ختمت زاويتي هذه امس بالقول انه اذا لم يساعد العراقيون انفسهم فلن يساعدهم احد، غير انني اعتقد ان العراقيين سئموا النصح، لذلك سأحكي لهم اليوم قصة وأترك لهم ان يختاروا منها العبرة التي يريدون او العبر. سأحكي باختصار رواية "لورد بمعنى سيد الذباب" لوليام غولدنغ، فهي بين اشهر روايات القرن العشرين، وهي تجمع بين ادب المغامرة والجدل العقائدي لتعبر عما يريد مؤلفها. هناك مجموعة من اولاد المدارس الصغار تلقيهم طائرة في جزيرة استوائية مهجورة بعد حرب نووية، ويجد رالف محارة كبيرة، وينصحه بيغي بأن ينفخ فيها بقوة، ويسمع الأولاد الصوت، ويبدأون الخروج من الغابة متجهين نحوه. وكان بين الخارجين جاك الذي كان يقود مجموعة من الأولاد ساروا كالعسكر وراءه هل هذه بدايات صدام؟. واختار الأولاد رالف صاحب المحارة لقيادتهم، وبدت خيبة الأمل على وجه جاك، إلا انه قبل القرار وذهب مع رالف وسايمون، الولد النحيل، لاستكشاف الجزيرة. وهم صعدوا الى قمة جبل فأدركوا مدى عزلتهم، إلا انهم قرروا ان الوضع يتيح لهم خوض مغامرة. وكانوا نازلين عندما اعترض طريقهم خنزير بري، ووعد جاك بأنه سيقتله في المرة المقبلة للإفادة من لحمه. وما لبث جاك ان نفذ فعلاً "وعد اللحم" الذي قطعه للآخرين، فهو يزحف بحذر وقد طلى نفسه بالوحل للتمويه، ويقتفي اثر الخنزير، اما رالف فهو يستعمل عدسة من نظارات بيغي وأشعل ناراً بأمل جذب الانتباه الى الأولاد ثم بدأ يبني ملجأ ليبيت الأولاد فيه، غير ان هؤلاء فضلوا اللعب مع جاك، وبدأوا يتبعونه في الصيد. وأصبحت المحارة رمز النظام في اجتماعات الأولاد، فالذي يمسكها له حق الكلام. وحتى جاك نفسه أدرك اهمية النظام وقال: يجب ان تكون هناك قوانين، وأن نطيعها فنحن لسنا متوحشين. عندما كان هناك نظام؟. وكان الأولاد يتطلعون الى مغامرة تاريخية في الجزيرة الى ان جاء ولد صغير زعم انه رأى في الغابة وحشاً يشبه افعى، ومنذ ذلك الوقت تملك الخوف الجميع، خصوصاً الصغار، وكان جاك يستغل هذا الخوف من الوحش ليجعلهم يمشون وراءه كم من وحش او عدو اخترع صدام ليبرر حروبه وبطشه؟. ومع مضي الوقت تخلى الأولاد عن قائدهم رالف، ووجدوا ابقاء النار مشتعلة امراً متعباً. وفي الوقت نفسه اصبحت اقوال جاك وأفعاله اكثر قسوة وغرابة، وكان يقلد صوت خنزير اثناء قتله ويفعل مثله اتباعه. ونفخ سايمون في المحارة لعقد اجتماع، وقال رالف انه لا يفهم ما يحدث، فالنظام بدأ يتلاشى وصرخ بيغي في المحارة: هل نحن بشر ام متوحشون. وقاطعه جاك، فقال له رالف انه خالف النظام. ورد جاك: لا يهمني الأمر. غير ان رالف أصر على اهمية النظام، ورفض جاك كلامه قائلاً: نحن اقوياء، نحن نصطاد. نحن نقتل الوحش... وحث بيغي رالف على النفخ بقوة في المحارة، إلا ان رالف لم يفعل لأنه أدرك ان قيادته انتهت هل هذا احمد حسن البكر، او النظام الملكي، او اي نظام حقيقي؟. في اليوم التالي ايقظ ولدان صغيران رالف، وقالا انهما وجدا الوحش في الغابة، ولكن عندما ذهب معهما تبين له ان الوحش المزعوم هو طيار تدلى مشنوقاً من حبال مظلته التي علقت في الشجر. وعلى الرغم من شرحه الموضوع للولدين، إلا انهما انضما الى جاك. وتبعهم رالف فشارك في قتل خنزير، غير انه بعد ذلك استرد وعيه هل هذا رمز الى العراقيين والعرب الكثيرين الذين تبعوا صدام حسين ثم وعوا؟. وتدهورت الأمور فقد قتل جاك وأتباعه خنزيرة وصغارها ولطخوا انفسهم بالدم ورقصوا وهتفوا حول رأس الخنزيرة الذي نصبوه على وتد تصفيات حزبية؟. غير ان سايمون الذي لم يصدق قصة الوحش منذ البداية، وقف بعد ذلك امام رأس الخنزيرة الذي غطاه الذباب، وقرر انه "لورد الذباب"، اي سيده، ثم تخيل ان الخنزيرة تحدثه وتقول انه كان يعرف ماذا سيحدث هل هي اشارة الى اعضاء الحزب الذين سكتوا على التصفيات، او الحروب؟. في النهاية، يفر رالف وبيغي الى الجانب الآخر من الجزيرة، ويطاردهما جاك وأتباعه، ويخرج رالف من وسط شجر الغابة كالمجنون ويعدو نحو الشاطئ حيث يسقط اعياء، وعندما يرفع رأسه يجد امامه ضابطاً بحرياً يسأله: هل تلعبون لعبة حرب؟ ويصل الأولاد الآخرون، ويسأل الضابط: من رئيسكم؟ ويقول رالف: انا. ويعود جاك ولداً صغيراً. ويوبخ الضابط الأولاد ولا يجد رالف ما يفعل سوى البكاء على "نهاية البراءة والظلام في قلب الإنسان..." هل هذا هو التدخل العسكري الأميركي؟. الرواية صدرت سنة 1959، قبل ان يبرز صدام حسين على الساحة قائداً، فهو كان في تلك السنة "مافيوزو" للحزب شارك في محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم. ولكن الرمز فيها ينطبق على العراق، أو ان انشغالي بموضوع العراق جعلني اراه في الرواية. والمؤلف غولدنغ يقول ان الحرية عظيمة، ولكن يجب ان تحميها الحضارة بقوانينها. ومع ذلك فرالف الذي يمثل القانون والتعاون وحرية الاختيار للجميع يخسر امام جاك الذي يملك "الكاريزما" ويمارس البطش، حتى يغوي الآخرين بممارسته. ويغلب الرمز العراقي من دون قصد في نهاية الرواية، فالمؤلف يختار لخاتمتها التالي: يستعد الضابط البحري الذي اوقف لعبة الصيد لنقل الأولاد من على الجزيرة الى سفينة حربية ستبدأ بعد ذلك البحث عن عدوها بالطريقة نفسها التي استعملها الأولاد مع "عدوهم". وعند ذلك من ينقذ الضابط البالغ وسفينته الحربية؟ من ينقذ "المنقذين" الأميركيين الآن؟ ارجو ان يكون العراقيون ادركوا ماذا حدث حتى اصبح الاستقلال نفسه مرتهناً لقوات اجنبية، وأرجو ان يفتح استشهاد محمد باقر الحكيم العيون على الكارثة المقبلة، إذا لم يغلب العراقيون الرأي الذي هو قبل شجاعة الشجعان، فلا يخرجون من كابوس الى اسوأ منه، وإنما يهتدون بنور الحرية.