حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الأخدود والشباب    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات عن توفيق الحكيم وتأثير الغرب في رعيل النهضة الثقافية
نشر في الحياة يوم 26 - 05 - 2003

هذه صورة حية لتوفيق الحكيم من خلال ذكريات، وكلام له لم ينشر حول تأثر ثقافتنا الحديثة بالغرب كضرورة لا كاتهام.
كان أشهر الكتاب المصريين في فترة صباي هم طه حسين، وعباس العقاد، وأحمد أمين، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، غير أن كتابات الأخير كانت أحب كتابات هؤلاء الخمسة الى قلوب الصبية في مثل سني، فما من شيء كان يعادل عندنا روايتيه "عودة الروح" و"يوميات نائب في الارياف". وقد حاولت في السنوات الأخيرة إعادة قراءة "عودة الروح" فإذا بي انحيها جانباً في ملل وإحباط وأنا اسائل نفسي متعجباً عما عساه يكون قد أثاره اعجابي بها وقت صباي، وهو تماماً كإحساسي حين حاولت أخيراً ان أعيد قراءة ثلاثية نجيب محفوظ، و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، و"مليم الأكبر" لعادل كامل، و"سلوى في مهب الريح" لمحمود تيمور، أما كتاب الحكيم الذي كانت قراءاتي الاولى له وأنا في السابعة من العمر، فتمثيليته "محمد"، لا أبالغ حين اقول إني اعدتُ قراءتها بعد ذلك أكثر من ثلاثين مرة، حتى بت احفظها عن ظهر قلب، وحتى باتت جزءاً لا يتجزأ من تكويني الديني والعقلي واللغوي، ولا يزال أحب المجلدات اليّ من مجلدات مكتبتي هو هذا الكتاب في طبعته الاولى الفاخرة التي صدرت العام 1936، بورقها اللبني المصقول اللامع وغلافها الكرتوني البديع، وصفحته الاولى التي كتب عليها الحكيم إهداءه الى أبي، كما أذكر أني اثناء مقابلة لي معه في مطلع العام 1957 بعد عودتي من اقامة طويلة في انكلترا وخلال جلسة لنا في الشمس في حديقة المجلس الاعلى للثقافة، اخبرته أن من قابلتهم كافة من المستعربين الانكليز يعتبرون تمثيليته "محمد" أروع كتبه على الاطلاق، غير أن الحكيم لم يسرّه كثيراً هذا القول وهذا التفضيل، وهتف معترضاً "غير أن معظم الحوار في "محمد" هو من كتب التراث، ولم يكن لي فيه دخل كبير، ولا كنت حُراً في أن أضيف الكثير من عندي".
كان أبي يأذن لي - ولمن شاء من اخوتي ونحن بعد صبية - بحضور اجتماعات يوم الخميس من كل أسبوع لأعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر وكان الحكيم مواظباً على حضور تلك الاجتماعات، ويكاد يكون المسؤول الأول عن إشاعة روح الفكاهة والمرح فيها، أذكر مرة طولب الحاضرون فيها بذكر ما يتخيلون انها ستكون آخر اقوالهم وهم على فراش الموت، فجاء رد الحكيم: "سأصرخ في ورثتي: آه يا ولاد الكلب يا للي حاتورثوا فلوسي اللي تعبت وشقيت في جمعها! تورثوها كده بالساهل يا ولاد الكلب؟!"، وقد كانت مثل هذه الأقوال منه عن نفسه هي المسؤولة ايضاً الى حد كبير عن شيوع حديث الناس عن بخله، غير أنه كان بخيلاً فعلاً، وإن أفلح ظرفه وفكاهته في إخفاء المعالم القبيحة لهذا البخل، وقد حدث مرة ان اقبلتُ عليه في مجلسه مع أصحابه في مقهى "الشانزليزيه" على البحر في الأسكندرية، فما جلست حتى طلب لي من النادل فنجان قهوة "على حسابه" وهو ما جعل الحاضرين يحملقون فيّ وقد فغروا أفواههم مصطنعين الدهشة، ويقولون: "فنجان قهوة لك على حساب الحكيم! إنه الفتح المبين يا استاذ حسين!"، وظل هو يقهقه لقهقهاتهم وتعليقاتهم، حتى لمح في طريق الكورنيش حافلة ركاب تتوقف بحذاء نافذة المقهى التي يجلس عندها، واذا بالسائق والكمساري ينزلان منها يمدان يديهما إليه لمصافحة الكاتب الكبير وتحيته.
