مات جورج بيزيه عن 37 عاماً بعد ثلاثة أشهر على انتهائه من اداء أوبرا "كارمن". مات وهو في أوج عطائه بعدما تسلّم مهمات ووظائف لا يبلغها سوى الشيوخ، اذ كان رئيس جوقة أوبرا باريس ومدير الأوبرا الكوميدية وأحد أكثر الواعدين في رعيل نهاية القرن التاسع عشر عبر أوروبا كلها. الفيلسوف الألماني نيتشه الذي كان موسيقياً متمرّساً وناقداً فذاً في هذا المجال قال عن "كارمن" انها العمل الأوبرالي الأول يصدر من غرب أوروبا ملفوحاً بالروح المتوسطية، ولعلّ هذه اللفحة الدافئة، والواقعية الرومانسية الحادة، جعلت "كارمن" أكثر الأوبرات رواجاً حول العالم، على رغم طولها وصعوبة الأداء في بعض مفاصلها. فرقة الأوبرا الوطنية لمدينة باريس والأوركسترا السمفونية الفرنسية تضافرتا أكثر من مئة عنصر لتقديم "كارمن" على مدارج بعلبك، ليلتي أمس وأمس الأول، المفاجأة المذهلة ان الجمهور تدفق الى هذا العمل الأوبرالي، المفترض انه نخبوي بعيد من الذائقة الشعبية الرائجة في بلادنا، بأعداد شغلت كل المقاعد 5 آلاف. فاذا بالأوبرا الكلاسيكية تنتصر على جوني هاليداي وحتى على شيكاغو وتسجّل الرقم القياسي الأعلى في مهرجانات الصيف اللبناني، هذا العام. من الناحية الفنية، يمكن القول ان التنفيذ الإخراجي كان تقليدياً، كلاسيكياً، قليل الحركة، بل جرى التركيز على عنصري جودة الأصوات وأدائها، ونوعية الموسيقى، علماً أنها ليست، بالمقياس الأوبرالي العام، مميزة بقدر المقاطع الصوتية. ذلك ان كارمن، قبل كل شيء، قصة حب عاصفة بطلتها امرأة قدرية تلهو بالحب حتى الموت، فهي بجمالها الأخّاذ واغرائها الماحق تزرع الجحيم حيثما حلّت، خصوصاً في قلب الجندي دون خوسيه الذي يخون وحبيبته ميكاييلا وأمه. يقيم بيزيه في هذه الأوبرا الرائعة متوازيات تاريخية واجتماعية وموسيقية عدة، أهمها التطابق الدموي بين العشق العاصف ومصارعة الثيران. كارمن تهجر دون خوسيه من أجل مصارع ثيران يدعى إسكاميللو، وفي لحظة سقوط الثور على الحلبة بسيفه تتلقى كارمن نصل الحبيب المخدوع دون خوسيه في صدرها. لم تعرف فرنسا حتى ظهور دوبوسيه، بعد ثلاثين سنة، موسيقياً كبيراً بقامة بيزيه، كما انها لم تقدّر فناناً مثلما قدّرته طوال مئة عام ونيّف.