ساد اعتقاد في الآونة الأخيرة أن النمر العربي انقرض، اذ لم يعد يشاهد في براري شبه الجزيرة العربية. لكن صوراً نادرة التقطت حديثاً في جبال عُمان تثبت أنه ما زال موجوداً هناك. وللنمر العربي ملاذ آمن في محمية جبل سمحان الطبيعية في عُمان، حيث نصبت آلات تصوير خاصة لرصده. وقام اختصاصيو الحياة الفطرية بامساك عدد من النمور وتطويقها بأطواق متصلة بالأقمار الاصطناعية لتتبع تحركاتها. الدكتور أندرو سبالتون، من مكتب مستشار حفظ البيئة في ديوان البلاط السلطاني، كتب ل"البيئة والتنمية" هذا التحقيق عن النمر العربي وبرنامج مسح اعداده وحمايته في موائله الطبيعية. وتولى خليفة بن حمد الجهوري ترجمة التحقيق عن الانكليزية. النمر العربي هو أكبر أنواع القطط الباقية في شبه الجزيرة العربية. اسمه العلمي Panthera pardus nimr، وهو أحد الأنواع المهددة بالانقراض بحسب القائمة الحمراء في الاتحاد العالمي لصون الطبيعة والموارد الطبيعية، ومدرج أيضاً في الملحق الأول من الاتفاقية الدولية "سايتس" التي تحظر المتاجرة بالأنواع المهددة. ويصنف النمر العربي في سلطنة عمان كأحد الأنواع المهددة في شكل حقيقي. ووضع تحت الحماية من الصيد أو الامساك كغيره من الثدييات الكبيرة. و"النمر" هو الاسم العربي الفصيح لهذا النوع، ويطلق عليه محلياً في محافظة ظفار اسم "قضر". وعرف في السابق بوجوده في محافظة مسندم وسلسلة جبال الحجر وجبال ظفار، بيد أن عوامل الصيد والقتل أدت الى اختفائه من جبال الحجر عام 1976، وبقيت أعداد قليلة منه في مسندم في منتصف الثمانينات. لم يكن الكثير معروفاً عن النمر العربي في ذلك الوقت. وأفادت التقارير الواردة من محافظة مسندم أنه على حافة الانقراض، في حين كانت التقارير الواردة من أهالي محافظة ظفار تشير الى وجود أعداد كبيرة من النمور في المناطق الجبلية. وفي عام 1997 أولت وزارة البلديات الإقليمية والبيئة وموارد المياه اهتماماً بالغاً لتأمين بقاء النمر العربي في موطنه مستقبلاً، وهو العام الذي أعلنت فيه منطقة جبل سمحان محمية طبيعية. وتم اعداد خطة لادارة المحمية وتوظيف مراقبين من السكان المحليين لتوفير الحماية للنمور والحياة الفطرية. ويعد جبل سمحان المنطقة الأكثر ارتفاعاً في السلطنة، حيث يعلو منحدره الجنوبي حوالى 1900 متر عن السهل الساحلي. وخلال أشهر الصيف ترتفع الغيوم بفعل الرياح الموسمية، وتسقط على طول المنحدر في ما يشبه المد البحري. ويؤدي هذا الى توافر كميات كبيرة من مياه الندى الضرورية لحياة النباتات والحيوانات في الجبل. وتتحول جبال غرب صلالة الى واحات استوائية خضراء، فيما لا يصل الى المناطق الداخلية الجافة من جبل سمحان إلا القليل من الغيوم المتفرقة. وتبلغ درجة الحرارة في الجبل 45 درجة مئوية صيفاً. وهو لم يشهد سقوط أي أمطار خلال الأعوام الستة التي سبقت 1997. في العام الذي أعلنت خلاله منطقة جبل سمحان محمية طبيعية، قام مكتب مستشار حفظ البيئة بالتعاون مع وزارة البلديات الإقليمية والبيئة وموارد المياه ومكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار بتدشين مشروع مسح النمر العربي. وكان الهدف من المشروع التأكد من وجود هذا النمر في جبل سمحان، وجمع أولى البيانات عن هذا النوع البري لاستخدامها في وضع خطة لإدارة المحمية والمحافظة على بقاء النمر العربي فيها. فعلى سبيل المثال، سيتم معرفة كم نمر هناك، وكيف تعيش، وعلامَ تتغذى، وهل تتكاثر في شكل جيد. هناك أسئلة كثيرة لا حصر لها ستستغرق الإجابة عنها أكثر من ثلاث سنوات مقبلة. وتعدّ محمية جبل سمحان بيئة صعبة للعمل الميداني. فالجبل تشقه أودية سحيقة جافة وضيقة تتميز بكثرة الالتواءات والانعطافات بين المرتفعات الشاهقة، ولا يمكن عبوره إلا على