وقف الدكتور ابراهيم البصري خلف البوابة الخارجية لمنزله، مدخناً غليونه بهدوء، واومأ برأسه مطمئناً محدّثه وائل المطلب إلى أنه سيحقق في القضية التي قصده من أجلها، كما يفعل مع عشرات آخرين يصطفون يومياً امام منزله قرب ساحة بيروت. شكوى المطلب تتعلق بمنزل عائلته الذي لا يزال في أيدي غرباء منذ أن صادره أعوان صدام حسين إثر اعتقال والده لخمس سنوات واصابته بالعمى من جراء الصعق بالكهرباء. وقال الدكتور البصري ان التزامه متابعة مثل هذه القضايا يرجع الى ما عاناه من تعذيب وحشي على ايدي صدام. فقد شغل منصب الطبيب الشخصي للديكتاتور قبل ان يلقي به في زنزانة سجن رهيبة. واضاف: "اذا التقيت صدام في الشارع سأقتله". ويسعى الدكتور، منذ نيله حريته في نيسان ابريل الماضي بعد 13 سنة في السجن، الى تسجيل أسماء ضحايا النظام السابق ومساعدتهم. وهم يتدفقون على عيادة ملحقة بمنزله، خليطاً من سجناء سياسيين سابقين وأقرباء المعدومين ورجال شُوّهت أجسادهم ولا يمكنهم العمل لأنهم فقدوا ذراعاً او أذناً او قدماً بترت بسكاكين الجلادين. روى البصري: "كنت افكّر طوال الوقت الذي أمضيته في السجن: ماذا يمكن ان أفعل لمساعدة هؤلاء الاشخاص"؟ وبعد خروجه من السجن فتح عيادة مجانية يسميها "الجمعية الانسانية العراقية لضحايا نظام صدام". وتسانده مجموعة تضم سبعة أطباء محامين على تقديم المساعدة إلى المحتاجين. بعض المراجعين يطلب علاجاً طبياً، وهو ما يقدمه مجاناً في معظم الأحيان. ويطلب آخرون، مثل المطلب، مساعدة قانونية كي يستعيدوا ممتلكات صودرت في ظل النظام السابق. ويأتي كثيرون لمجرد التماس الحصول على وظائف أو مساعدة مالية. سُجن البصري، وهو طبيب متخصص في العظام، لأنه رفض أن يحتلذ مقعداً في "المجلس الوطني"، البرلمان الصوري لصدام حسين. وعندما اُطلق من السجن في 10 نيسان ابريل الماضي، بعد يوم من استيلاء القوات الاميركية على بغداد، لم يجد إلاّ البقايا المهشمة لحياته السابقة التي كان فيها شخصاً مشهوراً ويحظى برعاية الرئيس المخلوع. وكان قبل ان يُسجن يقدم برنامجين تلفزيونيين عن اللياقة البدنية، ويصدر صحيفة، ويخرج مسرحيات، وكان رئيساً لاحدى كليات بغداد. في 1975، عندما كان صدام نائباً للرئيس، استدعى البصري ليكون طبيبه الشخصي. "لم يخترني لأنني كنت الأفضل، بل لأنني كنت مشهوراً. اذا طلب صدام منك ذلك، سيقتلك اذا قلت لا". وعلى امتداد 15 سنة، سارت الأوضاع على ما يرام. وتولى الطبيب العناية بآلام الظهر التي يعانيها صدام، بسبب حالة "ديسك"، وكان يطريه خلال جولات سباحة طويلة اعتادا القيام بها مرة في الشهر على الأقل. "كنت أعرف أين يكمن الضعف فيه". يقول ان صدام "كان ذكياً. كان يقرأ كثيراً، ويحب أن يعرف عن كل شيء". كان يدخن بافراط، ويشرب الويسكي باعتدال، ويمارس الجنس مع امرأة او امرأتين في اليوم. لكن مزاج الديكتاتور كان يتقلب تقلباً حاداً، من الشعور بالنشاط الى نوبة غضب مخيف يمكن خلالها أن يأمر بقتل رجل حتى لمخالفة تافهة. "صدّقني، كان وحشاً. ولكن كي تصبح وحشاً ينبغي ان تملك ذكاءً". ومن الأمثلة التي ساقها البصري على المزاج السادي لصدام، العقاب الذي انزله بمدير مستشفى عسكري، اذ اُطلقت كلاب متوحشة على هذا المسؤول الذي فقد عينيه في الاعتداء المسعور. واُرسل فيلم يصوّر مشاهد العملية المريعة الى البصري وأطباء آخرين. كيف أصبح ضد صدّام؟ واشار الطبيب الى انه تحول ضد الرئيس المخلوع في أواخر الحرب مع إيران 1980-1988، وان احدى المسرحيات التي اخرجها تضمنت نقداً مبطناً للرئيس. وكي يثبت ولاءه، أمر مسؤولون في النظام البصري بأن يشغل مقعداً في "المجلس الوطني". استعاد الطبيب ما حدث: "قلت ان ليس لدي أي وقت كي أرفع يدي وأنزلها. لم أكن أريد ان أصبح دمية". وفي السجن، حيث استمرت محنته 13 عاماً، كان يتعرض للضرب على نحو روتيني في مسعى فاشل لإجباره على استجداء عطف صدام ورأفته عبر تقديم اعتذار. "خلال السنوات الخمس الاولى وضعوني في زنزانة لوحدي، مترين بمترين ونصف متر، حيث كنت لا أميز الليل من النهار". وذات مرة ضربه الحراس أمام 300 من نزلاء السجن حتى كسروا ساقيه. "لم أقل ابداً: الرأفة. كنت أقول فقط: عراق". وأضاف البصري انه لا يزال يخشى أعداءه، ويحتفظ بمسدس في منزله كي يحمي نفسه من اي اعتداء ينفذه موالون لصدام. وان كثيرين من مراجعي عيادته يخشون التكلم عن المعاملة الوحشية التي عانوها في عهد النظام السابق. وللشروع بعملية التنفيس، بدأ يصدر صحيفة اسبوعية اسمها "الضحية". وعن مصير صدام، مهندس عمليات القتل والترويع، توقع البصري انه لن يُقبض عليه حياً، بل سيقضي في مشهد تحدٍ ملحمي أخير. "سيجعل منه استعراضاً مسرحياً. وسيؤدي المشهد الأخير. سيكون الأمر كله بالغ الإثارة". وأشار إلى انه ممتن للتخلص من صدام، لكنه لن يعتبر بلاده محررة حتى تنشأ حكومة مستقلة فاعلة.