حاولت الولاياتالمتحدة أن تبرر عدوانها على العراق واحتلالها له حتى تنزع مشروعية المقاومة، رغم أن الحق في المقاومة حق طبيعي لا يرتبط بطبيعة الاحتلال. ولا شك أن كل الحجج التي ساقتها الولاياتالمتحدة لتبرير العدوان والاحتلال غير مقبولة في القانون الدولي. أما الجانب العراقي، فقد لاحظنا أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والشيعة عموماً ما تدعو إلى المقاومة السياسية والسلمية، ويفتون بأن قتل الأميركيين والبريطانيين حرام شرعاً، ومؤدى هذه الفتوى أن قتل العراقيين على أيدي القوات الأميركية والبريطانية حلال شرعاً. وأخطر ما في ذلك أن إشتغال رجال الدين بالسياسة دفعهم إلى استغلال ما لهم وما للدين من مكانة في النفوس للترويج لمواقف سياسية، وهذا ما أربأ بالدين عن أن يتاجر به في هذه الأسواق السياسية، لأنه يسهم في انحطاط مكانة المسلمين. ويفسر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الشيعي موقفه بأن المقاومة العراقية هي فلول النظام السابق، وأن تشجيعها يعني إعادة الساعة إلى الوراء وإعادة النظام السابق الذي فر من البلاد بسببه خمس سكان العراق تقريباً، فضلاً عن أن المقاومة المسلحة تستفز الأميركيين فيزيدون عددهم ويتأبد الاحتلال. والأولى أن يشجع الاحتلال على الوفاء بما وعد به. ويرى بعض المحللين أن هذا الموقف الشيعي الذي يقترب كثيراً من الموقف الأميركي هو من قبيل خطب الود والتقارب، كما قد ينظر إلى هذا الموقف على أنه إنعكاس للموقف الإيراني الذي لا يريد عودة النظام السابق كما لا يريد استفزاز الأميركيين، وقد تكون تلك ورقة تعبر بها إيران عن سلسلة من التنازلات لعلها تهدئ واشنطن وتساعد في ترطيب العلاقات مادامت ورقة العراق واتهام إيران بتحريض العراقيين هو ضمن سلسلة الإتهامات الاميركية. ويلاحظ ان واشنطن تنظر إلى المقاومة على أنها تحدٍ لرسالتها "الخيرة" في العراق ودليل على "جحود" البعض، أو هي من طرف آخر كما قال بريمر نفسه يوم 29/6/2003، دليل على أن صدام لا يزال حياً والنظام القديم بحاجة إلى المزيد من الجهد لاقتلاعه، وهي نفس النظرية الأميركية التي تربط بين عدم العثور على بن لادن والملا عمر وبين تجدد المقاومة الأفغانية. ومادامت المقاومة "رجعية" في النظرية الأميركية فيجب على الشعب العراقي أن يقف ضدها لأنها تعوق الخطط السياسية والاقتصادية الطموحة لخلق عراق جديد. وعلى الموجة نفسها أكد وزير الدفاع الأميركي يوم 28/6/2003 أنه يسعى إلى إنشاء جيش عراقي وطني يتصدى للمقاومة وكذلك حكومة وطنية مسؤولة، وهذا قد يعني أن واشنطن أغرتها تجربة السلطة الوطنية في فلسطين وفق النظرية الإسرائيلية، إذ أعلنت إسرائيل أن السلطة الوطنية لها وظيفة واحدة فشلت فيها، ولذلك ألغت أوسلو لعدم جدواها. وهذه الوظيفة التي أرداتها إسرائيل للسلطة الوطنية هي حماية نفسها من المقاومة الفلسطينية حتى يتأبد الاحتلال وتكفيها السلطة مؤونة التصدي للمقاومة، لعل ذلك يوقع الفصائل والسلطة في حرب أهلية، ولا يزال هذا هو موقفها من وراء تشجيعها لحكومة أبو مازن وطلباتها منه بسحق المقاومة والقضاء عليها، وليس مجرد حثها على وقف العمليات. ولهذا السبب فإن إعلان الهدنة الموقتة المشروطة