لم يكن يمتلك سيارة فكان غالباً ما يعتمد على ابي في توصيله بسيارته الى منزله بعد اجتماعات اللجنة، اجلس الى جانب السائق، ويجلس هو في الخلف الى يسار أبي. واذا طلب ابي من السائق يوماً اثناء رحلة العودة ان يتوقف عند بقالة "العُجيل" بوسط البلد، ونزل من السيارة لشراء بعض الحاجات، التفت الى الحكيم وقد بقينا وحدنا بالسيارة اقول له:
- عندي سؤال يلح عليّ منذ مدة.
- تفضل.
- هل يسرك ان يتملقك المعجبون بك وأن يفرطوا أمامك في الثناء عليك ليل نهار؟
قال: لا.
قلت: لماذا يطالب الله عباده بأن يكثروا من حمده وشكره والثناء عليه، ضحك الحكيم ثم قال: مطالبته لعباده بالإكثار من حمده ليس المقصود بها إرضاؤه، بل المقصود صالح العباد أنفسهم اذ يذكرون خالقهم وصفاته وأفضاله عليهم فتتطهر بهذا الذكر قلوبهم، أكثيراً ما يخطر بذهنك مثل هذه الاسئلة؟ كم سنك؟
- تسعة.
- ما شاء الله، ما شاء الله، فما عساها ان تكون تساؤلاتك حين تصل الى سني أنا؟
وتمر الأيام والأعوام، فاذا بي وقد عُينت العام 1959 ملحقاً في السفارة المصرية في كندا تحت رئاسة ابن خالة توفيق الحكيم، السفير عبد الحميد سعود، وهو رجل تافه طيب القلب، لطيف المعشر، عظيم الجهل، اصطحبني في شباط فبراير 1960 في رحلة طويلة الى مدينة ساكفيل بولاية نيو برونزويك ومدينتي وولففيل وهاليفاكس بولاية نوفاسكوشيا، ألقى خلالها أربع محاضرات عن القضية الفلسطينية في أربع جامعات كندية، وفي عربة القطار المتجه الى وولفيفل، اخرج السفير من جيب سترته رواية جنسية من تلك الروايات التي تباع في الصيدليات ومحلات السجائر بعشرين سنتاً، والتي تزين غلافها الورقي عادة صورة امرأة جالسة على السرير في ملابسها الداخلية تلبس - أو تخلع - جوربها، بينما يقف عشيقها متثائباً في خلفية الصورة، وإذ حذوت حذو السفير وأخرجتُ من حافظة أوراقي كتاباً، إلتفت اليّ وسألني عما اقرأ:
- "الفتاة الزنجية في بحثها عن الله" لبرنارد شو.
- يا ولد انت موش حاتبطل الفلسفة بتاعتك دي؟ أنا قريت شو، قريت شو من قبل ما أنت تتولد، راجل كويس وروحه خفيفة فيلسوف، انما بعدما اكون بذلت مجهود ذهني زي مجهود محاضرة امبارح، افضل إن أنا أقرأ رواية خفيفة ما تحتاجش لتفكير، توفيق الحكيم اتأثر كتير ببرنارد شو.
فهو كما أراد أن يتنازل ويحدثني في الأدب، او الفلسفة، او الفن - وكلها في ذهنه شيء واحد - حدثني عن ابن خالته توفيق الحكيم، وذكرياته عنه، وعن الشخصيات الحقيقية من افراد عائلتهما مما استخدمه الحكيم في تصوير ابطال روايته "عودة الروح".
- اذكر مرة انه عندما ماتت جدتنا كان توفيق الحكيم متغيباً في الاسكندرية، ولم تشأ والدته - خالتي - ان تزعجه، فلم تبرق إليه بالخبر، غير أن توفيق قرأ نعيها في الجرائد، فأسرع من فوره الى القاهرة، ودخل علينا المنزل غاضباً اشد الغضب إذ لم نستدعه ليكون بجانب جدته خلال الساعات الأخيرة وعندما ذكرت له والدته أنها لم تشأ إزعاجه، صاح بها: "ليس في الأمر إزعاج على الاطلاق وانما أردت أن أكون بجانبها كي استخدم وصف النزع الأخير ونحيب النساء والجنازة في إحدى رواياتي! إن استدعى الأمر". وهنا ثارت ثائرة اختي لما اعتبرته بروداً عاطفياً عند توفيق، ولعنت له أباه في وجهه، وطردته من البيت.
