قادتني قدماي الى الهايدبارك، في الايام الاولى من وصولي الى لندن. كانت الشمس ناصعة، والمتعة والفرح تملأ الوجوه، والشعور بالامان يضفي على المكان سحراً جميلاً. الا ان كل هذا لم يمنع الافكار والتداعيات ان ترحل بي بعيداً نحو "سجن الرضوانية الشهير في بغداد". بالتأكيد، يستحضر العقل البشري هذه المفارقة الحادة. فبين سجن الرضونية والهايدبارك مسافة الموت والحياة، الكره والحب، القتل والسلام. فاذا زرع الهايدبارك بآلاف الاشجار، وزيّن بالحدائق، كي يشعر الانسان فيه بالسعادة والمتعة، ففي سجن الرضوانية بنيت آلاف الغرف الكاتمة الصوت، المفرغة من الاوكسجين، واستحدثت اخطر وسائل التعذيب، وفن الذبح، والفزع النفسي. في احدى غرف الامن، تحت الارض، والتي لا تتجاوز مساحتها المتر ونصف المتر طولاً وعرضاً، ولا تُرى حيطانها من الظلام الا بصعوبة، كُبلت قدماي، ويداي بالاصفاد، وربطت بأنابيب تحيط بالغرفة الزنزانة، صممت لربط البشر في اعماق الارض، خوفاً عليهم من الهروب الى سطحها…! تعرفت على هذه الارض المجهولة، ابان فترة انتفاضة الشعب العراقي ضد صدام حسين في 1991. وقابلت فيها بشراً على خلاف البشر: اجسادهم آدمية، وعقولهم ممسوخة، وغرائزهم غرائز الكواسر والوحوش في لحظة الجوع. القتل عندهم ثواب، وتتعذيب البشر حلال وفضيلة، وقتل الانسان رزق يومي، ومكافأة لمرتب شهري اضافي. اما تسليتهم، فهي لعبة نزع اظافر السجناء، وكشف لون اللحم تحت الجلود، ومشاهدة حلقات رقص الابرياء السجناء على انغام الكهرباء والصعقات الالكترونية. واذا ما عطشوا، بعد تعب من الضرب بالسياط على اجساد الابرياء، شربوا كأساً من دم سجين معذب، ورفعوا كؤوسهم، وهتفوا "يحيا نصر القتل". وفي المساء، اذا ما دب دبيبها، وصعدت حمتها في النفوس، صعد الحقد معها، وامتزج بالتسلية، وطفح زبد الجريمة، وثارت غريزة القتل والدم، ونادت نفوسهم المريضة. ارسلوا حاجبهم الى اقرب زنزانة، كي يلتقط ما وقعت عليه عيناه، وتمتد يداه الى فرائس بريئة، ضاعت في متاهة السجون، كي يتدربوا عليها ويدربوا احدث وسائل القنص البشري. وكم مرة جرب صدام كامل بمسدسه هذه اللعبة، كما مارسها علي حسن المجيد آلاف المرات برشاشته الفضية الخاصة. لقد صدقت كل ما كنا نراه في افلام الخيال العلمي، حول مجاهل الكون العجيبة، واشكال المخلوقات، وصورها المخيفة، بعد ان حطت مركبة عبوري في كوكب الرضوانية، المنفلت من مدار الارض، والمتحرر من سلوك البشر. فكلام حرس سجن الرضوانية، عض وضرب، والابتسامة سب وطعن بالشرف والاعراض. اما نداء السجناء والتخاطب معهم، فهو رفس بالكلي، وضرب بالسوط. اما شفرة التعذيب، ونوعه فتعتمد على الاشارة، وتقطيب حاجب، وتحريك شفة، فلا ينطق المحقق، بل يكتفي بأن يهز اذنه، فتأتيك حزمة من السياط، واذا ما حرك رمشاً او حاجباً، جاء خدمتها بصنف واذا ما خفض المحقق رأسه، استقرت بسرعة