من جانب الفصائل يوم 29/6/2003 لا يرضي إسرائيل، ولذلك فقد لا يقدر لها النجاح، لأن إسرائيل في ما يبدو تصر على تصفية المنظمات الفلسطينية وشن حملة دولية للقضاء الكامل عليها، وليس لمجرد وقف إطلاق النار معها. كما أعلنت واشنطن ان المقاومة ستعطل إعادة إعمار العراق، وأنه لا تثريب على واشنطن، إن هي بقيت في هذا البلد إلى الأبد، واستغلت ثرواته من دون أن تقدم على إعماره كما وعدت. فتلك ذريعة للتملص من وعودها بالإعمار الإقتصادي والاصلاح السياسي. ولهذا السبب تظهر في العراق تجمعات للمثقفين والعسكريين السابقين التي تعلن موقفاً حازماً من كل هذه القضايا فتشجع المقاومة وتضغط لإنهاء الاحتلال وترك العراق للعراقيين. ويلحق بذلك تلك الفتوى الشهيرة التي أعلنها "مجلس علماء السُنّة" حول إباحة دم اليهود الذين يتحايلون على شراء الأراضي العراقية لتكرار مأساة فلسطين، كما شدد أئمة المساجد الشيعة والسُنّة على دعم المقاومة وانتقاد بريمر ومطالبته بالرحيل. فما هو الموقف الدولي خصوصاً العربي والإسلامي من المقاومة العراقية؟ الحق أن المقاومة ليست غاية في ذاتها، وسواء صورت على أنها صراع عسكري وسياسي بين النظام السابق والولاياتالمتحدة، أو كانت حقاً مقاومة وطنية تدافع عن حق الوطن - مجرداً - في الحرية والإستقلال، فالثابت أن النظام السابق انتهى تماماً وبقي العراق بكل أعراقه وطوائفه وتياراته، وأن المقاومة هي ضد ما آل إليه حال العراق والقلق على مستقبله وفشل سلطات الاحتلال في أن تقدم شيئاً جدياً، فضلاً عن مغالاة هذه السطات في ممارسة صلاحيات غير مشروعة في العراق. ولا شك أن سكوت قرار مجلس الأمن رقم 1483 عن إدانة العدوان الأميركي والاحتلال على غرار ما يفعل المجلس عادة كما هو حال قراريه رقم 242 و 338 في شأن الإحتلال الإسرائيلي، لا يمكن أن يفسر على أنه قبول دولي بمشروعية الاحتلال والغزو واستخدام القوة، لكنه تسليم سياسي بأمر واقع لا يمنع من السماح بنفس القدر بشرعية مقاومته إذا كانت جادة ولمصلحة الشعب ومستقبل العراق. وبالفهم ذاته تؤيد الشعوب العربية وتياراتها الإسلامية والوطنية هذه المقاومة، وتأسف في الوقت نفسه أن الحكومة الأميركية تخاطر بأرواح أبنائها الذين يجب ان توظفهم في مهام تخدم المجتمع الدولي والسلام العالمي، بدلاً من هذا النزيف المتصل في العراقوأفغانستان. وهو نفس المنطق الذي دعا مناضلاً منصفاً مثل نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا لكي يحمل بعنف من جديد يوم 28/6/2003 على غزو العراق واحتلاله وتغيير حكومته بالقوة، مشيراً إلى أنه لن يقابل الرئيس الأميركي خلال زيارته لبلاده احتجاجاً على الموقف الأميركي في العراق. وفي ضوء ذلك نأمل أن يكون قرار واشنطن بإرسال فريق من السياسيين والمفكرين لتقويم الموقف في العراق علامة على إدارك خطورة الموقف لإتخاذ القرار المناسب. ولا يجوز أن نبالغ في تصوير دلالات بعض المواقف التي تمليها ظروف واعتبارات معينة مثل استعداد الرئيس الباكستاني برويز مشرف لإرسال عشرة آلاف جندي باكستاني لمساعدة القوات الأميركية على إخماد المقاومة العراقية إتصالاً بدوره في أفغانستان، أو تصريحات الرئيس اليمني علي عبد الله صالح خلال