أما لقاءاتي المثمرة حقاً مع توفيق الحكيم فكانت حين يصطحبني والدي معه للجلوس اليه في قهوة "رويال" على البحر في سيدي بشر في الاسكندرية اثناء أشهر الصيف، وكم كنت اتحسر اذ استمع الى أحاديثه الطلية عن ذاته وخبراته وقراءاته وذكرياته عمن قابلهم من المشاهير ان لم يكن في تلك المجالس من يلازمه ملازمة بوزويل لدكتور صامويل جونسون، مسجلاً في يومياته ما علق بذهنه من الأحاديث، ثم ينشرها في كتاب، وسأذكر الآن جزءاً من حديث له معي يوم 8 آب أغسطس 1953 في مقهى "رويال" وكان والدي يومها مريضاً فلم يتمكن من الخروج.
بدأتُ بالاعتراف له بأن قراءاتي منذ رسخت قدماي في اللغات الاجنبية باتت مقتصرة على الآداب الأوروبية والاميركية، وسألته عما اذا كان تحولي عن النظر في كتب التراث العربي قد تترتب عليه خسارة كبيرة لي، اجاب الحكيم ضاحكاً:
- سأجيبك على ألا تذكر شيئاً من اجابتي لوالدك حتى لا يغضب مني، فلتمض قُدماً في ما أنت بصدده، فإن كان في نيتك احتراف الأدب، فلا بأس من أن تلقي بين الحين والحين بنظرة في كتاب "الأغاني" أو "العقد الفريد" حتى تشد من أزر لغتك، ومع ذلك، فما أعتقد ان مكانة اللغة لا تزال لها تلك الدرجة من الأهمية التي كان الناس في الماضي يخلعونها عليها بعد أن صار الأدب تقريرياً لا إنشائياً. ثم استطرد يقول:
- تأمل حال أدبنا قبل اطلاع مثقفينا على ثمار الآداب الغربية، كان مثاله هو ان يرسل الشيخ فلان الى حفني ناصف قفصاً من العنب ومعه رسالة، فيرد عليه ناصف شاكراً برسالة يصف فيها العنب بالدرّ والدرّ بالعنب، ويقول: "وصلني أدام الله فضلك، وأطال عمرك، قفص من العنب ..." الى آخره. نعم، كانوا يقولون إن هذا هو الأدب. وقد ثاروا عندما طلع المويلحي بروايته "حديث عيسى بن هشام" وقالوا إنه عابث ماجن، بل إنهم حتى اليوم يهتفون "توفيق الحكيم؟ محمود تيمور؟ أين هؤلاء من الأدب الحقيقي، ادب المنفلوطي وصادق الرافعي؟ وقد جاء تجديد المويلحي بفضل السنوات التي قضاها بفرنسا فمع ان لغته واسلوبه كانا كلغة مقامات الحريري واسلوبها، ومع ان النقلة التي حققها كانت نقلة متواضعة، فقد كانت له رجل في الداخل ورجل في الخارج، وكان اول من كتب عن الأوساط الشعبية المصرية وعن العُمد والفلاحين.
كان حملة لواء النهضة الادبية الحديثة في مصر أناس عززوا ثقافتهم العربية التي نشأوا عليها بثقافة غربية - قويت ام ضعفت - تلقاها بعضهم في بلادها، كلطفي السيد وهيكل وطه حسين وانا، واعترف بعضهم منها في بلادهم بعد ان جدّوا ونصبوا في تعليم أنفسهم لغة أوروبية، كالعقاد ووالدك، مؤمنين بأنه لن تكون لهم قيمة حقيقية في عالم الأدب ما لم يتبنوا أساليب الغرب في التعبير، ومناهجه في التفكير، بل إن أبدعهم عن الروح الغربية كالمنفلوطي، رأى داعياً الى الاستعانة بمن يترجم له مؤلفات غربية مثل "سيرانو دو برجراك"، وبول وفيريجينا" و"مغدولين" ثم يعيد هو صياغة الترجمة الحرفية أو شبه الحرفية في اسلوب عربي رصين، ولا غضاضة في تطعيمها هنا وهناك بأبيات شعر جاهلية أو إسلامية، وتعابير وأمثال عربية محضة، ثم ينسب العمل الناتج الى نفسه أو إلى مؤلفه الغربي بحسب الأحوال! أو انظر مثلاً الى شاعرين من فحول شعراء العربية، هما مطران وحافظ ابراهيم، تجدهما لا يستصغران من نفسيهما ان يتحالفا ويتعاونا من أجل ترجمة كتاب صغير ضحل في "الاقتصاد السياسي" لكاتب أوروبي، كل هذا والأعور - كما يقولون - هو بين العميان مبصر: إن قرأ الفتى كتابين فهو مثقف، وان تثقف فهو أديب، وان كتب أدباً فهو عبقري من انصاف الآلهة، إن نظم ابياتاً فهو شاعر، وإن صاغ "مغدولين" صياغة عربية جزلة فهو فنان خلاق، وإن ترجم كتابين او ثلاثة لأرسطو - ولو عن الفرنسية ! فهو فيلسوف الجيل!.