البرق كتلة الاسمنت الصلد زنة الواحدة 252 كيلوغراماً، على الوجه والصدر والاذن والرأس. وسعيد من فلت رأسه منها، والا غادر الحياة. اما الصعقات الكهربائية، فلم استطع حل شفرتها اللغوية، فهي على ما يبدو لها عدة خطوط رمزية وهي على كثرة تطبيقها عليّ، لم اصل الى اسرارها،وسوف تكون بحثاً مبتكراً، للمشتغلين بعلم الاشارات الجديدة، وحل شفرة لغة الارهاب والتعذيب في العراق. اكتشفت في رحلتي ارضاً، لم يمر عليها المكتشفون، ولم تعبر فضاءها طائرات التجسس الاميركية الخفية. في هذه الارض تتوقف ذبذبات الرادارات، واجهزة الانصات، فلا تسمع فيها تنهدات المذبوح، ولا نداء المستغيث من النار والحديد المجمر، والماء الحار. امامستشفيات الرضوانية، وعياداتها الطبية، فكثيرة وبعدد الغرف والزنزانات، كادرها الحرس، وفيها صنف جديد من الاطباء الحرس تخرج من مدرسة غسل العقول، لا تؤمن الا بدواء واحد للمرضى المعارضين هو القتل. اما اذا ارادوا فحص فصيلة دم مرضى التعذيب، وبول الدم، وانحباس المجاري البولية، فكانت طريقتهم بغرز السياخ الشيش في الصدور والعيون والوجوه، او قطع الاوردة والشرايين بالحربة والسكين. ودائماً تظهر نتيجة الفحص Dead+، ميت فوراً، ودون تأخير. ويأتي في تقرير مستشفى الرضوانية "مات بداء المعارضة والمقاومة، ضد شيخ العشيرة، ووارث شجرة الاصول". لا يؤمن دستور الرضوانية بدفن الموتى، واحترام الميت، فاذا مات احد منا في قاعة او زنزانة، فالطريقة الوحيدة المسموح بها، والمتبعة في تشييعه، هي سحله سحلاً. وبعد تجميع حصاد الليل من الموتى في باب القاعة او الزنزانة يتم نقلهم في الصباح في سيارة النفايات، ليتم توزيعهم وفقاً لنظام الحصص الذي ينص عليه دستور الرضوانية. مررت في رحلتي في ارض الرضوانية بناس على هيئة البشر، نفوسهم وسجلاتهم المدنية مع الوحوش، وقوائم الشياطين، التمثيل بالانسان عندهم تسلية، وقضاء وقت، ولعب ورق في اثناء الفراغ. اما في اثناء الواجب، فالقتل رزق بالحلال، احلته شريعة الرضوانية، ودستورها. اتصدقون ان حارساً من حراس سجن الرضوانية وهو مثال للآلاف، انفتحت قريحته للكلام، فقام فينا خطيباً ومهدداً، وقال بالحرف الواحد "انا متعيّن جلاد. اريد ان احلل من الحلال رزقي وخبزتي فلا بد ان اقتل واعذب". بعدها عرفنا ان هناك اصنافاً من الحرس، منهم الجلادون، ومنهم متخصصون بالاعدام ووسائله، ومنهم بنزع اظافر السجناء… الخ. وكل فئة تتلقى رواتب مختلفة. كما ان هناك رواتب تشجيعية، لمن اصطاد اجساداً آدمية اكثر، او استل معلومات قيمة بالسوط. هؤلاء جيش الرضوانية، وجدار صدام الامني، غسل النظام ادمغتهم، منذ ان كانوا اطفالاً، ووضعهم في مدارس خاصة، لا يتعلم فيها الطفل القراءة والحساب، وفن الجمال والرسم، بل فن الحقد والكراهية. بهؤلاء بنى صدام مملكة القتل، وبهؤلاء استطاع ان يخمد صوت العراقي، ويذبحه ذبح الشاة.