زيارته لباريس يوم 28/6/2003، ولقائه نظيره الفرنسي شيراك من أنه يعارض المقاومة المسلحة في العراق رغم أن مضيفه الفرنسي يجاهر بإدانة الغزو والإحتلال. وإذا كانت واشنطن ومجلس الأمن يعتبران أن الاحتلال مشروع، فمن المنطقي أن تسعى واشنطن إلى تشكيل قوة دولية مهمتها تأبيد الإحتلال، وتمكين اميركا وإسرائيل من ثروات العراق وشعبه، حتى يكون العراق مختبراً تقرر واشنطن في ضوء نتائجه ما يمكن عمله إزاء المنطقة بعد ذلك. وبالفعل كتب توماس فريدمان في "النيويورك تايمز" يوم 26/6/2003 ينصح الرئيس بوش بأن يستغل ورقة العراق للتعامل مع إيران، وذلك بأن يشجع الشيعة ويساندهم في العراق على إقامة حكومة ديموقراطية خاصة بهم، حتى يكون ذلك سابقة تحتذى في إيران، لأن إثارة الجماهير وتهييج الإصلاحيين ضد المحافظين في إيران لن يفيد في تحقيق الأهداف الأميركية. وأخيراً، فإن نظرة واشنطن إلى المقاومة العراقية على أنها إستمرار للحرب ضد نظام صدام حسين، وأن الإحتلال يهدف إلى تصفية النظام وخدمة الشعب العراقي وجلب الديموقراطية والحياة الكريمة له تعويضاً عن سنوات الظلم والحرمان والقهر، قد أثرت قطعاً على موقف واشنطن من المقاومة الفلسطينية. فأي مقاومة عراقية أو فلسطينية تعد تحدياً للاحتلال وسياساته. وقد ترى واشنطن أن احتلالها للعراق لم تتم إدانته من جانب مجلس الأمن في القرار رقم 1483، بينما أدين الإحتلال الإسرائيلي في القرار رقم 242 لعام 1967، أو ربما ترى واشنطن أن الاحتلال العام 1967 قد أصبح مشروعاً العام 2003 قياساً على اتجاه في الفقه الأميركي الحالي ينادي بقانون دولي جديد، وميثاق جديد للأمم المتحدة يتسق مع العلاقات الدولية بعد نصف قرن من الميثاق القديم. ولكن للأمانة كان الرئيس الأميركي بوش منصفاً عندما قبل خريطة الطريق التي تؤكد على أن الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية احتلال، وإنه يجب أن يرحل وأن تقوم محله دولة مستقلة، فإذا كانت المقاومة الفلسطينية في ظل هذه الأطروحات السياسية إرهاباً في نظر الولاياتالمتحدة، فإن المقاومة العراقية هي الأخرى إرهاب من باب أولى، مادامت إستمراراً لنظام أجمع العالم على عدم الاعتراض على إزالته. وقد حاولت الولاياتالمتحدة أن تبرر موقفها سواء لتبرير الغزو أو للقضاء على المقاومة بأن تربط بين نظام العراق وشبكة القاعدة، ولكن الأدلة المصطنعة لم تسعفها، وحتى لو توافرت الأدلة، فليس ذلك مبرراً لعدوانها. كما أن لجنة مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن المنشأة وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 1373 الصادر في 20/10/2001 أكدت يوم 25/6/2003 على انتفاء أي علاقة بين العراق والقاعدة في الماضي والحاضر. إن المقاومة العراقية والمقاومة الفلسطينية دليل على حيوية الشعبين، وهما حق طبيعي سابق على القانون الوضعي، وأن التشكيك في هذا الحق هو امتهان للحقوق الطبيعية وتسليم بسلامة الاحتلال ومشروعيته، خصوصاً أن احتلال العراق في القرن الحادي والعشرين بعد زوال الاستعمار والاحتلال لهو وصمة عار في جبين إنسان هذا العصر، وردّة حضارية خطيرة، ووصمة في جبين تمثال الحرية وسجل زعيمة العالم الحر. * كاتب مصري.