وأخيراً وصلت السينما العربية لتحتل مكاناً متصدراً في المهرجانات الدولية. فبعد الحضور العربي المتميز للسينما الفلسطينية والسورية في دورة العام الماضي من مهرجان "كان" وحصول المخرج الفلسطيني إيليا سليمان بفيلمه الرائع "يد إلهية" على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، ها هي الجائزة نفسها ولكن من مهرجان آخر تمنح هذه السنة الى فيلم عربي آخر. فقد نالت المخرجة اللبنانية رندة الشهال الصباغ هذه الجائزة في الدورة الأخيرة لمهرجان فينيسيا البندقية السينمائي الدولي عن فيلمها الجميل والشجاع "طيّارة من ورق" من بطولة زياد الرحباني وفلافيا بشارة ورندة أسمر وجوليا قصّار ورينيه ديك وليليان نمري. رندة وفيلمها الذي عرض في اليوم الثالث من المهرجان، بقيا في مقدمة اختيارات لجنة التحكيم الأساسية كمرشح للأسد الذهبي حتى اليوم الذي عرض فيه الفيلم الروسي الجميل "العودة" لأندريه زفيغيناتسيف الذي حصد من ليدو فينيسيا أسدين ذهبيين كأفضل عمل، منهما جائزة العمل الروائي الأول. رندة الشهال أهدت فيلمها الى لبنانوالعراق وفلسطين. "الحياة" التقتها في البندقية وكان معها هذا الحوار: لك علاقة جيدة بمهرجان البندقية وبإمكاننا القول ان هذا المهرجان عمّد عملك السينمائي إذ استضافك منذ العمل الروائي الأول "شاشات الرمل" ومن ثم عرض عملك الثاني "متحضرات" قبل أربعة أعوام واليوم فاز فيلمك الثالث "طيّارة من ورق" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. كيف بدأت هذه العلاقة بالمهرجان؟ - مهرجان البندقية اختارني منذ عملي الأول وكان الأمر بالنسبة إليّ مفاجأة في حينه لأنه كان العمل الروائي الأول الذي أنجزه في حياتي السينمائية. واستمرت هذه العلاقة المميزة مع هذا المهرجان، ولدي شعور بأن بيني وبين الايطاليين ثمة ما هو منسجم لا يتواجد مع المهرجانات الفرنسية. فمثلاً لمجرد ما يسمعون باسمي في مهرجان "كان" تعود نسخة الفيلم لتهبط السلم قبل الوصول الى مكتب جيل جاكوب. ويبدو لي بأن ثمة ما يشبه الفيتو حول اسمي في مهرجان "كان" بينما يبدو ان الانتماء الايطالي للبندقية الى حوض البحر الأبيض المتوسط هو ما يجعل الأرضية لاستقبال فيلمي افضل، وليس ذلك من خلال ادارة المهرجان فحسب بل أيضاً من خلال الجمهور الذي ولّد لدي شعوراً بأنه أحب عملي. وهذا بالنسبة إليّ أهم هدية وجائزة، الكثيرون أوقفوني في الطريق في اليوم التالي للعرض وأبدوا اعجابهم بالعمل وناقشوا مضامينه. استقبال جماهيري الجائزة الثانية وقبلها 15 دقيقة من التصفيق المتواصل للفيلم في القاعة الكبرى. ماذا عنى كل هذا لك؟ - لا بد لي من ان اعترف بأنني لم أتأثر في حياتي بمقدار ما تأثرت لاستقبال جمهور القاعة الكبرى للفيلم ليلة العرض الرسمي. لم اكن أترقب ذلك. عندما تعرض فيلماً في مسابقة مهرجان فأنت في غاية التوتر. وقد شاهدت الفيلم على الشاشة الكبيرة للمرة الأولى اذ لم اكن شاهدته قبل ذلك العرض. كنت أراقب النسخة وأحدد نقاط القوة والضعف في العمل. وكنت في غاية الترقب والانتباه لما يجري في القاعة. كنت منتبهة حتى الى تحرك الجمهور في القاعة الى درجة انني كنت أسمع شهيق الجميع وزفيرهم. القاعة كانت مليئة عن بكرة أبيها وكنت أردد لنفسي: "الآن سيضجرون ويبدأون بالتسلل من القاعة لأنهم قد لا يفهمون تفاصيل الحدث على الشاشة وخلفياته الاجتماعية والتاريخية. شعرت بارتياح كبير عندما صفقوا للمرة الأولى خلال العرض. بقيت متوترة الى النهاية الا انني بدأت بالاسترخاء ببطء عندما لاحظت ان المتفرجين يتفاعلون مع الحدث وضحكوا مثلاً بالضبط في المكان الذي كان ينبغي ان يضحك فيه المتفرجون وصمتوا في المكان الذي يتطلّب الصمت. كنت أتصوّر