المملكة تدعم الإجراءات التي اتخذتها لبنان لمواجهة العبث بأمن مواطنيها    وزير الدفاع يبحث مع نظيره الأمريكي جهود إرساء دعائم الأمن والسلم الدوليين    محافظ جدة يُدشّن الحملة الوطنيّة المحدودة للتطعيم ضد شلل الأطفال    الأهلي والنصر يواجهان بيرسبوليس والغرافة    وزير الاقتصاد: توقع نمو القطاع غير النفطي 4.8 في 2025    النفط ينهي سلسلة خسائر «ثلاثة أسابيع» رغم استمرار مخاوف الهبوط    بحث التعاون الاستراتيجي الدفاعي السعودي - الأميركي    المملكة العربية السعودية تُظهر مستويات عالية من تبني تطبيقات الحاويات والذكاء الاصطناعي التوليدي    يانمار تعزز التزامها نحو المملكة العربية السعودية بافتتاح مكتبها في الرياض    "السراج" يحقق رقماً قياسياً جديداً .. أسرع سبّاح سعودي في سباق 50 متراً    «سلمان للإغاثة» يدشن مبادرة «إطعام - 4»    أمير الشرقية يرعى لقاء «أصدقاء المرضى»    الشيخ السليمان ل«الرياض»: بعض المعبرين أفسد حياة الناس ودمر البيوت    عاصمة القرار    الحجامة.. صحة وعلاج ووقاية    محمد بن ناصر يدشّن حملة التطعيم ضدّ شلل الأطفال    يوم «سرطان الأطفال».. التثقيف بطرق العلاج    منتدى الاستثمار الرياضي يسلّم شارة SIF لشركة المحركات السعودية    الأهلي تعب وأتعبنا    ترامب وبوتين.. بين قمتي «ريكيافيك» و«السعودية»!    الترمبية وتغير الطريقة التي ترى فيها السياسة الدولية نفسها    الحاضنات داعمة للأمهات    غرامة لعدم المخالفة !    "أبواب الشرقية" إرث ثقافي يوقظ تاريخ الحرف اليدوية    مسلسل «في لحظة» يطلق العنان لبوستره    عبادي الجوهر شغف على وجهة البحر الأحمر    ريم طيبة.. «آينشتاين» سعودية !    الملامح الست لاستراتيجيات "ترمب" الإعلامية    بيان المملكة.. الصوت المسموع والرأي المقدر..!    الرياض.. وازنة القرار العالمي    القادسية قادم بقوة    يايسله: جاهزون للغرافة    وزير الموارد البشرية يُكرّم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز في دورتها ال 12    أمين الرياض يحضر حفل سفارة كندا بمناسبة اليوم الوطني لبلادها    إنهاء حرب أوكرانيا: مقاربة مقلقة لهدف نبيل    وزير الاقتصاد يلتقي عددًا من المسؤولين لمناقشة مجالات التعاون المشترك    جازان تقرأ معرض الكتاب يحتفي بالمعرفة والإبداع    بينالي الأيقونة الثقافية لمطار الملك عبد العزيز    جولة توعوية لتعزيز الوعي بمرض الربو والانسداد الرئوي المزمن    جامعة نجران تتقدم في أذكى KSU    شرطة الرياض تضبط 14 وافداً لمخالفتهم نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    على خطى ترمب.. أوروبا تتجه لفرض قيود على استيراد الغذاء    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام لدولة الكويت    بموافقة الملك.. «الشؤون الإسلامية» تنفذ برنامج «هدية خادم الحرمين لتوزيع التمور» في 102 دولة    آل الشيخ: نعتزُّ بموقف السعودية الثابت والمشرف من القضية الفلسطينية    أمير نجران يكرّم مدير فرع هيئة حقوق الإنسان بالمنطقة سابقاً    جمعية الذوق العام تنظم مبادرة "ضبط اسلوبك" ضمن