الأقدام في الممرات المتعرجة صعوداً وهبوطاً. ويرى سالكو هذه الممرات آثاراً لبعض الحيوانات كالنمور والذئاب، مما يعني أنها تستخدم الطرق ذاتها التي يمر بها الإنسان في الجبل. ونظراً الى استحالة مشاهدة النمر بالعين المجردة في البراري، بدأت عملية المسح بالبحث عن دلائل وجوده في الجبل. وفي أيلول سبتمبر 1997 قام الباحثون بمساعدة مرشدين محليين بقطع مسافات شاسعة مشياً على الأقدام، عابرين تلك الأودية السحيقة والممرات المتعرجة، وأحصوا مختلف الدلائل التي تشير الى وجود النمر، مثل الخدوش والبراز وآثار البول وبواعث الرائحة وآثار الافتراس. كما قام مكتب مستشار حفظ البيئة ببرنامج مشترك مع جامعة ابردين في المملكة المتحدة لجمع عينات البراز وتصنيفها ووضعها لاحقاً في ثلاجات تجميد وإجراء التحاليل عليها لمعرفة نوع الغذاء الذي يأكله النمر. وأوضحت النتائج أن الكمية الكبرى من غذائه تشمل الوعل النوبي والوبر الصخري والغزال العربي والنيص الهندي والحجل العربي الأحمر الساقين. ولم تثبت التحاليل وجود عناصر من أغنام أو جمال. تضمنت المرحلة التالية لمشروع المسح نصب آلات تصوير فخّية في المواقع التي عثر فيها على دلائل وجود النمر. وآلات التصوير هذه تعمل آلياً من دون حاجة الى تدخل الإنسان، فتقوم بالتصوير عند مرور أحد الحيوانات خلال حزمة الأشعة تحت الحمراء التي تبثها. وتم نصب 13 آلة تصوير فخّية في أواخر أيلول 1997. وخلال السنوات الثلاث التالية كان الباحثون يزورون محمية جبل سمحان بمعدل مرة كل شهرين لتجميع الأفلام من آلات التصوير وتغيير بطارياتها ووحدات الأشعة تحت الحمراء. ولم تأت النتائج سريعة، فقد كان من يمن الطالع أن يحصل الباحثون على أكثر من صورة واحدة من كل آلة تصوير في الشهر. وكان هذا مؤشراً أولياً على وجود النمر في أعداد صغيرة ومناطق انتشار واسعة. وبمرور الوقت بدأت الحقائق تنجلي حول حياة النمور في الجبل. فهي تعيش في عزلة عن بعضها بعضاً، على رغم التقاط آلات التصوير المنصوبة في الجبل صورة لنمرين معاً وأخرى لأنثى مع صغيرها. وتنفرد أفراد النمور بوجود بقع مختلفة أو خطوط وردية على أجسامها تجعل من تمييزها أمراً يسيراً بدلاً من استخدام رقع الأذن أو الأطواق. وكبقية أنواع النمور، تجول الذكور والإناث في أقاليمها أو مناطق انتشارها فقط. بيد أن أقاليم النمور العربية في جبل سمحان لا تتسم بهذه الخاصية الى حد كبير، فهناك تداخل واضح بين هذه الأقاليم ذات المساحات الواسعة. ولا توجد النمور في المناطق المتداخلة في الأوقات ذاتها، فالذكور مثلاً تسلك طرقاً بعينها ولكن في أوقات مختلفة. بدأت في أيلول 2000 مرحلة جديدة من مشروع مسح النمر العربي، تهدف الى الإمساك بعدد من النمور، وتطويقها بأطواق متصلة لاسلكياً بالأقمار الاصطناعية تحتوي على نظام تحديد المواقع العالمي GPS من أجل تتبع تحركاتها في جبل سمحان. وبمساعدة طائرات مروحية تم نقل ستة فخاخ الى الجبل وتجهيزها، مع إبقائها مغلقة حتى توقيت عملية الإمساك. وفي شباط فبراير 2001 أقيمت ثلاثة مخيمات موقتة في الجبل. وبدأ الباحثون وبصحبتهم عدد من مراقبي الحياة الفطرية مهمة الإمساك بالنمور، التي استغرقت سبعة أسابيع قبض خلالها على أربعة نمور عربية. وكلما تم الامساك بنمر، كان يجري استدعاء الطبيب البيطري من صلالة للمساعدة في تخديره من أجل تطويقه بطوق نظام تحديد المواقع العالمي، وبعد ذلك يترك ليواصل حياته المعتادة في الجبل، ويسجل الجهاز المثبت على الطوق تحركاته كافة. وفي بداية 2002 استعيدت أولى الأطواق، التي صممت بحيث تسقط آلياً من النمور بعد فترة من الزمن. وقام الباحثون بإدخال البيانات المخزنة فيها الى أجهزة الحاسوب. وكانت المعلومات المعطاة واضحة جداً، فعلى سبيل