ان جمهور القاعة في المهرجانات يصفق في شكل ديبلوماسي. الا ان التصفيق الذي حصلت عليه في القاعة الكبرى في ليدو البندقية كان صريحاً وصادقاً. ثمة تطور مهم في عملك منذ "شاشات الرمل" وصولاً الى "طيارة من ورق"، فالسياسة، او بالأحرى الموقف السياسي، كان غالباً على عملك السينمائي. وقد جعل كونك امرأة ملتزمة السياسة والموقف لمصلحة المرأة يغلب على الفعل الفيلمي. كان هناك غضب طاف الى السطح في شكل واضح. في شريط "متحضرات" كان هناك انتقاد شديد ضد بعض حالات الحياة في بيروت وبالذات حياة النساء الاجنبيات في المدينة. السياسة ليست غائبة عن "طيارة من ورق" بل هي حاضرة في شكل قوي، لكن هناك "حدّوتة" يرويها الفيلم. هل اقتنعت ان بإمكانك ان تتحدثي في السياسة من خلال رواية حدّوتة لحياة شخص او مجموعة من البشر؟ - أعتقد ان ذلك استنتاج صائب. أنا أتحدر من عائلة يسارية ومن تقاليد أسرية انغمست في تفاصيل الحرب اللبنانية وعاشت في خضمها. عشت باستمرار مع أناس ملتزمين سياسياً. كانت السياسة زادنا اليومي، لم تكن هناك متفرعات لها. عندما قررت ان اعمل في السينما لم يكن لي ان أنسلخ من هذا الواقع، ولم أكن اصلاً قادرة على ذلك او راغبة فيه. كان لديّ على الدوام وجل كبير في التعامل مع الأشياء وكنت أشعر بأن من الواجب عليّ ان أتعامل مع الأشياء بجدية مطلقة أياً كانت طبيعتها ونوعها. لحسن الحظ تحررت بالتدريج من هذا الفهم المنغلق الذي فرضته على نفسي. لا ينبغي ان ننسى أن افلامي الأولى أنجزتها والبلد في خضم الحرب، وفي نهاية المطاف لا احد يشعر بالحرية اثناء الحرب. فكيف بحرب كتلك التي اندلعت في لبنان. كنا جميعنا في حال اليقظة المطلقة والترقب لما قد يحدث. كما كان مفروضاً علينا ان لا نخطئ أبداً. الخطأ في الحرب ممنوع لأنه قد يكون قاتلاً. بالتدريج ومنذ عملي الأول "شاشات الرمل" مروراً بشريط "الكفرة" و"متحضرات" وصولاً الى "طيارة من ورق"، تمكنت من أن أخطو الخطوات الضرورية، ليس لإزالة الغضب، بل لاستيعابه لغرض استخدامه من أجل الفكرة. لأقل انني تعلمت حيلة استخدام الغضب المحتدم في داخلي، فإذا كان ايصال الرسالة يقتضي تعاملاً مختلفاً عما مارسته في الماضي فلا بد من الانسجام مع تلك الضرورة. ان أروي حدّوتة أو قصة بشر. في هذا الفيلم أروي قصة حب لكن على خلفية الاحتلال الاسرائيلي للجولان. عندما كنت أعمل في الفيلم، أو في الأفلام الأخرى لم يكن بامكاني ادراك التغيرات في عملي لكن لمجرد الابتعاد عنها سيكون بامكاني ادراج التطور الذي حصل لديّ. موقع الممثل... جديد أعتقد ان هناك تطوراً آخر قياساً للأعمال الأخرى وهو موقع الممثل في الفيلم. في "شاشات الرمل" وفي "متحضرات" كان الممثل جزءاً من التفاصيل الكاملة للفيلم وكان ضرورياً بالنسبة إليك لتأكيد الفكرة او أيديولوجيا الفيلم. أما في "طيّارة من ورق" فقد بدا الممثل وكأنه انسلخ عن الديكور وفقد تسطّحه وتقدم الى الأمام خطوة كأنه يقول فيها: "ها أنذاك الناقل الأساسي للقصة. انا الفاعل الحقيقي في مجمل الاحداث الدائرة على الشاشة" وقد استدعى هذا الأمر منك الكثير من العمل. كم عملت مع ممثليك؟ - عملت معهم كثيراً جداً. اخترتهم عن قناعة مطلقة، ليس بإمكاني ان اعمل مع ممثل لا أقتنع به في شكل مطلق ولا أحبه في شكل كبير. ما تقوله صحيح جداً لكن اسمح لي بتعقيب بسيط، حتى نهاية الحرب اللبنانية ونهاية الحرب الأخيرة على العراق كان هم المنطقة هو الغالب على ذهني. كنت، ككل انسان في المنطقة العربية، أنام وأصحو على ذلك الهم. لم يكن الفرد هو الأساس بل ما يدور في المنطقة. تمكنت من التخلّص من هذا وظهر في شكل جلي في عملي. لم يغب هم المنطقة عن ذهني لكن هم الفرد ووضعه