برنامج التسوق    تحت 6 درجات مئوية.. انطلاق اختبارات الفصل الدراسي الثاني    "كبدك" تقدم الرعاية لأكثر من 50 مستفيدًا    خبراء يستعرضون تقنيات قطاع الترفيه في الرياض    استمع إلى شرح موجز عن عملهما.. وزير الداخلية يزور» الحماية المدنية» و» العمليات الأمنية» الإيطالية    جدد رفضه المطلق للتهجير.. الرئيس الفلسطيني أمام القمة الإفريقية: تحقيق الأمن الدولي يتطلب دعم مؤتمر السلام برئاسة السعودية    انتقلت إلى رحمة الله في المنامة وصلي عليها بالمسجد الحرام.. مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي آل زيدان وآل علي رضا في فقيدتهم «صباح»    عدم تعمد الإضرار بطبيعة المنطقة والحياة البرية.. ضوابط جديدة للتنزه في منطقة الصمان    «منتدى الإعلام» حدث سنوي يرسم خارطة إعلام المستقبل    تآلف الفكر ووحدة المجتمع    فجوة الحافلات    عبدالعزيز بن سعود يزور وكالة الحماية المدنية الإيطالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات عن عباس محمود العقاد الكاتب المعادي للشمولية
نشر في الحياة يوم 14 - 09 - 2003

يواصل الكاتب هنا كتابة ذكرياته عن شخصيات مصرية لعبت دوراً في الأدب والفكر العربيين، وهذه المرة عن عباس محمود العقاد:
لا أذكر أنه جاء يزور والدي في منزلنا مرة واحدة، أو أن والدي زاره في منزله، على رغم أن كلاً منهما كان يكن احتراماً عميقاً لشخصية الآخر ولإنتاجه الفكري، وعلى رغم تجاور داريهما في مصر الجديدة، وتعاطف الاثنين مع الحزب السعدي أو على الأقل - كما في حالة والدي - مع قيادات الحزب، كالنقراشي وابراهيم عبد الهادي والدكتور السنهوري، غير أن العلاقة بينهما كانت دائماً ودية. ولا أحسب ان العقاد كان على اتصال اوثق بكبار ادباء عصره، كطه حسين او توفيق الحكيم او حسين هيكل، فكأنما كانت صداقته لإبراهيم عبد القادر المازني، وهي التي بدأت وهما في نحو العشرين، كافية تماماً لسد حاجة العقاد الى الصداقة والصديق.
دأب على إهداء أبي كل كتاب جديد يصدر له، مسطراً على صفحته الاولى عبارة "إلى العالم البحّاثة أحمد أمين"، فلما اصدر والدي سيرته الذاتية حياتي العام 1950، صار العقاد يضيف الى اهدائه كلمة "الأديب". وما زلت اذكر، في شيء من العجب والاشفاق، فرحة والدي بهذه الاضافة، وباعتراف العقاد به أديباً، بعد أن كان لا يرى فيه غير عالم باحث. ولا بأس من أن أضيف هنا أن والدي كان شديد الحساسية لنقد كتاباته، مدحاً كان او ذماً، يطرب اشد الطرب لأية اشادة بها، وقد لا يعرف النوم إن قرأ مقالاً ينال منها.
غير أن العقاد كان كثيراً ما يتصل هاتفياً به، إما لسؤال عما دار في جلسة لم يحضرها من جلسات المجمع اللغوي، او للاطمئنان على صحته، أو لمباحثاته بشأن أصل احدى الكلمات او واقعة في التاريخ الاسلامي. وكان يصادف احياناً ان أرد على مكالمته الهاتفية فأحاول الدخول معه في دردشة حول كتاب له أقرأ فيه، أو أتممت قراءته:
- كم سنّك يا جحش؟
- عشرة.
- تقرأ "عبقرية عمر" وأنت في العاشرة؟ لا أظنك فهمته.
- بل فهمته. فاسألني فيه إن احببت.
- ليس لدي وقت لسؤالك فيه. نادِ لي أباك!