المثال، أمضى أحد النمور 80 في المئة من وقته على المنحدر، واستخدم نطاقاً تزيد مسافته على 45 كيلومتراً من الغرب الى الشرق. عام 2001، تم توسيع نطاق نصب آلات التصوير الفخّية ليشمل المرتفعات الخضراء لجبال القَرى والقمر خارج حدود منطقة جبل سمحان. وفي تشرين الأول أكتوبر من ذلك العام قام الباحثون وعدد من مراقبي الحياة الفطرية باجراء مسح لبعض الأجزاء من جبال القَرى والقمر لتحديد الأماكن التي يحتمل وجود النمر العربي فيها. واختيرت ثلاثة مواقع نصبت فيها مجموعة من آلات التصوير الفخّية في كانون الثاني يناير 2002. وبعكس منطقة جبل سمحان غير المأهولة، تضم جبال القرى والقمر مستوطنات بشرية كثيرة. ويقوم مراقبو الحياة الفطرية هناك بمراقبة آلات التصوير وتعريف الأهالي بدوافع اجراء هذا العمل وأهمية المحافظة على النمر والحياة البرية الأخرى. وظهرت في أوائل الصور الملتقطة نمور في موقعين من المواقع الثلاثة التي نصبت فيها آلات التصوير. كما ظهرت في بعضها الضباع المخططة والذئاب العربية وقط غوردن البري والزريقاء الأفريقية المنقطة والغرير العسلي والنيص الهندي والنمس الأبيض الذيل والوبر الصخري والقنفذ الأثيوبي. وبعكس جبل سمحان، أوضحت الصور أيضاً وجود الوشق. في حين اختفى النمر العربي من معظم أرجاء شبه الجزيرة العربية، فانه لا يزال حاضراً في جبال ظفار. وأفرز مشروع مسحه معلومات أولية على هذا النوع البري في محمية جبل سمحان الطبيعية، التي تعد معقله. وهو يوجد في جبال غرب صلالة. ونظراً لعيش النمر العربي بالقرب من التجمعات السكانية في جبال القرى والقمر، خلافاً لحاله في جبل سمحان، فان العلاقة بينه وبين الإنسان هناك باتت بحاجة ماسة الى دراسة مستفيضة إذا ما أريد صون النمور في المناطق الواقعة خارج حدود المحميات الطبيعية. ويمكن اعتماد عدة أساليب في ذلك، تشمل التتبع بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي المتصل لاسلكياً بالأقمار الاصطناعية لتحديد تحركات النمر ضمن المستوطنات البشرية، وتوزيع استبيانات على الأهالي للمساعدة في فهم ما يعنيه النمر لهم وتحديد احتياجاتهم. وهناك تقنيات أخرى تعنى بالنظر في كيفية عيش آكلات اللحوم الكبيرة جنباً الى جنب مع البشر والماشية، تشمل استخدام التحاليل الجينية من طريق جمع عينات من البراز في الجبل وتحليلها جينياً لتحديد ماهية الحيوان الذي خلفها، أكان نمراً أو ذئباً أو ضبعاً. وفي أواخر العام 2002 نجح باحثون في جامعة السلطان قابوس في عزل الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسيجين DNA من دم النمر، وقريباً سيبدأ تحليل عينات من برازه. إن استخدام مثل هذه التقنيات واجراء دراسات أخرى على الحمية الغذائية، قد يساعدان على تحديد المواقع التي ترتادها النمور والتحقق من ضلوعها في افتراس الماشية. إن مستقبل بقاء النمر العربي في جبال ظفار يكمن في مدى ادراك السكان المحليين لأهمية المحافظة عليه في بيئته الطبيعية. ويرى كثيرون أن النمر يشكل خطراً داهماً على حياتهم وحياة أسرهم، شأنهم في ذلك شأن آبائهم وأجدادهم. لذا فان تغيير هذا النمط الفكري يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى استيعاب الأهالي لقيمة الصون وفوائده، من خلال تعريفهم مثلاً بالطرق التي تحقق لهم منافع مادية في تطبيق برامج الصون، كتوظيفهم مراقبين للحياة الفطرية أو مرشدين لزوار مناطق الحياة البرية. بيد أن الحل الأنجع هو غرس الوعي العام للقيمة الحقيقية لكل أشكال الحياة، وذلك من طريق العمل المستمر والمتجدد لبرامج التوعية والتربية البيئية، خصوصاً للأطفال وطلاب المدارس في محافظة ظفار. ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" عدد تموز - آب /يوليو - أغسطس 2003.