ومع ذلك فقد أدى هؤلاء خدمة جليلة لشعبهم لا ينبغي التحقير من شأنها، فقد فتحوا الباب أمام المتعلمين منا للرجوع الى الاصول، وما زال بيننا الكثيرون ممن يدينون "لترجمة" حافظ ابراهيم العرجاء الشوهاء او "ترجمة" المنفلوطي المثيرة للضحك، باطلاعهم الاول على "بؤساء" هيغو و"سيرانو" روستان، وحثهم على قراءة الاصلين وغيرهما سواء في الفرنسية أو الانكليزية.
اما المنشئون من أدباء هذه الفترة فذوو المكانة الأخطر، والأثر الأكبر، كانوا أول من رفع قيمة المضمون فوق قيمة الشكل، وشأن الجوهر فوق شأن الإطار، مستخدمين سلاحهم الغربي الجديد المكتسب في الدراسة التحليلية المتمعنة الفاحصة لمشكلات مجتمعهم، فإذا الجمل الرشيقة الخاوية التي كاد أدبنا يصبح قاصراً عليها، قد امتلأ خواؤها، بل ازدادت رشاقة، على يد طه حسين واذا العقاد يعلنها ثورة في ميدان الشعر، واذا هيكل يغدو مجرد في كتابة التراجم، والمازني في النقد، وتيمور في القصة، واحمد أمين في تأريخ العقلية الاسلامية. فإن سألتني عن أهم واضعي أسس الأدب المصري بعد المويلحي، قلت: هم أحمد أمين صاحب أول محاولة شاملة لإدخال منهج النقد في التأريخ الاسلامي العربي الحديث، وطه حسين صاحب أجمل أسلوب في الأدب العربي منذ أبي حيان التوحيدي، ومؤلف أهم كتاب ادبي مصري على الاطلاق، وهو "الأيام" وعباس العقاد المجدد في ميدان الشعر العربي، أما عني فبوسعي أن اقول إنني وضعت الأسس لأنماط متعددة من الأدب، فقد كتبت الروايات الاجتماعية، والمسرحيات الاجتماعية والفلسفية، والقصص القصيرة والمقالات، والرسائل، وجاء بعدي من تخصص في كل فرع من هذه الفروع، أما الفرع الذي لا أظن أحداً بعدي سيجاريني فيه هو التمثيليات على النمط الاغريقي التي لا تلائم روح العصر، والتي كتبتها لأتقرب بها الى القارئ الغربي، حتى يقارن بينها وبين مثيلاتها في الآداب الأوروبية.
ومع أن افراد هذا الرعيل كافة جهدوا وجدّوا - بل وناضلوا - في سبيل نصرة المضمون على الشكل، وانتزاع لواء الأدب من مدرسة المنفلوطي، فقد كانت كتاباتهم بحكم نشأتهم وثقافتهم العربية عميقة الجذور، والتعليم الازهري الذي تلقاه بعضهم، سلسة اللغة في غير معاناة، قويتها في غيرت كلف، حتى كان نثرهم من اجمل ما كتب في النثر العربي، ومع ذلك فقد كان لهجومهم على العناية المفرطة بالأسلوب وجزالة اللفظ، وإصرارهم المستمر على تفوق شأن المضمون، اثر في الأدب الآن - بخاصة في مصر - لولا ما تضمنه من كارثة لاعتبرناه طريفاً. وأعني بهذا الأثر إهمال أدباء اليوم من الشباب لا لجودة الأسلوب فحسب، وإنما ايضاً لأبسط قواعد النحو، بحيث اصبحنا لا نكاد نرى فارقاً بين لغتهم ولغة الصحف والعامة، غدا الاديب منهم لا يرى غضاضة في ان يدفع بمسوداته الى مصحح، معمم في المطبعة، يرفع له ما نصب خطأ، وينصب ما رفع، وكأن مراعاة النحو اضحت مهمة لا ترقى عن مهمة جمع الحروف، لا تؤثر في قيمة الأديب احاطته بالنحو أو جهله إياه، ناسين او متناسين أن الأسلوب للمضمون هو بمثابة الإناء للماء، لا غنى عنه إذا أريد حفظه ونقله.