كنتُ مع اثنين من اخوتي نحرر في صبانا مجلة سمّيناها "رجال الغد"، نكتبها بأكملها بخط اليد، ثم نصدر منها عدة نسخ كربونية نتداولها في محيط الاسرة والاصدقاء. ما أعجب له هو جرأتي وأنا بعد في العاشرة أو الحادية عشرة على الاتصال هاتفياً بكبار الادباء من اصدقاء والدي ليوافوا مجلتنا الصبيانية بكتاباتهم، ولا أزال أذكر اتصالي بالعقاد ومحمود تيمور كي يكتبا لنا تحت عنوان "أجمل أيام حياتي". فأما تيمور فكتب مقالاً بالغ الطول ارسله الينا بالبريد، ثم عاد بعد سنوات فنشره في احد كتبه. كذلك استجاب العقاد لمطالبنا، غير انه اصر على حضورنا اليه لاستلامه، وكان هذا هو لقائي الاول به. وأجدني الآن اسائل نفسي عن مدى احتمال أن يستجيب كبار الكتاب اليوم لمثل هذا المطلب من صبية في نحو العاشرة يصدرون مجلة مكتوبة بخط اليد!.
لم يمتلك في حياته سيارة قط، ولا اقتنى والدي واحدة حتى بلغ الستين، وإنما كانا يستخدمان في تنقلاتهما الترام حين كانت وسائل المواصلات العامة في مصر صالحة لاستخدام الآدميين. وكنت كثيراً ما أراه في الترام في روحاته وغدواته، وكذا في مكتبة "الانجلو المصرية" التي كانت تتولى نشر كتبه. فإن دخل المكتبة بقامته العملاقة المهيبة وطربوشه وكوفيته الطويلة الشهيرة، سارع موظفوها الى استقباله بحفاوة بالغة، فيبادر بسؤال أحدهم بصوته الضخم: فين سيدك الحمار؟! فيهرع صاحب المكتبة اليه منحنياً على يده ليقبلها، ثم يأتيه بكرسي يجلس عليه، وبكوب من القرفة يحتسيه، وبالكتب الحديثة مما ورد الى المكتبة حتى يتصفحها وينتقي منها ما يحب. وقد يهم شبابنا اليوم أن يعرف أنه ما من إعلان كان ينشر في الصحف عن أن كتاباً جديداً للعقاد سيصدر في اليوم التالي، حتى كان طابور قرائه يصطف أمام مكتبة الانجلو المصرية قبل ان تفتح ابوابها بنصف ساعة او ساعة يوم عرض نسخ الكتاب للبيع.
كانت سلسلة "العبقريات" للأسف، هي أكثر كتبه اجتذاباً للقراء ولي في صباي: عبقرية محمد - عبقرية عمر - عبقرية الإمام - عبقرية الصديق - عبقرية خالد... إلى آخره. وكذا روايته "سارة" وكتابه "هتلر في الميزان" الذي أصدره العام 1940 يهاجم النازية وصاحبها أعنف هجوم، وهو ما اضطره الى الفرار الى السودان حين اصبح جيش رومل قاب قوسين من الاسكندرية. كذلك قرأت له كتاب "الله" وأنا في الخامسة عشرة. أما انتاجه الجيد حقاً فقد تأخر اطلاعي عليه على رغم سبق تاريخ صدوره لكل تلك الكتب: "سعد زغلول"، "ابن الرومي"، ثم فوق كل شيء، دواوين شعره. ففي رأيي اليوم أن شعره اعظم بكثير من نثره، وأنه يمثل افضل انتاجه، على رغم ما واجهه من نقد عنيف اثناء حياته، بخاصة من مصطفى صادق الرافعي، واسماعيل مظهر وغيره من شعراء "أبولو"، ومحمد مندور صاحب المقولة المشهورة إن شعر العقاد "لا شأن له بالشعر". ومع ذلك فإني أجدني اتعاطف بعض الشيء مع صلاح عبد الصبور اذ يذكر أن العقاد اساء الى موهبته الشعرية الحقيقية بإقحام الفلسفة في قصائده.
