من الواضح أن المقاومة في العراق ضد الوجود الأميركي غدت ضيفاً يومياً على وسائل الإعلام، سواء بفعالياتها، أم بالتصريحات والتعليقات الواردة حولها من مختلف الفرقاء، فضلاً عن الأخبار المتعلقة بتداعياتها على الجنود الأميركيين ومعهم على الداخل الأميركي. هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه في سياق تحليل هذه الظاهرة الجديدة في المعادلة الاقليمية، لعل أهمه ذلك المتصل بالسرعة الفائقة لردة الفعل العراقية على الاحتلال، كما لم يحدث مع الشعوب الأخرى التي واجهت ذات التجربة، ولذلك بالطبع دلالة بالغة الأهمية هي ان جزءاً لا بأس به من الشارع العراقي لا يبدو بعيداً عن مشاعر الرفض والكراهية للغطرسة الأميركية السائدة في الشارع العربي، كما لا يبدو وأجياله الشابة بمعزل عن فضاءات الجهاد والاستشهاد التي غدت معلماً من معالم السنوات الماضية. الذي لا بد من قوله ابتداءً هو أن ما جرى حتى الآن لا يبدو سهلاً ولا هامشياً بحال، سيما حين يقرأ من زاوية ردة فعل الجنود العاملين في العراق وصراخهم من "المستنقع" الذي وقعوا فيه، وشكاواهم لرامسفيلد، فضلاً عن ردة فعل الحال السياسية الأميركية، حيث تسود مصطلحات "فيتنام" و"الصومال" و"حرب العصابات" و"حرب الاستنزاف"، و"المستنقع"، و"الورطة" ومعها دعوات تهيئة النفس لسنوات عصيبة في العراق. تزداد أهمية ذلك كله حين نتذكر أن ما جرى ليس سوى البداية، لأن من العسير القول إن الشارع العراقي قد نضج واقعياً لإطلاق المقاومة، إذ أن حاجاته الأساسية لا تزال الأكثر إلحاحاً في وعيه، خصوصاً ذلك الحد الأدنى من وجود الدولة في حياته، حتى لو كانت دولة تابعة للاحتلال قد يقاومها بعد ذلك. تلك قضية مهمة لا بد من الاشارة اليها، وهي ذات وجهين، الأول قد يراه البعض سلبياً، بالقول ان ظروف المقاومة لم تنضج بعد، أما الثاني فهو ايجابي بالقول انه اذا توفر هذا المستوى من الأداء في ظرف غير ناضج، فما الذي سيحدث عندما تتهيأ الأجواء؟ هناك مسألة تحديد القوى التي تمارس المقاومة في الساحة العراقية، ذلك أن قدراً من الارتباك ربما ساد الدوائر الأميركية في سياق تحديد "العدو" أو "الأعداء"، ولعل استقراء تصريحات المسؤولين الأميركيين السياسيين والعسكريين بين يوم وآخر يشير الى مدى ذلك الارتباك، مع توفر قاسم مشترك بينها يتمثل في ربطها أي المقاومة بأنصار الرئيس العراقي صدام حسين أو فلول البعث وفدائيي صدام. والحال ان هذا القاسم المشترك هو الكذبة الأوضح، نظراً لأن أحداً لم يقاتل من أجل صدام حسين ونظامه، فيما يبدو كذبة مقصودة تهدف الى حرق المقاومين شعبياً، إذ ما من شيء يمكن أن يسيء اليهم أكثر من ربطهم بنظام مكروه مثل النظام السابق. لا ينفي ذلك بالطبع أن يكون أحد العاملين في أروقة النظام السابق قد ساعد أو شارك في أعمال المقاومة، لكن الثابت هو أن ذلك لا صلة له البتة بوجود صدام حسين على قيد الحياة، أو بأشواق عودته الى الحكم من جديد. من المؤكد ان خطابات صدام حسين المسجلة منحت بعض الصدقية لمقولة الربط بين المقاومين وفلول النظام السابق، غير أن التدقيق في ثنايا الكلام يبين أن الرجل قد اجترحه بناء على معلومات حول الوضع على الأرض، وإلا فلماذا كان التركيز منصباً على الخطاب الاسلامي الجهادي؟! لا حاجة هنا لاستعادة أقوال السياسيين والعسكريين الأميركيين حول عناصر المقاومة وجماعاتها، وان بدا أن ثمة عنصراً مشتركاً آخر في السياق هو القول ان المقاومة لم تبلغ حد التنظيم المحكم، أي وجود قيادة توجه على النحو المعروف في التنظيمات العسكرية. سؤال الجهات التي تقف خلف المقاومة ما زال غير محسوم تماماً، غير أن من السهل تحديد ملامح تلك الجهات والرؤى التي تحكمها من خلال استقراء لواقع الحال في العراق، ومعه معلومات توفرت من هنا وهناك. يمكن القول ابتداء ان قصة التنظيم لا تتوفر بالفعل لكل العاملين في المقاومة، بيد أنها قد تتوفر على نحو ما لجماعات منهم، أي أن ثمة مجموعات لها صلة ببعضها البعض وتعمل وتتحرك على نحو أقرب الى شكل من أشكال التنظيم. انهم في الغالب شبان من الاسلاميين السنة عاشوا على تراث المقاومة في فلسطين ولبنان، وعلى خطاب الكراهية للولايات المتحدة