ومآسيه صارت تحتل الموقع الأساس من اهتمامي. جاءني هذا الوعي كومضة برق وقلت لنفسي اذا ما واصلت الانشغال بهمّ المنطقة في شكل عمومي فإن عملي بمجمله سيكون عمومياً وغير ذي تأثير. قلت لنفسي، اذا ما أردت ان أوصل هموم المنطقة الى الآخرين فلا بد لي من ان أنطلق من هموم الناس الذين يعيشون في هذه المنطقة. الفرد هو ما كان عليّ ان اعمل عليه ليكون بدوره حامل هموم المنطقة. ما تراه في الفيلم هو نتاج قرار اتخذته مع نفسي ونفّذته. في اختياري للممثلين لم أتساهل في أي شيء ولم أتساهل في تصوير المشاهد. شخصياتي في الفيلم غير قابلة للتغيير مع ممثلين آخرين. ما حدث في علاقتي بالممثلين وفي علاقة الممثلين بالنص بُني على أساس ادراك ما يتضمنه كل مشهد من مشاهد الفيلم وأواصره في الوضع على الأرض. لم أضيّع، ولم يضيّعوا هم، أي فرصة أو امكان لتطوير شخصياتهم وتقريبها الى الصورة القابلة لتجسيد الحال وإقناع المشاهد. لم اعتبرهم عاملاً من عوامل الفيلم السلبية بل فاعلين أساسيين. مع رندة أسمر وجوليا قصّار ورينيه ديك وليليان نمري قضينا وقتاً طويلاً في النقاشات. وفي بعض الحالات كنا لا نتفق سياسياً. تناقشنا مطوّلاً ايضاً لإقناع العديد من الممثلين الذين لا يتفقون ورؤاي السياسية ووجهات نظري. كل هذا جرى قبل بدء التصوير. لكن مشاركتهم معي لا تعني انهم وافقوا على وجهات نظري السياسية او غيّروا في قناعاتهم، لكن الكثير منهم اعتبر ما أرى صحيحاً. ذهبنا الى الجولان معاً وشاهدوا العديد من الأفلام التي أحبها. عملت الكثير مع فلافيا بشارة العروس لمياء في الفيلم لأنها لم تعمل في اعمال مهمة ولا تعرف الكثير عن ملابسات الوضع سياسياً وتاريخياً. كل ما كانت تعرفه عن السينما كان نتاج مشاهداتها للسينما الأميركية والتلفزيون. العمل مع الممثلين كان شاقاً وطويلاً ودقيقاً وأعتقد انه أعطى نتائج حميدة. اعتقد انها عودة الاهتمام بالفرد العربي او بالأحرى ب"المواطن" العربي او الشرق أوسطي الذي عملت السلطات بشتى أنواعها على تغييبه كاملاً وتسطيح وجوده ضمن الشعارات السياسية. الآن عادت القناعة لدى المثقفين في ان التركيز على هموم المواطن سيعيد للانسان حقوق مواطنته المقدسة... صحيح. لكن لا اعلم ما اذا كان التغيّر لديّ مقصوراً أو جاء نتيجة تطور طبيعي. أتفق معك تماماً في استخدام مفردة "التغييب" التي مورست ضد المواطن العربي. التغييب كان موجوداً وما يزال في الكثير من الاماكن. أنا سعيدة لأن فيلمي تمكن من تسجيل التطوّر لديّ ومن تسجيل حال صحية جارية في المجتمع العربي. لكن، ومن دون اي نية في الجدل والسجال معك، يلاحظ أنك تواصلي تغييب الرجل في أفلامك. الرجال الموجودون في الفيلم إما معطّلون او جامدون او مقادون من النساء. لماذا هذا؟ - لا أعتقد انك عادل في ما تقول. لو أنك شاهدت فيلمي "الكفرة" لما توصلت الى هذا الاستنتاج. إنه فيلم عن الرجال فقط... لم أشاهد "الكفرة"، لكنني شاهدت افلامك الثلاثة الأخرى، وأنا أتحدث بالتحديد عن الأخير. - في فيلمي الجديد الذي أعده الآن "الحرب الصليبية الثالثة" نتحدث عن الرجال فقط ونتناول شخصيتي صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد. لا نساء في الفيلم. لا اعتقد ان غياب الرجل من اعمالي الثلاثة التي أشرت اليها أمر مقصود. أنا أرى النساء في غاية الطرافة وهن مريحات في العمل معي. في "شاشات الرمل" مثلاً لم يكن بإمكاني الحديث عن حرية المرأة من دون التعامل مع شخصيات نسائية. وفي "متحضرات" نقلت ما كان يدور خلال الحرب اللبنانية. كانت ملاحظتك انت محق فيها اذا ما اقتصرت المشاهدة على "شاشات الرمل" و"متحضّرات". لكن ألا تعتقد ان شخصية زياد الرحباني في الفيلم طريفة للغاية؟