بعد وفاة احمد شوقي بعامين، أي في عام 1934، ذهب الكثيرون الى تلقيب العقاد بأمير الشعراء، كما اصبح بعد ثورة 1952 رئيساً للجنة الشعر في المجلس الاعلى للفنون والآداب. كان بكل تأكيد، وعلى رغم التزامه في قصائده بقيدي الوزن والقافية، مجدداً في شعره، مؤمناً بضرورة هذا التجديد في المعاني وأسلوب السرد بحيث تنساب المعاني في تسلسل منطقي من اول القصيدة الى آخرها، فلا يصبح كل بيت فيها قائماً بذاته كما هو الحال في معظم الشعر العربي من عصر الجاهلية الى شوقي وحافظ. وقد ادى ذلك به وبالمازني الى التهجم على أحمد شوقي والسخرية به، قائلين إن التغيير العشوائي لترتيب الابيات في قصائده لا يُحدث في فهمنا لها تغييراً ذا شأن. وقد آلم شوقي كثيراً هذا النقد الذي سمم ايامه الاخيرة، غير ان القدر انتقم له، فأصبح شعر العقاد نفسه هدفاً لانتقادات اكثر حدة من جانب انصار الشعر الحديث، خصوصاً من الشيوعيين، وبات مثالاً عندهم لرجعية النظم بعد ان كان في يوم ما مثالاً للجرأة والثورية والتحرر. بيد أن الحساسية المفرطة للنقد لدى شوقي لم تكن قائمة عند العقاد الذي رد على اليساريين بهجوم أعنف وأقسى، وسخر سخرية مريرة بشعرهم المنثور، وبمحاولاتهم إدخال المزيد من التجديد بعدما ادخله هو بعد شوقي وحافظ.
لم يكن اليساريون وحدهم من نصبوا انفسهم لعداء العقاد، فقد اشترك في الهجوم عليه الوفديون الذين كان العقاد احد اقطاب حزبهم، وذلك بعد ان اختلف العام 1936 مع قيادة الحزب ثم انضم العام 1937 الى حزب السعديين الذي أسسه المارقون من الوفد بزعامة أحمد ماهر والنقراشي، وبعد ذلك فإني لا أذكر - ولا أحسب - أن هذه الخلافات السياسية مع العقاد أثرت في شعبيته لدى جمهور القراء، أو في حجم توزيع كتبه، او الاقبال على حضور صالونه الاسبوعي في مسكنه، كذلك لم يؤثر في احترام الناس له اضطراره احياناً الى مدح الملك فاروق في شعره بعد تحوله الى الحزب السعدي، وهو حزب لم يكن شعبياً في اي وقت من الاوقات، وكان يعتمد دائماً في الوصول الى الحكم على مساندة القصر والتآلف مع حزب الاحرار الدستوريين وغيره من الاحزاب الصغيرة. ومع هذا المديح لفاروق، بلسمٌ في يمين فاروقَ يُشفي كل جرح به عصيّ الشفاء!، فإن الملك لم يغفر له أبداً تجرّؤه على أبيه حين وقف في البرلمان عقب تعطيل وزارة اسماعيل صدقي للدستور بإيعاز من فؤاد يصيح: ان الشعب على استعداد لتحطيم أكبر رأس في البلد إن هو حاول العبث بالدستور. وقد كان هذا هو السبب في أن فاروقاً لم ينعم على العقاد حتى بعد "توبته" بأي لقب.