فإن كنت قد ذكرت أن كتابات افراد ذلك الرعيل كانت بمثابة العصر الذهبي في الأدب المصري، فإنما عنيت بذلك أنهم وضعوا الأسس السليمة والدعائم القوية للأدب بفروعه المختلفة، كان خليقاً بخلفائهم ان يبنوا عليها ويسيروا على هديها، ولم أعن أنهم قدموا آيات أدبية رائعة يمكن وضعها في مصاف المؤلفات العالمية ذات المكانة الرفيعة، فلو أننا ألقينا نظرة الى الأمام، بعد خمسين سنة أو مئة، لنرى أي مؤلفات لهؤلاء ستظل ثابتة في وجه ريح الزمن، يقبل الناس على قراءتها لذاتها لا باعتبارها مجرد وثائق تاريخية، لما أمكننا ان نُحصي غير حفنة جدّ ضئيلة، فاذا بالمنفلوطي والمويلحي وشوقي وحافظ والجارم ولطفي السيد والمازني وصادق الرفاعي ومحمود تيمور والعشرات غيرهم قد طواهم النسيان، أو اقتصر ذكرهم على كتب تاريخ الأدب، واذا بمصفاتنا وقد اتسعت خروقها لم تحتفظ إلا بأيام طه حسين، وفجر الإسلام وضحاه وظهره لأحمد أمين، وتراجم هيكل الإسلامية، وبعض قصائد العقاد، وبعض مؤلفاتي ومؤلفات نجيب محفوظ وعبد الحليم عبد الله.
كان جل هؤلاء في رأي علماء باحثين أكثر منهم فنانين موهوبين، قد نتج أدبهم من الدراسة المتعمقة والجد، لا من عبقرية وإلهام حتى شعر العقاد، هو في أغلب حالاته عقلي الإدراك والمضمون، لا أثر فيه لوجدان الشاعر كما فهمه الغربيون ونفهمه اليوم، ودليلي على ذلك قلة ما أنتجه هؤلاء في ميادين القصة والرواية والمسرحية والشعر، وضآلة شأن ما انتجوه بالفعل فيها، وهي ميادين اكثر تطلباً للنظرة الفنية والوجدان المرهف من ميادين التراجم والدراسات الإسلامية والاجتماعية والنقد.
أما عن اتهام أمثال عبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن الخميسي لكتاباتنا بأنها لا تتفق مع روح العصر ومشكلاته وحاجاته، أو بضآلة مضمونها السياسي والاجتماعي، فاتهام ظالم، لقد كان بودنا، وبمقدرونا، ان نعبر عن مشكلات مصر في صراحة وقوة ترضيان الشباب، غير أن السلطات المدنية والدينية قيدت أقلامنا بألف يد، وشلت حريتنا، فإذا بأقصى ما يمكننا التنفيس فيه عن آرائنا الحرة إشارات ضمنية ملتوية، ومع ذلك فقد كتب طه حسين "المعذبون في الأرض" وكتبتُ "اللص والجياع" غير أننا كنا نراه ضرورياً - مع هيمنة الرقابة الفظيعة - ان نكتب شيئاً من هذا القبيل مرة، ثم نسكت ثلاث مرات، حتى لا نلفت الينا أنظار السلطة، أوردت مرة في مسرحيتي عن شهرزاد وشهريار تلميحاً الى فجور الملك فاروق وانهاكه في الملذات بعيداً عن شعبه، فاذا بكريم ثابت، المستشار الصحافي للملك يتصل بي موبخاً ومحذراً، ويسألني ساخراً عما اذا كنت تقاضيتُ مالاً من موسكو.
اذا نطقتُ فقاعُ السجن مُتكأ
وإن سكتُّ فإن النفسَ لَم تطب!
هو حال شبيه بحال الأدباء في الدنيا كافة في عهود الاستبداد.
وقد عّبر أبوك نفسه عن هذه الفكرة صراحة في "ضحى الاسلام" اذ يقول في تحليله لكتاب "كليلة ودمنة" ما معناه "ان الحاجة الشديدة تبينت الى هذا النوع من الأدب في عصور الاستبداد، يوم كان الملوك والحكام يضيقون على الناس أنفاسهم، فلا يستطيع ناقد أن ينقد أعمالهم، ولا واعظ أن يومئ بالموعظة الحسنة إليهم، فغشا هذا الضرب من القول والقصص، يقصدون فيه الى نصح الحكام بالعدل... واذا كان في التصريح تعريضُ الحياة للخطر، ففي التلميح فجأة من الضرر".
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.