديدة. لا تجيد ياسمين التحدث باليونانية بطلاقة، لكنها تستطيع فهم الاحاديث التي تدور امامها. والغريب كما تقول هو ان غالبية الشباب ذوي الاصول اليونانية في مصر لا يجيدون التحدث باليونانية، وإن حرصوا على الحفاظ على بعض العادات التي جلبوها معهم من موطنهم الاصلي، مثلما يحدث في احتفالات رأس السنة عندما بقومون بتكسير الاطباق احتفالاً بالعام الجديد. لكن هناك شيئاً آخر يميز اولئك الشباب الذين ينحدرون من اصول يونانية، فتؤكد ماريا فؤاد ان والدها المصري تداخل تفكيره مع فكر امها اليونانية الاصل، لينتج فكراً اكثر تفتحاً على الفكر الشرقي من دون ان يتخلى عن الاساسيات التي يقوم عليها، فمن حقها ان تذهب الى اي كنيسة تشاء من دون ان تجبر مثلاً على التعبد في احدى الكنائس القبطية المصرية، ولم تشعر يوماً بأن والدها ينوي اجبارها على الزواج من قبطي مصري مثلاً، وكل تلك الامور تجعلها تشعر بأنها محظوظة لأنها حصلت على ذلك القدر من الحرية، الذي لا تتصور انه كان أبواها مصريين خالصين.