ومع ذلك فقد مُنح عام 1948 جائزة فؤاد الاول للأدب، وهي جائزة قدرها ألف جنيه تبرع بها فاروق، وتُمنح لمن ترى اللجنة الدائمة لجوائز الدولة أهليتهم لها. وقررت اللجنة وقتها منح الجائزة لأربعة: طه حسين، والعقاد، وأحمد أمين، ومحمد حسين هيكل. غير أن الملك، عندما رفعت اليه القائمة لإقرارها شطب بيده اسم طه حسين منها باعتباره وفدياً معادياً، ثم تردد في إقرار بقية الاسماء بالنظر الى أن هيكل من الاحرار الدستوريين، بينما العقاد وأحمد أمين في رأيه، من السعديين، وأشار الى اختيار رجل واحد من كل من الحزبين. لكن اللجنة أبت أن تستبعد العقاد او أحمد أمين، وأرسلت الى الملك من أفهمه ان الثاني ليس سعدياً، وأن الأمر يتصل بالأدب لا السياسة، فقبل الملك في النهاية. والظاهر أن الملك كان وقتها يهدف الى أن تستبعد اللجنة اسم العقاد بعد ان وافقت على استبعاد طه حسين، غير أن الظاهر أيضاً أن رئيس الديوان الملكي وقتها وهو إبراهيم عبدالهادي ثاني اقطاب الحزب السعدي هو الذي شفع للعقاد وأفلح في إقناع فاروق باستبقائه. فكان أن رفع فاروق قيمة الجائزة إلى ثلاثة آلاف جنيه حتى يُمنح كل فائز ألفاً.
كانت زيارتي الثانية للعقاد في داره بعد اكثر من عامين من قيام ثورة يوليو تموز 1952، وهي الثورة التي رحب العقاد بها، وكتب في تأييدها، ربما لأنه لم يلق من فاروق إقبالاً عليه بعد أن مدحه وأبدى استعداده لتعديل موقفه من النظام الملكي، غير أنني ذاكر أولاً قصة طريفة سمعتها عنه، وهي عن كيف أن عبدالناصر كلف من يتصل بالعقاد هاتفياً ليخبره أن السيد الرئيس يرغب في لقائه، فحدد العقاد الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي موعداً للقاء. وفي العاشرة والنصف من ذلك الصباح عاد الرجل الى الاتصال هاتفياً به ليسأله عن السبب في عدم حضوره لمقابلة الرئيس فكان جواب العقاد:
- الحضور إلى أين؟ لقد انتظرته في بيتي أكثر من نصف ساعة فلم يحضر!
كنت قد التحقت مذيعاً بالإذاعة المصرية في شباط فبراير 1954، وفي صباح يوم 14 تشرين الاول اكتوبر من ذلك العام، حضر العقاد الى دار الإذاعة لتسجيل حديث، وظل مدة تقرب من الساعة ينتظر المهندس المسؤول عن التسجيلات فلم يحضر، عندئذ ثار العقاد ثورة عنيفة، متهماً ذلك الموظف بأنه لا بد شيوعي، تغيب عن عمد لمجرد إغاظته لما يعرفه عنه من عداء للشيوعية. وأعلن العقاد صائحاً وهو يهبط السلّم ليترك دار الاذاعة انه سيقاطع الاذاعة الى الابد، ولن يعاود تسجيل الأحاديث لها. وإذ سمع مدير الاذاعة ظهراً تفاصيل القصة، استدعاني الى مكتبه، وكلفني التوجه الى منزل العقاد مساء لتقديم الاعتذار نيابة عنه، وتولي التسجيل له بنفسي، مقدراً أن صداقة العقاد لأبي ستجعله يقبل ما أنقله اليه من اعتذار. واستقبلني العقاد ذلك المساء أجمل استقبال، وإن كان اسمعني بعد اجراء التسجيل مزيداً من آرائه في موضوع الشيوعيين. والواقع انني فوجئت يومها إذ ألمس كيف كان في وسع هذا الرجل المشهور عند جمهور الناس بالجهامة والعبوس والعنف والقسوة، أن يتبسط ويتلطف، وأن يظهر في داره من كرم الضيافة وحب الفكاهة والمزاح ما لا يعرفه الكثيرون عنه.