السائد في الساحة العربية والاسلامية، سواء بلونه الشعبي المتداول، أو بلونه "البنلادني" كما يشير البعض. والحال أن لبعض أولئك الشبان صلات سابقة وأخرى قائمة بتنظيمات اسلامية على رأسها الاخوان، وان لم يتحركوا تبعاً لقرار تنظيمي، فيما ليست لآخرين أية صلات مشابهة. هناك أيضاً فريق محدود من المتطوعين العرب الذين لم يغادروا العراق بعد أن وفدوا اليه للجهاد، فضلاً عن أناس ربما جاؤوا عقب الهزيمة عندما بدأت المقاومة، ولا يستبعد أن يكون لبعض هؤلاء صلات ب"القاعدة" أو نهجها الباحث عن أية جبهة لقتال الأميركان. ثمة بعد مهم هنا هو أن هذه المجموعات آخذة في الاتساع، ولا يستبعد أن تتبلور في صيغ تنظيمية لها نشاطات سياسية واعلامية، بل ان بالامكان القول ان شيئاً كهذا قد بدأ فعلاً باعلان حركة المقاومة الاسلامية الوطنية العراقية التي يبدو أنها المجموعة الفاعلة في الميدان، والتي يتوقع أن يتطور أداؤها السياسي والإعلامي خلال الأسابيع والشهور المقبلة. المسألة اذن لم تعد مجرد ردود فعل، بل هي حركة مقاومة وجهاد حقيقية لن تتوقف إلا بخروج الأميركيين من الأراضي العراقية، وهي لا تبدو معنية بردود فعل الآخرين حيالها، سيما من طرف القوى السياسية التي ما زالت تراوح في موقفها، فيما يجمعها موقف رفض الانخراط في هذا السبيل. وقد حصلت هذه الحركة على دعم واضح من طرف العلماء السنة بعد تجمع مسجد أم القرى وخطبة الشيخ حارث الضاري يوم الجمعة 18/7. نأتي هنا الى مواقف القوى السياسية من اعمال المقاومة، ذلك ان اصرار تلك القوى على العمل السلمي في الوقت الراهن لا يعني وحدة مواقفها حيال المقاومة. اذ كان موقف معظم القوى الشيعية سلبياً، حيث تردد مقولات الاميركيين حول علاقة المقاومة بفلول النظام السابق وأضرارها بمصالح العراقيين. والحال ان ذلك لا يبدو مقنعاً، فلا المقاومون هم من انصار النظام السابق، ولا اعمالهم تضر بالعراقيين، بل ربما دفعت المحتلين الى تحسين شروط تعاملهم مع الناس وحاجاتهم املاً في تحسين صورتهم وتوفير المزيد من المتعاونين معهم ولا شك ان التسريع بانشاء مجلس الحكم انما كان ثمرة من ثمار تصاعد المقاومة. بالنسبة للقوى السنية يمكن القول ان موقفها لم يكن بذات المستوى من السلبية حيال المقاومة، سيما الحزب الاسلامي الذي لم يوجه لها انتقادات مباشرة وان اعلن التزامه المسار السلمي فيما كان الوضع خلاف ذلك من طرف رموز سنية علمانية مثل الجادرجي والباجه جي. نعود الى الموقف الشيعي، فهو وان بدا من العسير وضعه في سلة واحدة الا ان موقف المجلس الاعلى يبدو مهماً نظراً لدلالته على المقاربة السياسية الايرانية التي تميل الى الاكتفاء بالعمل السلمي املاً في حصد نتيجة افضل داخلياً، ومعها تخفيف الضغوط الاميركية التي سيستفزها اي تدخل ايراني في الشأن العراقي لصالح اسناد المقاومة. وقد جاءت تصريحات خاتمي حول القضية بمثابة تأكيد لهذا التوجه، فيما بدا ان حصول الشيعة على 56 في المئة من مقاعد مجلس الحكم يشكل دليلاً على صحة تلك المقاربة، مع ان معظم تلك المقاعد لم تكن شيعية بقدر ما كانت "اميركية". يجدر بالذكر ان الموقف الايراني لا يبدو موحداً تماماً حيال المقاومة، فالمسافة لا تخفي بين تصريحات خاتمي وتصريحات رفسنجاني، وهو ما ينطبق على الوضع الشيعي العراقي والمسافة بين المجلس الاعلى ومجموعة مقتدى الصدر. في سياق اسئلة المستقبل، مستقبل المقاومة، لا شك ستحضر قصة مجلس الحكم الجديد كمسار يمكنه لجم المقاومة، غير ان ذلك لا يبدو صحيحاً، اللهم الا اذا آمنا بقدرة هذا المجلس ذي الصبغة الاميركية على التوفيق بين مطالب العراقيين المعاشية اولاً، والمعنوية لاحقاً مشاعر الاستقلال والكبرياء الوطني والانتماء الى الامة وبين شروط الاحتلال ومصالحه، وهو الامر الذي يبدو صعباً وربما اقرب الى المستحيل. والحال ان تركيبة المجلس وصلاحياته ربما بدت وصفة للفشل اكثر منها للنجاح. ومن هنا يمكن القول ان تحولاً في المزاج الشعبي العام لصالح المقاومة لا بد سيتصاعد مع التراجع التدريجي لعقدة صدام، ما يعني ان مستنقعاً حقيقياً قد استدرج اليه الاميركيون، في موقف سيكون مدعاة لشماتة اكثرية دول العالم. * كاتب من الاردن.