يكاد العقاد في واقع الأمر أن يكون المفكر والكاتب الوحيد في تلك الحقبة الذي استطاع أن يصمد في قوة في وجه التيار اليساري في مصر، كان الأدباء والنقاد اليساريون أفلحوا خلال سنوات قلائل لا تتجاوز العشر في خلق جو من الإرهاب في الحياة الفكرية المصرية لم تعرفه من قبل او من بعد، على رغم ان الحكومات المتعاقبة كانت تتشدد في مكافحتهم وتصادر جرائدهم وكتبهم، وتزج بهم في السجون، وتتخذ الاجراءات المتاحة كافة وقتها للحيلولة دون انتشار نفوذهم وتأثيرهم. وكان لثقتهم التي لا تعرف حداً في بيانهم الأسس الماركسية للنقد والأدب والفن، وأسلوبهم الصلف في الكتابة، وعدم ترفعهم عن السباب والطعن، أثرها الغريب لا في إرهاب الكُتاب والفنانين وحدهم، بل القراء ايضاً، بحيث اصبح الاديب في حاجة الى شجاعة نادرة - كشجاعة العقاد - حتى يكتب قصيدة او قصة قصيرة غير اشتراكية، والرسام حتى يرسم لوحة لغير "الكادحين"، وأصبح النقاد - شيوعيين كانوا او غير شيوعيين - يتخذون مذهب الواقعية الاشتراكية معياراً للحكم على مدى جودة العمل الفني، وترددت على ألسنة القراء عبارات مثل: "أديب بورجوازي - رواية تقدمية - أدب انحلالي - رجعي عاجز عن التطور - أدب يعبر عن مصالح الطبقة النامية"، وقد آثر بعض الكتاب ازاء هذه الموجة الصمت وإنهاء حياته الادبية، في حين سارع البعض الآخر يؤكد للناس أن أدبه في واقع الحال لو تأملوا وأنصفوا، أدب شعبي تقدمي، وأن تغزله في شعره في امرأة يرمز الى تعطشه الى الاشتراكية، ثم يتملق الادباء والشعراء الجدد من اليساريين، ويكتب المقدمات لمؤلفاتهم ويبارك نشاطهم، ويقدم على تأليف كتب جديدة تتفق في ظنه مع الماركسية، كمسرحية "الصفقة" لتوفيق الحكيم. وربما كان العقاد أحد القليلين، او هو وحده الذي شهر سلاحه للنزال، ومبادلة الطعن بالطعن والعنف بالعنف، والسب البذيء بالسب البذيء.
كان الرجل إلى حد بعيد - وعلى رغم مدحه لفاروق بعد انضمامه الى السعديين - مخلصاً في معتقداته، قد يقال ان الانكليز هم الذين اوحوا اليه بكتابة "هتلر في الميزان"، غير انه سبق ان هاجم الشمولية هجوماً عنيفاً في كتابه "الحكم المطلق في القرن العشرين" الذي الفه العام 1928، قبل وصول هتلر الى الحكم بخمس سنوات، وقد يكون تهجم اليساريين على شعره من بين الحوافز له على مهاجمة الماركسية. غير انه لا سبيل الى الشك في انه كان يمقت أو يكره أو يستفظع النظم الشمولية جميعاً، يمينيها ويساريها على سواء، وانه كان يمقت الملك فؤاد ورؤساء حكوماته الاستبدادية كإسماعيل صدقي.
ما يحيرني منه هو موقفه من الإسلام، فهو في مجالسه الخاصة وندواته الاسبوعية التي حرصتُ على حضور بعضها، كان يبدو صريح الإلحاد، صريح الاستخفاف بالعقائد، وقد تبدر منه فيها من التعابير ما يصدم مشاعر بعض جُلاسه، ومع ذلك فما اكثر ما كتبه من كتب ومقالات في نصرة الإسلام، كما في المقالات التي كتبها لصحيفة "الدستور" عامي 1908 و1909 وهو لا يزال دون العشرين، ثم "العبقريات" المشهورة التي بدأت بعبقرية محمد عام 1942 - أثر الحرب في الحضارة الاوروبية - الفلسفة القرآنية - الديموقراطية في الاسلام - فاطمة الزهراء - بلال - أبو الانبياء الخليل ابراهيم - الاسلام في القرن العشرين: حاضره ومستقبله - مطلع النور وطوالع البعثة المحمدية - حقائق الاسلام وأباطيل خصومه - التفكير فريضة اسلامية - المرأة في القرآن الكريم - الثقافة العربية اسبق من ثقافة اليونان والعبريين - الإنسان في القرآن الكريم - ما يقال عن الإسلام - الإسلام دعوة عالمية... مثل هذا الكم الضخم دليل على عمق انشغال فكر الرجل بالإسلام، وربما على إخلاصه في الإيمان به، وامتعاضه من أي مساس به يأتي من الغرب ومستشرقيه، وهو كمٌّ لا يمكن الاقتصار في تفسيره على القول إن الثلاثينات - عقب الازمة الاقتصادية العالمية التي مسّت آثارها مصر، وعقب اشتداد ساعد جماعة الإخوان المسلمين وانتشار تأثيرها - شهدت تحولاً ملحوظاً من جانب عدد كبير من الكتاب في مصر الى الكتابة عن الاسلام، تطلعاً الى مزيد من الشعبية والرواج لكتبهم.
كان رفيع اللغة، موسوعي الثقافة، يغترف من الآداب الاجنبية والعربية من دون تمييز ومن دون تحيز، فيمتزج في كيانه مختلف الثقافات من دون ان يشعر بما يشعر به أناس يومنا هذا من تمزق وحيرة بين التراث والمعاصرة، أو ضرورة للاختيار بين الحديث والقديم، أو بين ثمرات الفكر العربي والاجنبي.
ومع ذلك فقد كان ثمة كلَفٌ على الشمس، فكثيراً ما كان - على حد تعبير العامة - "يستعرض عضلاته"، ويوحي الى القارئ بالتباهي بسعة اطلاعه، ويتنقل عامداً من هذا الموضوع الى ذاك لمجرد الرغبة في أن يكشف عن غزير علمه، وحتى يتطرق العجب الى عقل هذا القارئ كيف حصّل كل هذه المعرفة مَنْ لم يحصل من الشهادات على غير الابتدائية؟
وفي هذه الحقيقة بالضبط تكمن الاجابة ويكمن السر. هو عالم لا شك في ذلك، وقرّاءة من دون ريب، غير أن ما يبدو للكثيرين انه كعالم هو رد فعل محض لقصور تعليمه المدرسي، وما يبدو لهم أنه غرور من الرجل لا يكاد يطاق، قد يكون مجرد قناع يخفي وراءه ضعف ثقة ناجم عن خلو جعبته من الشهادات التي يرى فيها الحمقى من بني قومه دليلاً على تحصيل المعارف. وقد حصّل العقاد من المعارف ما لم يحصله غير من لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليد الواحدة، وخرج على الناس بكتب يزيد عددها على أضعاف أضعاف عدد أصابع اليدين، وهي كتب - حتى إن كان اكثرها سيصير بمرور الايام الى طي النسيان - جزلة قيّمة، وكان لها تأثيرها العميق في نفوس قرائها وقت صدورها، كتب لا يتمكن اتهام مؤلفها بالاستخفاف بعقلية قارئه، أو بالتعجل غير المغتفر في انجازها، أو بقلة الصبر على دراسة المراجع في صددها، وتقليب الذهن في موضوعها، وإنما يشينها أنه بإقباله على قراءة كل ما وقعت عليه يده من دون تمييز، وفي كل فروع المعرفة من دون تخصص او تعمق، فشل في أن ينتج فكراً متسقاً متلاحم الجوانب، يدعم بعضه بعضاً. فإذا بذلك الصرح العملاق الذي قضى أكثر من نصف قرن في تشييده يبدو - شأنه في ذلك شأن سلامة موسى - مفتعلاً، مهلهل النسج، مفتقراً الى الاحكام والى اللمسة الشخصية المتفردة.
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.